المواد فوق الدستورية

محمد بن شاكر الشريف

بعد نجاح الثورة المصرية انفتح الباب أمام كل القوى السياسية للمشاركة
في تكوين وصياغة النظام السياسي، وقد بدا واضحاً أمام أغلب القوى
السياسية أن التيار الإسلامي الذي ظلّ مغيباً عن الساحة السياسية أكثر
من ستة عقود سيكون بكل أطيافه أكبر فائز في الانتخابات

  • التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -


مقدمة

بعد نجاح الثورة المصرية انفتح الباب أمام كل القوى السياسية للمشاركة في تكوين وصياغة النظام السياسي، وقد بدا واضحاً أمام أغلب القوى السياسية أن التيار الإسلامي الذي ظلّ مغيباً عن الساحة السياسية أكثر من ستة عقود سيكون بكل أطيافه أكبر فائز في الانتخابات المقبلة والتي يخرج من رحمها الجمعية التأسيسية أو اللجنة التي يعهد إليها بصياغة الدستور حسب الإعلان الدستوري، ولم يخف كثير من العلمانيين والليبراليين تخوفهم من أن يعكس الدستور حال غلبة التيار الإسلامي مما يمكن أن يرسخ المواد التي تحافظ على الصبغة الإسلامية للمجتمع المصري والتي يمكن أن يمتد أثرها إلى أقطار أخرى مما يضيق على الأفكار والتوجهات العلمانية والليبرالية، لذا فقد سعت كل تلك التيارات على اختلاف مسمياتها لإجهاض تأثير تفوق التيار الإسلامي وغلبته على ما عداه من القوى السياسية، وبدلاً من أن تتجه همة تلك القوى للبناء الداخلي لهياكلها وتنظيم صفوفها وتدعيم رؤاها في محاولة جذب الشارع المصري لاختياراتها عمدت إلى أسلوب كانت تنكره دوماً وهو محاولة الالتفاف على إرادة الشعب، لكن يبدو أن الأمر إذا تعلّق بالإسلام فإنه يجوز عندهم ارتكاب جميع الموبقات السياسية في سبيل منعه من التأثير في الحياة السياسية، كما أنزلت هذه القوى الشعب منزلة القاصر الذي لا يصلح لتدبير شأنه وفق ما هو خير له، فدعت تلك القوى إلى ما أسموه الدستور أولاً أي وضع الدستور قبل إجراء أية انتخابات وهو ما يعني تغييب الإرادة الشعبية عن صناعة أخطر شيء في الحياة السياسية، وحتى لا يكون لثقل الإسلاميين تأثير على صياغة مواد الدستور، ولما كان مطلب الدستور أولاً مناقضا للإرادة الشعبية بالأغلبية المطلقة التي ظهرت في الاستفتاء على تعديل الدستور، كما ظهرت المعارضة الشديدة من الإسلاميين لتجاوز الإرادة الشعبية ومخالفة نصوص الإعلان الدستوري فقد ظهر من القوم تخليهم عن ذلك المطلب ولو ظاهرياً، لكن بقي الهدف كما هو وهو الوصاية منهم على الشعب وحرمان الإسلاميين من تأثيرهم على صياغة الدستور،فابتدعوا مطلباً جديداً يمكن أن يحققوا به الهدف نفسه ولكن بأسلوب مغاير وهو الحديث عما سموه بالمواد فوق الدستورية، فما المواد فوق الدستورية؟


المواد فوق الدستورية: مصطلح ابتدع حديثاً معناه أن هناك مواد لها صفة الدستورية تكون أعلى رتبة ومنزلة من الدستور نفسه بمعنى أنه لا يجوز ولا يصح أن تكون هناك مواد في الدستور تخالفها، وتكون لهذه المواد صفة الإطلاق والدوام والسمو، فتكون بذلك محصنة ضد الإلغاء أو التعديل أو مخالفتها ولو بنصوص دستورية، أو أنه تكون هناك وثيقة تتضمن مبادئ أساسية تجب مراعاتها عند وضع الدستور، بل يجب على واضعي الدستور الالتزام بها وعدم المساس بها أو الحياد عنها.

تعريف الدستور: الدستور كلمة غير عربية ويراد منها القاعدة أو الأساس، وتخصصت هذه الكلمة عندما استخدمت في المجال السياسي فصارت يراد منها القاعدة أو الأساس الذي يقام عليه النظام السياسي، والدستور مجموعة القواعد الأساسية التي تبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها ومدى سلطتها إزاء الأفراد فهو يشمل مجموعة المبادئ الأساسية المنظمة لسلطات الدولة والمبينة لحقوق كل من الحكام والمحكومين فيها، وكذلك القواعد التي تنظم العلاقات بين مختلف سلطاتها العامة، ويتبين من ذلك أن الدستور يعالج عدداً من القضايا التي من أهمها: القواعد التي تنظم عمل سلطات الدولة الثلاث, من حيث إنشائها وصلاحياتها وطرق ممارستها لهذه الصلاحيات وعلاقة هذه السلطات ببعض والرقابة عليها، كما تعالج المسائل المتعلقة بحريات الشعب وحقوقه الأساس وكيفية حمايتها والوسائل والآليات التي تكفل هذه الحماية.


