مسارات في صناعة القرار الإيراني : المقال الثاني

أحمد بن عبد المحسن العساف

ولا تملك المحكمة العليا أي إشراف على محكمة رجال الدين، ويلاحظ أن اختصاصات هذه المحكمة فضفاضة؛ وللقيادة الحق في تحويل أي قضية عليها

  • التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -

ومما في التعديل الذي أجرته لجنة سماها الخميني من عشرين شخصاً فيهم خامنئي ورفسنجاني وموسوي برئاسة آية الله مشكيني إضافة فصل للمجلس الأعلى للأمن القومي، وفصل لإعادة النظر في الدستور من خلال مجلس اسمه مجلس تعديل الدستور، ويقع الدستور المعدل في (177) مادة، انتظمت في أربعة عشر فصلاً، ولم يمس التعديل المبادئ الحاكمة للسياسة الإيرانية، والقائمة على فكر الخميني.

 

ففكرة الحكومة الإسلامية حاضرة، والقلق باد في تصور العلاقة بين القومية الفارسية، والانتماء للمذهب الشيعي، والتناقض ظاهر بين مبدأ الحياد من جهة، وبين مبدأ تصدير الثورة ونصرة المستضعفين من جهة ثانية، فالدستور يدعو للشيء ونقيضه في آن واحد، ومع ذلك فالبعد الدستوري يعد مكوناً أساسياً من مكونات بيئة صنع القرار في إيران، مضافاً لفكر الخميني، ولوازم الالتزام بالمذهبية الشيعية، مع مراعاة مصالح إيران؛ حتى لو خالفت صرامة الالتزام بالمذهب.

 

وعنوان الفصل الثالث صنع القرار في إيران: القوى والمؤسسات، وأشارت المؤلفة أن بعض الدراسات المعتنية بإيران تستخدم مدخل قراءة الدستور لتحليل كيفية صنع القرار، وهو مدخل ناقص لوجود مؤسسات نافذة خارج إطار الدستور كاللجان الثورية والمحاكم الثورية.

 

وتستخدم دراسات أخرى مدخل التمييز بين مؤسسات الدولة ومؤسسات الثورة، أي بين مؤسسات تسيِّر الحياة اليومية وتديرها، ومؤسسات تحمي عقيدة النظام وتروجها، وهو استخدام مضلل لأن هذا التصنيف يعاني من نفس إشكالية التفريق بين الإصلاحيين والراديكاليين، فالدولة والثورة متداخلتان إلى حد بعيد، وقد يتعسر التفريق بين مؤسسات الدولة ومؤسسات الثورة.

 

ولذلك استخدمت د.نيفين تصنيفاً مختلفاً ومدخلاً جديداً، حيث أفادت من قراءة الدستور وتعديلاته، ولاحظت القوى والمؤسسات الفاعلة من خارجه سواء انضوت تحت طابع مؤسسي أو لم يكونوا تحت مظلة رسمية كالطلاب والمثقفين والبازار. وبدأت المؤلفة بتحديد وضع المرشد، ثم السلطات الثلاث، فالمؤسسة العسكرية، وختمت الفصل بالمجتمع المدني المتشعب والنشط جداً.

 

يجعل الدستور الإيراني الإيمان بولاية الفقيه ركيزة أساسية للجمهورية الإسلامية، ويتمتع المرشد بوضع شديد التميز والتمدد؛ لأنه يتدخل في عمل جميع السلطات، حيث تنص المادة رقم(75) على أن السلطات الثلاث تمارس صلاحياتها بإشراف ولي الأمر المطلق. وسردت المادة رقم(110) صلاحيات المرشد وهي إحدى عشرة مسؤولية منها: إعلان الحرب، وقيادة القوات المسلحة، ونصب وعزل شاغلي الوظائف الكبرى الدينية والمدنية والعسكرية، وحل الإشكالات بين السلطات الثلاث، والأمر بالاستفتاء العام، وإقرار تنصيب الرئيس المنتخب وعزله، وأخيراً العفو عن المحكومين بالإعدام أو التخفيف من العقوبات.

