كتابات عن الاستبداد والمستبدين
خالد سعد النجار
وبعد كل هذا الإبداع الكواكبي، هل يمكن أن يقال أن كاتبنا الكواكبي سابق عصره؟
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
{بسم الله الرحمن الرحيم}
«طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» .. كتاب رائد في مجاله، خطه عبد الرحمن الكواكبي في نهايات القرن التاسع عشر إبان اضمحلال الدولة العثمانية، شرح الكواكبي الاستبداد تشريحا دقيقا دون مواربة ولا ألفاظ مجملة منمقة، مما كلفه الكثير، ولكنها لذة الحرية التي تتضاءل أمامها كل الخطوب
يقول الكواكبي:
** إن خير ما يستدل به على درجة استبداد الحكومات هو تغاليها في شنآن وفخامة القصور وعظمة الحفلات ومراسيم التشريفات وعلائم الأبهة ونحو ذلك من التمويهات التي يسترهب بها الملوك رعاياهم عوضا عن العقل والمفاداة، وهذه التمويهات يلجأ إليها المستبد كما يلجأ قليل العز للتكبر، وقليل العلم للتصوف، وقليل الصدق لليمين، وقليل المال لزينة اللباس.
** الاستبداد والعلم ضدان متغالبان، فكل إرادة مستبدة تسعى جهدها في إطفاء نور العلم، وحصر الرعية في حالك الجهل، والعلماء الحكماء الذين ينبتون أحيانا في مضايق صخور الاستبداد يسعون جهدهم في تنوير أفكار الناس، والغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم وينكلون بهم. فالسعيد منهم من يتمكن من مهاجرة دياره، وهذا سبب أن كل الأنبياء العظام عليهم الصلاة والسلام وأكثر العلماء الأعلام والأدباء النبلاء تقلبوا في البلاد وماتوا غرباء
** إن أخوف ما يخافه المستبدون الغربيون من العلم أن يعرف الناس حقيقة أن الحرية أفضل من الحياة، وأن يعفوا النفس وعزها، والشرف وعظمته، والحقوق وكيف تحفظ، والظلم وكيف يرفع، والإنسانية وما هي وظائفها، وما هي لذاتها.
أما المستبدون الشرقيون فأفئدتهم هواء، ترتجف من صولة العلم، وكأن العلم نار وأجسامهم من بارود. المستبدون يخافون من العلم حتى من علم الناس معنى كلمة «لا إله إلا الله» ولماذا كانت أفضل الذكر؟ ولماذا بني عليها الإسلام؟ بني الإسلام على لا إله إلا الله، ومعنى ذلك أنه لا يعبد حقا سواه أي سوى الصانع الأعظم، ومعنى العبادة الخضوع ومنها لفظ العبد، فيكون معنى لا إله إلا الله «لا يستحق الخضوع لغير الله»
والحاصل أنه ما انتشر نور العلم في أمة قط إلا وتكسرت فيها قيود الأسر، وساء مصير المستبدين من رؤساء سياسة أو رؤساء دين.
** للاستبداد أثرا سيئا في كل واد
** التمجد (حاشية المستبد) هو أن ينال المرء جذوة نار من جهنم كبرياء المستبد ليحرق بها شرف المساواة في الإنسانية .. وبعبارة أوضح: هو أن يصير الإنسان مستبدا صغيرا في كنف المستبد الأعظم.
وهكذا يكون المتمجدون أعداء للعدل أنصار للجور، لا دين ولا وجدان ولا شرف ولا رحمة، وهذا ما يقصده المستبد من إيجادهم والإكثار منهم ليتمكن بواسطتهم من أن يغرر الأمة على إضرار نفسها تحت اسم منفعتها
المستبد يتخذ المتمجدين سماسرة بتغرير الأمة باسم خدمة الدين، أو حب الوطن، أو توسيع المملكة، او تحصيل منافع عامة، أو مسئولية الدولة، أو الدفاع عن الاستقلال. والحقيقة أن كل هذه الدواعي الفخيمة العنوان في الأسماع والأذهان ما هي إلا تخييل وإيهام يقصد بها رجال الحكومة نهييج الأمة وتضليلها، حتى لا يتسنى منها الدفاع عن الاستقلال، لأنه ما الفرق أمة مأسورة بزيد أن يأسرها عمرو؟ وما مثلها إلا الدابة التي لا يرحمها راكب مطمئن، مالكا كان أو غاصبا.
