قراءة في كتاب الاجتهاد في الإسلام؛ أصوله- أحكامه- آفاقه
الهيثم زعفان
فلابد لمن تقلد هذا المنصب أن يتصف بحسن الطريقة وسلامة المسلك، ورضا السيرة، وذلك حتى يثق الناس بأقواله، ويقبلوا ما يقوله لهم، حيث أنهم يتلقون منه أموراً هي أعظم شيئاً في نفوسهم
- التصنيفات: قضايا إسلامية -
عرض: الهيثم زعفان
يقع هذا الكتاب الأصولي والذي يحمل عنوان " الاجتهاد في الإسلام؛ أصوله- أحكامه- آفاقه" للدكتورة "نادية شريف العمري" في 276 صفحة من القطع الكبير. حيث توضح فيه الباحثة أن الاجتهاد حركة علمية بناءة لبيان مقومات الشريعة الإسلامية، وطريق من طرق الحفاظ على خلودها وصلاحيتها لكل زمان ومكان، ووسيلة للتعرف على الأحكام الشرعية لما يجد من حوادث وقضايا دائمة الطروء على الحياة مما يرعى خاصية ختم الشرائع بالشريعة الإسلامية الغراء. وهذا هو الذي يوضح سر إتيان نصوصها بالقواعد الكلية، مما يجعلها حية ومرنة وقابلة لتغطية حاجات الناس. وإلى هذا المعنى يشير الشافعي رحمه الله في قوله: " كل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم، أو على سبيل الحق فيه دلالة موجودة، وعليه إذا كان فيه بعينه حكم إتباعه، وإذا لم يكن فيه بعينه طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد". ومن أجل ذلك فإن القرآن الكريم يجعل للعلماء ولأهل الذكر والاستنباط منزلة سامية، ويأمر الناس بالرجوع إليهم فيما يحتاجون إليه، يقول جل وعلا " {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} ".
فأسندت الآية إلى العلماء الاستنباط، وهو الاستخراج، يقال استنبط الفقيه الباطن باجتهاده وفهمه، والذين يستنبطونه هم العلماء، فدلت الآية الكريمة على أن بعض أحكام الحوادث لا يعرف بالنص بل بالاستنباط، وأن الحكم المستنبط يكون حجة على العامي يقلد العلماء فيه.
شروط الاجتهاد
الشروط العامة للمجتهد:
الشرط الأول... الإسلام
وما يتضمن من الإيمان بالله تعالى وصفاته، والإيمان بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وما جاء به من الشرع، فإسلام المجتهد شرط مجمع عليه.
الشرط الثاني والثالث من الشروط العامة... البلوغ والعقل:
فالبلوغ لابد منه لأن غيره لا تمييز له يهتدي به لما يقوله حتى يعتبر قوله، أما العقل فقد اختلف الأصوليون في المراد بالعقل، فمنهم من قال: إنه الملكة الراسخة في النفس التي يدرك بها الأشياء المعلومة، ومنهم من قال: العقل هو نفس العلم، ومنهم من قال: إن العقل هو العلم الضروري فقط الذي لا ينفك عن الإنسان، كعلمه بوجود نفسه.
الشروط التأهيلية للمجتهد:
الشرط الأول.. معرفة كتاب الله تبارك وتعالى:
هذا الشرط يعد من أهم الشروط الواجب توافرها في المجتهد فالقرآن هو عمدة الأحكام والمصدر الرئيسي للاجتهاد، ولذلك لابد من معرفة معانيه اللغوية، والشرعية، والعلل التي نيطت بها الأحكام، والغايات التي قصد الشارع تحقيقها من جلب المصالح للعباد، ودرء المفاسد عنهم.
كما يجب للمجتهد أن يكون ملماً بالعلوم التي تتعلق بكتاب الله تبارك وتعالى، كمعرفة أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والمكي والمدني، والعام والخاص، والمطلق، والمحكم والمتشابه.
وقد ذكر فريق من علماء الأصول أن حفظ القرآن الكريم شرط للاجتهاد، وعلل هذا بأن الحافظ أضبط لمعانيه من الناظر فيه، وذهب الفريق الآخر إلى أن حفظه غير شرط، ويجوز الاقتصار على الطلب والنظر فيه، وقيل: يجب أن يحفظ ما اختص بالأحكام دون ما سواه.