 

واشترط الدستور في المرشد العدل والتقوى والعلم بظروف العصر، والقدرة على التدبير مع الكفاءة العلمية اللازمة للإفتاء، ويلاحظ أن التعديلات في دستور 89 منحت المرشد صلاحيات أوسع مما كان في دستور 79، وبالمقابل خفضت من الشروط الواجب توافرها في المرشد، ويبدو أنها مهدت لاختيار آية الله خامنئي لهذا المنصب، وهو الذي لا يتصف بالمرجعية.

 

وعهدت المادة رقم (107) من الدستور إلى مجلس الخبراء بصلاحية اختيار المرشد وعزله، حيث يختار المجلسُ المرشدَ من المراجع المرشحين لهذا المنصب؛ فإن لم يترشح أحد مناسب، فللمجلس تسمية أحد أعضائه مرشداً للجمهورية. ويتكون المجلس من ستة وثمانين عضواً، ومدة عمله ثمان سنوات، وله هيئات ولجان وأمانة عامة، وتمثل فيه كل محافظة بعضو لكل نصف مليون من سكانها، ويضع المجلس إجراءات عمله ويغيرها بنفسه، ويجتمع مرة واحدة في العام دون مزايا مادية لأعضائه، وينتخب أعضاء المجلس من داخل المؤسسة الدينية بعد فرز مجلس الصيانة للمرشحين. ومن أبرز أعماله المصادقة على تعيين منتظري خليفة للخميني، ثم عزله وتعيين خامنئي، وتجديد الثقة بالخامنئي مرة أخرى.

 

وللمرشد “بلاط” مكون من مكتب وموظفين ومستشارين وجهاز مخابرات، ويقدر عدد العاملين في بلاط المرشد بالآلاف. وتحكم فتاواه المعلنة والخفية العمل داخل إيران، والإطار الذي تنتظم فيه العلاقات الدولية للجمهورية، وبعض هذه الفتاوى لا تعلن إلا عند الحاجة لتوظيفها، وتعد هذه المسألة أكبر معضلة واجهت ترشيح الخامنئي للمنصب لأنه لم يبلغ مرتبة الاجتهاد بعد، ولم يصبح آية عظمى، ولولا دعم الخميني والبازار ومجلس الخبراء لما جلس على كرسي المرشد، فضلاً عن التجديد له، علماً أن الخامنئي يحظى بثقة الخميني تقديراً لجهوده في المعارضة والثورة.

 

ثم فصلت المؤلفة الحديث عن السلطة التنفيذية المكونة من الرئيس ونوابه والوزراء، ورئيس الجمهورية هو الرجل الثاني حسب الدستور، لكنه في واقع الحال يتنافس على هذه الصفة مع رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام، ومع رئيس مجلس الشورى، والفيصل في تحديد صاحب المقعد الثاني هو العلاقة مع المرشد، ومدى القرب منه، ولذا ينبغي للدارس ملاحظة تداول هذا الدور من رجل لآخر.

 

ينتخب الرئيس انتخاباً مباشراً من الشعب لمدة أربع سنوات، ولا يجوز انتخابه لأكثر من دورتين متتاليتين، ويحدد الدستور خمسة شروط يجب توافرها في الرئيس، ويتأكد مجلس صيانة الدستور من وجودها في المرشحين، وهي:

 

أن يكون إيراني الأصل والجنسية.

أن يكون قديراً في الإدارة والتدبير.

حسن السيرة.

تتوافر فيه الأمانة والتقوى.

الإيمان بمبادئ الجمهورية والمذهب الرسمي للبلاد.