المستبد لا يستغني عن أن يستمجد بعض أفراد من ضعاف القلوب الذين هم كبقر الجنة لا ينطحون ولا يرمحون، يتخذهم كنموذج البائع الغشاش، على أنه لا يستعملهم في شأن من مهامه فيكونون لديه كمصحف في خمارة أو سبحة في يد زنديق. وربما لا يستخدم بعضهم في بعض الشئون تغليطا لأذهان العامة في أنه لا يتعمد استخدام الأراذل والأسافل فقط، ولهذا يقال: «دولة الاستبداد دولة بله وأوغاد»
** ومن أكبر مضار الأصلاء (الأشراف والوجهاء) أنهم ينهمكون في أثناء المغالبة على إظهار الأبهة والعظمة، يسترهبون أعين الناس ويسحرون عقولهم ويتكبرون عليهم. ثم إذا غلب غالبهم واستبد بالأمر لا يتركها الباقون لألفتهم لذتها ولمضاهاة المستبد في نظر الناس. والمستبد نفسه لا يحملهم على تركها بل يدر عليهم المال ويعينهم عليها ويعطيهم الألقاب والرتب وشيئا من النفوذ والتسلط على الناس ليتلهوا بذلك عن مقاومة استبداده، ولأجل أن يألفوها مديدا فتفسد أخلاقهم فينفر منهم الناس ولا يبقى لهم ملجأ غير بابه فيصيرون أعوانا له بعد أن كانوا أضدادا
ويستعمل المستبد أيضا مع الأصلاء سياسة الشد والإرخاء، والمنع والإعطاء، والالتفات والإغضاء، كي لا يبطروا، وسياسة إلقاء الفساد وإثارة الشحناء فيما بينهم، كي لا يتفقوا عليه. وتارة يعاقب عقابا شديدا باسم العدالة، إرضاء للعوام، وأخرى يقرنهم بأفراد كانوا يقبلون أذيالهم استكبارا. فيجعلهم سادة عليهم يفركون آذانهم استحقارا، يقصد بذلك كسر شوكتهم أمام الناس وعصر أنوفهم أمام عظمته. والحاصل أن المستبد يذلل الأصلاء بكل وسيلة حتى يجعلهم مترامين دائما بين رجليه كي يتخذهم لجاما لتذليل الرعية. ويستعمل هذه السياسة عينها مع العلماء ورؤساء الأديان الذين متى شم من أحدهم رائحة الغرور بعقله أو علمه ينكل به أو يستبدل به الأحمق الجاهل، إيقاظا له ولأمثاله من كل ظان من أن إرادة الظلم محتاجة إلى شيء من العقل أو الاقتدار فوق مشيئة المستبد. وبهذه السياسة ونحوها يخلو الجو فيعصف وينسف ويتصرف في الرعية كريش يقلبه الصرصر في جو محرق.
وبعد كل هذا الإبداع الكواكبي، هل يمكن أن يقال أن كاتبنا الكواكبي سابق عصره؟
في الواقع: لا أعتقد هذا! ذلك لأن الاستبداد لا عصر له ولا وطن .. الاستبداد بمعالمه ومكامنه ومظاهره هو الاستبداد، تتبدل الوجوه والشخوص ولا تتبدل الأفكار والثوابت والسياسات
فاستبداد فرعون لا يختلف عن استبداد نيرون ولا استبداد أصحاب المعالي والفخامة والسمو
الكواكبي تفرد بواقعيته وصراحته وجرأته، وبدلا من أن يسبق عصره سبق أقرانه