الشرط الثاني.. معرفة السنة النبوية:
والسنة النبوية إما قولية وإما فعلية وإما تقريرية، ولابد لمن يتصدى للاجتهاد من معرفة هذه الأنواع الثلاثة، بما تتضمن من أحكام كلية ومقاصد عامة ومن أحكام تفصيلية، جزئية، خاصة. والعلم بالسنة النبوية يشمل العلم بمعاني مفرداتها وتراكيبها، ودلالات الكلام على المعاني، مع معرفة علم مصطلح الحديث، ورجال الحديث، لمعرفة مدى قوة السند ومرتبته في القوة والضعف، وترجيح ما هو أقوى من غيره، ومعرفة الناسخ والمنسوخ. ولم يخالف أحد من علماء الأصول بأنه يشترط معرفة الأحاديث المتعلقة بالأحكام دون سواها، وقد وقع الخلاف في أقوالهم في تحديد عدد أحاديث الأحكام الصحيحة.
الشرط الثالث... معرفة اللغة العربية:
وذلك بكل ما يتضمنه هذا الشرط من نحو -فالحكم يتبع الإعراب-، وصرف ومعان للمفردات وبلاغة، وبيان، بحيث يميز المجتهد بين المعنى الظاهر والخفي، وبين الحقيقة والكناية، والاشتراك، والشبه، حتى يتمكن من العلم بما تدل عليه كل كلمة وبطريق دلالتها عبارة أو إشارة أو فحوى أو غير ذلك.
وفي هذا الصدد يقول الشافعي -رحمه الله:- " إن الله خاطب بكتابه العرب بلسانها، على ما تعرف من معانيها، كان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها، وأن يخاطب بالعام الظاهر مراداً به العام الظاهر، وعاماً ظاهراً يراد به العام، ويدخله الخاص، ويستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه".
الشرط الرابع... العلم بأصول الفقه:
لابد للمجتهد من معرفة علم (أصول الفقه) أي القواعد العامة لأصول الفقه، حتى يتعرف على حقيقة الحكم والأدلة، وشروطها، ووجوه الدلالة، ووجوه الترجيح بين الأدلة عند التعارض، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، وشروط النسخ، وكيفية استثمار الأحكام منها، ومعرفة القياس وشروطه وأركانه، وأنواعه والبحث عن علل الأحكام وتتبعها في مواطنها من النصوص، وغير ذلك من المبادئ التي يحتاج إليها المجتهد لاستنباط الأحكام.
الشرط الخامس... معرفة مواضع الإجماع:
إن العلم بمواضع الإجماع، وبالأحكام التي ثبتت بهذا الأصل، ضرورة لازمة لمن يتصدى للاجتهاد، حتى لا يجتهد في مسألة قد وقع الإجماع على حكمها، ولأنه لا اجتهاد فيما أجمع على حكمه، ولم يخالف في هذا الشرط أحد من العلماء، ولكن اختلفوا في المقدار الواجب معرفته من مواضع الإجماع.
الشروط التكميلية للمجتهد:
الشرط الأول.... معرفة البراءة الأصلية
هناك من الأصوليين من اشترط للمجتهد معرفة البراءة الأصلية، أي أن يعرف المجتهد أن الأصل البراءة، ولا حكم إلا بالشرع، فليس هناك واجب إلا ما أوجبه الشرع، وليس ثمة محظور إلا بالدليل.
الشرط الثاني....فهم مقاصد الشريعة:
اعتبر الإمام الشاطبي- رحمه الله- فهم مقاصد الشريعة شرطاً أولياً، بل سبباً للاجتهاد، أي لابد من أن يعرف المتصدي للاجتهاد تلك المقاصد على كمالها في كل مسألة من مسائل الشريعة، وفي كل باب من أبوابها، وأنها مبنية على اعتبار مصالح العباد، وأن مصالحهم من حيث وضع الشارع لها على ثلاث مراتب: ضروريات، وحاجيات، وتحسينيات، ثم ما هو مكمل لهذه المراتب، فقال: "إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: (أحدهما) فهم مقاصد الشريعة على كمالها. و( الثاني) التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها".
الشرط الثالث... معرفة القواعد الكلية:
زاد الإمام ابن السبكي في الشروط التكميلية للمجتهد بشرط الإحاطة بمعظم قواعد الشرع وممارستها بحيث يكتسب المجتهد قوة يفهم بها مقصود الشارع، وقيل إن مراده بالقواعد الكلية: القواعد الكلية الفقهية.
الشرط الرابع.... معرفة مواضع الخلاف:
زاد بعض الأصوليين شرط معرفة مواضع الخلاف فمن كان بصيراً بمواضع الخلاف، كان جديراً بأن يتبين له الحق في كل نازلة تعرض له. ولهذا جعل السلف الصالح معرفة الاختلاف علماً هاماً، فعن قتادة- رحمه الله- قال: " من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه". وعلم الخلاف يختلف عن علم الجدل، وهو علم يعرف به كيفية إيراد الحجج الشرعية، ودفع الشبه بإيراد البراهين القطعية.