وللرئيس صلاحيات تنفيذية اعتيادية، والمهم منها لا ينفذ إلا بعد موافقة المرشد، وقد تعاقب على هذا المنصب حتى عام(2000م) خمسة رؤساء مما يدلل على حيوية النظام الإيراني، وهم بني صدر، ورجائي، وخامنئي، ورفسنجاني، وخاتمي، وتوقفت دراسة د.نيفين قبل عهدي نجاد وروحاني، علماً أن بني صدر ورجائي لم يستوفيا مدتهما النظامية، بسبب استقالة الأول، واغتيال الثاني. ولكل رئيس سمة، وأبرزها سمات المثقف المتدين المنفتح في شخص خاتمي؛ ومع ذلك فلم تخرج مواقفه العملية عن دائرة مفاهيم الولي الفقيه!

 

وأما نواب الرئيس، فبعد إلغاء منصب رئيس الوزراء، صار لرئيس الدولة حق التوسع في تعيين نواب ومعاونين له؛ كي يخفف من المسؤوليات التنفيذية الملقاة على عاتقه، ومن هذا الباب تسمية خاتمي لعشرة نواب ومستشارين منهم امرأة واحدة، وقد أفاد من عدم الحاجة لتصويت البرلمان عليهم، مما أتاح له اختيار شخصيات غير مرغوبة لدى الأكثرية البرلمانية، كما أتاحت هذه الحرية له الفرصة كي يعبر عن برنامجه السياسي، ويمنح بعض نوابه فرصة أكبر للترشح على منصب الرئاسة.

 

وفيما يخص الوزراء ركزت الباحثة على وزارتي الخارجية، والمخابرات والأمن؛ لصلتهما الوثيقة بصناعة القرار الإيراني الخارجي. ومن اللافت إلزام وزارة الخارجية بالتعاون مع وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي لترويج الثقافة الدينية في البلدان الأجنبية، ولا عجب حين نسمع عن فرط نشاط ملاحق السفارات الإيرانية؛ حتى أن بعضهم يكاد أن يحكم المدينة التي يعمل فيها؛ مثل الملحق الإيراني في حلب-عجل الله فرجها-.

 

ونشأت وزارة المخابرات والأمن بعد تصاعد نشاط المعارضة، وتخضع للمرشد مباشرة، ويجب أن تكون تحت رئاسة رجل دين، وكان لها نشاط داخلي عميق حتى كان رئيسها ريشهري ركناً في عملية عزل منتظري. وفي الخارج تولى محمد تسخيري التحكم في اختيار الملحقين الثقافيين، ومسؤولي المراكز الإيرانية المنتشرة في الخارج، ومن المفارقات أن تسخيري هذا-إن لم يكن مجرد تشابه أسماء-مسؤول داخل إيران عن ملف نشر التشيع في العالم الإسلامي، ومع ذلك فهو عضو بارز في أحد اتحادات العلماء المسلمين الداعية للتقارب!

 

وهذه الوزارة قوية جداً؛ لاتصالها المباشر بالمرشد، وتنسيقها الدائم مع أقسام المخابرات في الحرس والجيش والأمن، وبسبب قوتها الاقتصادية المستمدة من مشاركة أعضائها في مجالس إدارات الشركات، أو من ممارسة التجارة الخارجية في العواصم الأجنبية؛ ودبي-مع الأسف-مثال واضح لتجارة المخابرات الإيرانية. ونظراً لهذه العوامل قدمت وزارة المخابرات نفسها كحامية للثورة ضد أعدائها أينما كانوا، واعتمدت على التصفية الجسدية، والأعمال الحربية، بعد أن تدرب أفرادها جيداً في روسيا والصين وكوبا، ومع بعض المنظمات الفلسطينية الوطنية واليسارية.

 

وبالنسبة للسلطة التشريعية في إيران؛ فهي منقسمة بين مجلسين، الأول: مجلس الشورى، وعدد أعضائه(270) عضواً، يضاف إليهم عشرون عضواً بعد كل عشر سنوات، ويشترط انتخاب نواب لليهود والزرادشت والنصارى والكلدانيين والآشوريين والأرمن، ولم ينص النظام على العرب والكرد والتركمان والبلوش ولا على أهل السنة، وربما أن السبب يعود لكثرتهم التي تضمن لهم مقاعد دونما نص، وهذا اعتراف غير مباشر بحجمهم السكاني، وقد يكون الإهمال مرده ألا بواكي لهم كاليهود والنصارى!

