الإسلام بين الثيوقراطية والعلمانية
أحمد السعيد
فما بين منظور سياسي أكل الدهر عليه وشرب متمثلاً في الثيوقراطية والدولة الدينية، نظام أصابه الجمود والتكلس، وما بين نظام عصري حديث ينفلت من كل تشريع إلهي ويترك الأمر لأهواء وخيارات المجتمع متمثلاً في العلمانية والديمقراطية الغربية
ما بين الثيوقراطية والعلمانية هناك منطقة وسط تسمى الإسلام، فالثيوقراطية والعلمانية على طرفي نقيض، ويأتي الإسلام بينهما كمنظور مثالي متزن مستقل بذاته.
فعلى صعيد النظام السياسي فإن الثيوقراطية تنظر إلى نظام الحكم على أنه نظام سماوي، أتى من عند الله، وعليه فإن رجال الدين هم الذين يجب أن يكونوا على رأس هذا النظام الحاكم، ومن هنا تتبلور ديكتاتورية متدثرة برداء الدين، إذ يصبح الحاكم بمثابة ظل الله على الأرض، فما هو محلول في الأرض محلول في السماء، وما هو معقود في الأرض معقود في السماء، وهنا يتكرس نظام حكم ديكتاتوري لا مجال فيه للمعارضة أو للرأي المخالف.
أما العلمانية فهي بمثابة رد الفعل على الدولة الثيوقراطية، فهي على النقيض تماماً من الدولة الثيوقراطية، فإذا كانت الثيوقراطية ترى أن نظام الحكم نظام سماوي لا مجال فيه للاجتهاد أو التطوير البشري، فإن العلمانية ترى أنه لا مكان للإله في مجال الحكم، وأن نظام الحكم هو نظام أرضي بحت لا مجال فيه للتشريعات الإلهية، وعليه فإن العلمانية لا تعترف بالتشريعات الإلهية وتضرب بها عرض الحائط، ومن هنا تأتي فوضى التشريعات وفقاً لأهواء وخيارات المجتمع، فلا مجال لضوابط أخلاقية تحكم المجتمع، ولا مجال لتشريعات إلهية منزلة تضبط حركة المجتمع وإيقاعه، مما يؤدي إلى حدوث فوضى مجتمعية تودي بالمجتمع إلى حافة الهاوية.
وما بين هذين النقيضين يأتي الإسلام كمنظور سياسي مستقل ( وليس كنظام سياسي)، فالحاكم هو مختار من الأمة فلا قداسة له، ومن حق الأمة عليه أن تقومه إذا أخطأ، كما قال الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه ( إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني ) فالإسلام هنا يختلف عن الثيوقراطية التي تؤله طبقة من البشر بدعوى أنها الوسيط بين بقية البشر والإله، وفي ذات الوقت فإن هناك تشريعات إلهية تضبط حركة المجتمع وجب تطبيقها، حتى لا تحدث فوضى مجتمعية، فالحدود ما هي إلا عقوبات رادعة تهدف إلى حماية المجتمع من الإنحلال الأخلاقي، فالقدسية هنا لله وتشريعاته المطلقة وحدها، وفي إطار تلك التشريعات المطلقة يكمن الإجتهاد البشري المسموح به دون المساس بحدود الله، فالإسلام قد وضع مبادئ عامة تكون أساساً لنظام الحكم مثل الشورى والعدل، ووضع أيضاً تشريعات تضبط حركة المجتمع، ولكنه في نفس الوقت قد أعطى مساحة كبيرة للاجتهاد والتطوير البشري، فعلى سبيل المثال فإن الإسلام لم يضع آلية محددة للشورى، بل وضعها كمبدأ عام وترك كيفية تطبيقه للإجتهاد البشري، وهذا ما جعل آلية الحكم بالشورى تختلف من خليفة لآخر( في عصر الخلفاء الراشدين).
هو الإسلام المنطقة الوسطى والأكثر اتزاناً بين المتناقضات إذن، فما بين منظور سياسي أكل الدهر عليه وشرب متمثلاً في الثيوقراطية والدولة الدينية، نظام أصابه الجمود والتكلس، وما بين نظام عصري حديث ينفلت من كل تشريع إلهي ويترك الأمر لأهواء وخيارات المجتمع متمثلاً في العلمانية والديمقراطية الغربية، يأتي الإسلام الذي يقدس تشريعات الله، ويثمن الاجتهاد البشري في إطار الثوابت والأصول الكلية، ويساوي بين البشر الحاكم منهم والمحكوم، ويسمح بمعارضة الحاكم ومراجعته إذا أخطأ، فلا قدسية لأحد في منظور الإسلام إلا لله وتشريعاته العادلة.