الشرط الخامس.... معرفة العرف الجاري:
العلم بالعرف الجاري في البلاد التي يقطن فيها المجتهد شرط للاجتهاد، ذلك لأن ما تعارف عليه الناس واستقر في نفوسهم وتلقته طباعهم، وشاع استعماله فيما بينهم، وتكرر لديهم، وأثر في أقوالهم وأفعالهم، كان له كبير الأثر في الاتجاه العام للبلد.
وقد وضع الأصوليون كثيراً من القواعد الأصولية استناداً على العرف كقولهم: "العادة محكمة"، و"المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً".
الشرط السادس... حسن الطريقة وسلامة المسلك، ورضا السيرة:
فلابد لمن تقلد هذا المنصب أن يتصف بحسن الطريقة وسلامة المسلك، ورضا السيرة، وذلك حتى يثق الناس بأقواله، ويقبلوا ما يقوله لهم، حيث أنهم يتلقون منه أموراً هي أعظم شيئاً في نفوسهم، ومن المعلوم أنهم لا يتلقون ذلك إلا ممن تحروا فيه هذه الأوصاف، وأما من لا يتحلى بها، فهم يعرضون عنه، مهما كانت درجته الكبرى في الناحية العلمية.
ذكرت الباحثة بعد ذلك جملة من الشروط والسمات الواجب توافرها في المجتهد مثل: الورع، والعفة عن كل ما يخدش الكرامة، والحرص على استطابة المأكل، ورصانة الفكر وجودة الملاحظة والتأني، والتثبت فيما يجتهد فيه، وأخذ الحيطة فيما يطلق من أقول. وكذلك الشعور بالافتقار إلى الله سبحانه في إلهام الصواب والدعاء بما يناسب. وأيضاً ثقة المجتهد بنفسه وشهادة الناس له بالأهلية فهذا شرط يورثه اليقين بصلاحيته.
كما أكد الكتاب على موافقة عمل المجتهد لمقتضى قوله وعمله، حيث نبه إلى ذلك الأصوليون بكلام مجمل وفصل الكلام فيه الإمام الشاطبي- رحمه الله-.
الاجتهاد الجماعي
لعل أبرز الوسائل التي تبرز في محيط الشريعة الإسلامية- في العصر الحالي- الاجتهاد الجماعي، ذلك أن المؤتمرات والاجتماعات الإسلامية قد انتشرت وتوسعت بما فيه الكفاية. وقد جاء في قرار المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة ما يلي: " إن الكتاب الكريم والسنة النبوية هما المصدران الأساسيان للأحكام الشرعية، وإن الاجتهاد لاستنباط الأحكام منهما حق لكل من استكمل شروط الاجتهاد المقررة، وكان اجتهاده في محل الاجتهاد. وإن السبيل لمراعاة المصالح ومواجهة الحوادث المتجددة، هو أن يتخير من أحكام المذاهب الفقهية ما يفي بذلك، فإن لم يكن في أحكامها ما يفي به كان الاجتهاد الجماعي المذهبي، فإن لم يف كان الاجتهاد الجماعي المطلق. وينظم مجمع البحوث الإسلامية وسائل الوصول إلى الاجتهاد الجماعي بنوعيه ليؤخذ به عند الحاجة".
وقد أشارت الباحثة إلى أنه قد تصدى للكتابة عن تنظيم الاجتهاد الجماعي كثير من الكتاب المحدثين الذين تهمهم القضايا الإسلامية وشئون المسلمين، وتتمثل خلاصة أبحاثهم في الآتي:
أولاً... أن يكون اختيارهم من أهل الإيمان والتقوى والعلم والصلاح، مع العناية والدقة في اختيارهم ممن تحققت فيهم أهلية الاجتهاد، بعد التحري والاحتياط.
ثانياً.... أن يكون بجانب هؤلاء مستشارون وخبراء في كل علوم الحياة وفنونها، للرجوع إليهم في حدود اختصاصهم إذا اقتضى الأمر ذلك، والله سبحانه يقول: " {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} "
ثالثاً... أن يؤخذ عند اختلاف آراء المجتهدين برأي الأكثرية فإنه أقرب إلى الصواب.
رابعاً... أن يأمر ولي الأمر بتنفيذ هذا الرأي في المسائل الاجتماعية العامة حتى تكون له الصفة الملزمة.
فبقدر ما تجد الأمة الإسلامية وتخلص في هذا المجال- مجال الاجتهاد بأصوله وأحكامه وآفاقه- تصل إلى أطيب الثمرات، وأحسنها ديناً ودنيا، وبقدر ما تفرط أو تزيف يكون بعدها عن الحق والخير، وانحرافها عن شريعة الإسلام، ولعل هذه الصورة العملية هي التي أمر الله بها في قوله سبحانه " {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}
وفقكم الله وسدد خطاكم
إخوانكم في
مركز الاستقامة للدراسات الاستراتيجية