 

ويلتزم المجلس بعلانية الجلسات إلا في أحوال خاصة، وله الحق في سن القوانين دون معارضة المذهب الشيعي كما تنص المادة رقم (71) من الدستور، وله صلاحيات أخرى تجعل منه مجلساً قوياً مؤثراً، ففي تاريخ المجلس خلال واحد وعشرين عاماً-الفترة التي تسبق تأليف هذا الكتاب- تمكن المجلس من عزل رئيس الجمهورية، وسحب الثقة من وزراء، وفرض اختياراته في بعض التعيينات، وسن قوانين، وحجب مشروعات، وتسجيل مواقفه في القضايا المختلفة، وبالجملة فقوة المجلس تعتمد على موقف المرشد منه، والثقل السياسي لتيار الأغلبية، وعلاقته بشريكه في السلطة التشريعية.

 

وهذا الشريك هو المجلس الثاني المسمى: مجلس صيانة الدستور، ويتكون من إثني عشر عضواً، ستة منهم من الفقهاء العدول الذين يختارهم القائد مباشرة، والستة الآخرون من مختلف التخصصات القانونية، ويرشح هؤلاء الستة رئيس السلطة القضائية، ويوافق عليهم مجلس الشورى، ومدة عمل المجلس ست سنوات، وأهم صلاحياته أن يقرر الفقهاء الستة مدى توافق ما يصادق عليه مجلس الشورى مع أحكام الفقه الشيعي، وبعد ذلك يتأكد الأعضاء جميعهم من دستورية أعمال مجلس الشورى.

 

ومن أعمال مجلس الصيانة المهمة الإشراف على انتخابات مجلس خبراء القيادة، ورئيس الجمهورية، وأعضاء مجلس الشورى الإسلامي، وعلى الاستفتاء الشعبي، ويمارس هذا المجلس صلاحية التدقيق في مناسبة الأسماء المرشحة، ويستبعد من لا يراه ملائماً، وبالتالي تكمن قوة مجلس الصيانة في أنه يختار من الذي يحكم؟ وكيف يحكم؟ ويرأسه حال إعداد هذا الكتاب آية الله جنتي من علماء حوزة قم؛ مع أنه ولده أعدم لانتمائه لتنظيم مجاهدي خلق.

 

ثم تحولت المؤلفة إلى السلطة القضائية، وهي كسابقتيها التنفيذية والتشريعية لم تسلم من تدخلات المرشد؛ وبالتالي فهي ليست مستقلة تماماً، وتنقسم إلى القضاء العام، والقضاء الثوري المختص بكل ما يمس الثورة أو المرشد، والقضاء الخاص ويشمل المحاكم العسكرية، ومحاكم الأسرة، ومحكمة الصحافة، ومحكمة رجال الدين.

 

ولا تملك المحكمة العليا أي إشراف على محكمة رجال الدين، ويلاحظ أن اختصاصات هذه المحكمة فضفاضة؛ وللقيادة الحق في تحويل أي قضية عليها، وهي مستقلة استقلالاً واسعاً، فمكاتب الإدعاء فيها تعين المحقق، وتنفذ الحكم، ويتبعها قوة أمنية خاصة! ولها ميزانية خاصة لا تمول من موازنة الدولة المعلنة، وتتسم مداولاتها بالسرية، كما أنها تقيد المدعى عليهم في اختيار محامين من قوائم لدى المحكمة فقط.

 

وبحثت المؤلفة بعد ذلك ما أسمته مؤسسات عابرة للسلطات، وهي التي تتماس مع السلطات الثلاث في التكوين والمهام، وبالتالي يصعب نسبتها لأي منها بشكل منفرد، وهي مجمع تشخيص مصلحة النظام، ومجلس الأمن القومي الأعلى، ومجلس إعادة النظر في الدستور.

أحمد بن عبد المحسن العساف

مدونة : أحمد بن عبد المحسن العساف