كيفية صدور الدستور: هناك في الواقع والتاريخ عدة صور لصدور الدستور، ومن أكثر الصور تمكين اللإرادة الشعبية واعترافاً بحق الشعب في إدارته لنفسه من غير أن يخضع للوصاية التي تفرضها بعض الاتجاهات أو الحكومات صورة الجمعية التأسيسية التي تقوم بصياغة الدستور وهي في الواقع لها صورتان الجمعية التأسيسية المنتخبة من قبل الشعب فتكون هذه الجمعية ممثلة للشعب بانتخابه لها فتصوغ هذه الجمعية المنتخبة الدستور الذي يعبر عن ثوابت المجتمع وطموحاته والطرق والآليات لتحقيق ذلك والمحافظة عليه، ويصبح الدستور نافذاً وسارياً بمجرد موافقة الجمعية التأسيسية المنتخبة عليه، والصورة الثانية أن يضع الدستور جمعية تأسيسية مختارة -ليست منتخبة- ولا يصبح الدستور نافذاً بعد موافقة الجمعية التأسيسية المختارة عليه إلا بعد استفتاء الشعب وموافقته عليه، ولكل صورة من هاتين الصورتين مميزات وعيوب، والصورة الأولى أكثر تمثيلاً للإرادة الشعبية بينما الصورة الثانية -إذا صلحت النوايا- أقدر على اختيار أناس أكثر كفاءة لصياغة الدستور .

منزلة الدستور: يعد الدستور أسمى وثيقة قانونية في الدولة ولذلك ينظر إليه على أنه أبو القوانين أو قانون القوانين، وسمو الدستور يقتضى ألا تصاغ أية قوانين في أية ناحية في المجتمع تخالف الدستور ومخالفة القانون للدستور تسمه بالبطلان، فمنزلة الدستور في الأنظمة السياسية الوضعية تناظر منزلة الكتاب والسنة لدى المسلمين، وذلك نابع من كون الدستور مصاغ عن طريق صاحب الحق الأصيل وهو الشعب.


ما فوق الدستور: إذا علمنا أن الدستور -في أكثر صوره تمثيلاً للإرادة الشعبية واعترافا بها- إنما يصوغه الشعب سواء عن طريق جمعية تأسيسية منتخبة أو جمعية تأسيسية مختارة، يصبح معنى ذلك أن الذي يصوغ المبادئ فوق الدستورية ينبغي أن يكون فوق الشعب، أو يصاغ وفق قانون أو تشريع من هو فوق الشعب، ولا يتحقق هذا إلا في الله الواحد القهار أو وفق شرعه المقرر في كتابه أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أما أن يضع هذه المواد فوق الدستورية طائفة من البشر أياً كانت إمكاناتهم وقدراتهم ومنزلتهم فهذا يعني تمييز طائفة على عموم الشعب حيث تعلو إرادة هذه الطائفة على إرادة الشعب كله وهذا مناقض لأيسر قواعد الديمقراطية التي يتغنى بها كثير ممن يطالبون بها، فضلاً عن مخالفته لكرامة الشعوب وعزتها، وإذا علمنا أن المواد الدستورية تتميز بالإطلاق والسمو والدوام فمن باب أولى المواد فوق الدستورية تتميز بذلك، وهذا يعني أن من يضعون هذه المواد غير القابلة للإلغاء أو التعديل يحكمون الشعب حتى وهم موتى تحت التراب قد أكل الدود أجسادهم وهذا غاية في الطغيان، حيث يمثل أكبر مهانة للشعوب، وفي الوقت نفسه يعطي هذه الطائفةمكانة لا تليق إلا برب العالمين لأنه يعطي المواد فوق الدستورية الصلاح العام الذي يشمل الزمان والمكان وهذا لا يكون إلا فيما شرعه الله تعالى، وإن قبلت هذه الفكرة فيقال: ليس هناك أي معيار حقيقي يمكن أن يستند إليه في تحديد ما فوق الدستور سوى المعيار الشرعي لأن الشريعة بحق فوق الدستور وفوق البشر جميعا، لكن الغريب أن الذين يريدون جعل أهوائهم وآرائهم ملزمة للأجيال الحالية واللاحقة (موادا فوق دستورية) لا يملكون حيالها غير التسليم والانقياد يأبون أشد الإباء أن تكون المادة الثانية في دستور 71 وفي الإعلان الدستوري 2011 والتي تنص على أن "الإسلام دين الدولة ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"من المواد فوق الدستورية، أي أنه يمكن إلغاؤها أو تعديلها، مع أنها أحق مادة في الدستور بوصف مادة فوق دستورية.


ولا يصحح عوار هذه الدعوى أن يقال إن هذه المواد فوق الدستورية لا تعتمد إلا بعد الاستفتاء عليها، لأنه لا أحد يملك أن يعطي جيلاً معيناً من أجيال الأمة حق الوصاية على الأجيال اللاحقة.

والمواد التي يقال عنها إنها فوق الدستورية تؤسس لقيام الثورات في البلدان حيث لا يكون هناك طريق لتعديل هذه المواد أو إلغائها إلا عن طريق الثورة التي تقوم بإلغاء الدستور القائم ووضع دستور جديد بدلاً منه، فيكون وجود هذه المواد هو البذرة لعدم الاستقرار في المجتمع.

 

المصدر: مجلة البيان