تأملات في الصيام
سوزان بنت مصطفى بخيت
يقول ابن القيم رحمه الله في تعريف التقوى: "حقيقتها العمل بطاعة الله إيماناً واحتساباً أمراً ونهياً،
فيفعل ما أمر الله به إيماناً بالآمر وتصديقاً بوعده ،
ويترك ما نهى الله عنه إيماناً بالناهي وخوفاً من وعيده"
- التصنيفات: ملفات شهر رمضان -
حينما كنا صغارا
وكلما سألنا لماذا نصوم؟
كان الجواب دوما: حتى نشعر بما يعاني به الفقراء والمساكين.
وقليل منهم من كان يخبر صغاره أننا نصوم طاعة لله عز وجل وطلبا لمرضاه.
لكن هذا الجواب لم يكن محفزا ولا شافيا، خاصة لمن نشأ في بيئة لم تتربى على حلاوة الإيمان ولذة القرب من الله.
ولم تكن تلك الأسباب كافية ليمتنع بعضنا عن الطعام والشراب،
لذلك كانوا يذهبون خلسة في مكان بعيد ليأكلوا غير مبالين بما قيل لهم عن أهمية الاحساس بالفقراء.
ثم كبرنا واستمرت تساؤلاتنا،
وبدأت رحلتنا مع البحث والتعلم، ووجدنا من المعاني الجمالية ما تمنينا أن نتعرف عليه ونحن صغار.
يقول الله تعالى: { {یَـٰأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَیْكُمُ ٱلصِّیَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} } [البقرة : ١٨٣]
حينما ننظر لأقوال العلماء في هذه الآية
نجد لفتات جميلة
فالله بدأ الآية بنداء المؤمنين وهذا محبب للنفس كونه ربط الصيام بالمؤمنين.
ثم يخبرنا أن صيامنا وامتناعنا عن الطعام والشراب ليس خاص بنا فقط بل كتبه الله على من سبقونا من الأمم السابقة، مما يشعرنا بالأنس والراحة فنرغب بمنافستهم بالخيرات، ولا نستثقلها.
ويختم الله سبحانه بالهدف الرئيسي من الصيام، وهو "لعلكم تتقون"
أي يا من آمنت بالله وأحببت طاعته وقمت بها بالوجه المطلوب، صيامك هاهنا سيكون سبيلك للوصول لمنزلة التقوى.
يقول ابن القيم رحمه الله في تعريف التقوى: "حقيقتها العمل بطاعة الله إيماناً واحتساباً أمراً ونهياً،
فيفعل ما أمر الله به إيماناً بالآمر وتصديقاً بوعده ،
ويترك ما نهى الله عنه إيماناً بالناهي وخوفاً من وعيده".
وقال طلق بن حبيب: "إذا وقعت الفتنة فأطفئوها بالتقوى،
قالوا: و ما التقوى؟
قال: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله،
وأن تترك معصية الله، على نورٍ من الله، تخاف عقاب الله.."
لكن كيف تتحقق التقوى في الصيام؟
يقول السعدي رحمه الله بإختصار: "إن الصيام من أكبر أسباب التقوى:
• ففيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه.
• وفيه أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها، متقربا بذلك إلى الله، راجيا بتركها ثوابه، فهذا من التقوى.
• وفيه أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى، فيترك ما تهوى نفسه، مع قدرته عليه، لعلمه باطلاع الله عليه.
• وفيه أن الصيام يضيق مجاري الشيطان، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، فبالصيام، يضعف نفوذه، وتقل منه المعاصي.
• وفيه أن الصائم في الغالب، تكثر طاعته، والطاعات من خصال التقوى.
• وفيه أيضا أن الغني إذا ذاق ألم الجوع، أوجب له ذلك، مواساة الفقراء المعدمين، وهذا من خصال التقوى." انتهى كلامه
إذن الله لم يأمرنا بالصيام لنترك الطعام والشراب فقط
بل أمرنا به كوسيلة لتتهذب أنفسنا وتتزكى.
وهنا نتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: ( «إنَّما بُعِثتُ لأُتَمِّمَ صالِحَ الأخلاقِ» ) [صحيح الأدب المفرد]
(وفي رواية أخرى: «لأتمم مكارم الأخلاق» )
فلقد أخبرنا حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أن الهدف من بعثته صلى الله عليه وسلم هو إتمام صالح الأخلاق، أي أن نتحلى ونتزين بمكارم الأخلاق.
لذلك حينما نتأمل العبادات التي نقوم بها، نجدها كلها تصب في هذا الهدف وهو "تربية النفس وتهذيبها وتزكيتها"
فالصلاة هي تربية وتهذيب لنا في علاقتنا مع الله عز وجل، فحينما نقف بين يديه سبحانه ونناجيه ونتذلل بين يديه ونستشعر معيته ونعظمه في قلوبنا، فتلك الصلاة ستنهانا عن القيام بالفحشاء والمنكر على مدار اليوم.
والصيام فيه تربية وتهذيب لأنفسنا من الهوى والشهوات وتدريب على إدارة ذاتنا والتحكم فيها.
وأما الصدقة والزكاة فهي تربية وتهذيب لعلاقتنا بعباد الله وتأدية لحق الله فيهم.
وهنا نفهم قوله صلى الله عليه وسلم: ( «مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعامَهُ وشَرابَهُ» ) [رواه البخاري]
فقول الزور والعمل به ينافي مكارم الأخلاق
ومن يقوم به لم يحقق المقصد الأساسي من الصيام "التربية والتهذيب"
وبالتالي ليس لتركه الطعام والشراب أي فائدة.
وكذلك هو الحال في أي موضع تحتاج فيه النفس لتهذيب وتربية، فعلاجها يكون بالصيام، ومن تلك المواضع تحصين النفس ضد الشهوات،
عن عبدالله بن مسعود قال: كُنّا مع النبيِّ صلى الله عليه سلم، فَقالَ: ( «مَنِ اسْتَطاعَ الباءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فإنَّه أغَضُّ لِلْبَصَرِ، وأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، ومَن لَمْ يَسْتَطِعْ فَعليه بالصَّوْمِ، فإنَّه له وِجاءٌ» ) [رواه البخاري]
ومن جمال الشريعة أن ديننا يسر وليس بعسر فيكمل الله تعالى في آيات الصيام كلامه قائلا: { {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} } [البقرة : ١٨٥]
يقول السعدي رحمه الله: "يريد الله تعالى أن ييسر عليكم الطرق الموصلة إلى رضوانه أعظم تيسير، ويسهلها أشد تسهيل،
ولهذا كان جميع ما أمر الله به عباده في غاية السهولة في أصله.
وإذا حصلت بعض العوارض الموجبة لثقله، سهَّله تسهيلا آخر، إما بإسقاطه، أو تخفيفه بأنواع التخفيفات" [تفسير السعدي]
فنجد أن من تيسير الله، أنه أمرنا بصيام شهر رمضان، وبنفس الوقت أعطى للمريض والمسافر والحائض والنفساء رخصة بالفطر في تلك الآيام لما يتعرضا له من المشقة والتعب.
ثم يكمل كلامه سبحانه وتعالى ويقول: { {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} } [البقرة : ١٨٥]
فهنا يأمرنا الله بإكمال الشهر وإتمامه ليتحقق الهدف منه، وهو تهذيب النفس وتزكيتها، فصيام بضعة أيام منه لن تحقق مقصد الصيام ولن يؤهلنا لما بعد رمضان.
فهنا رحلتنا مع أنفسنا لا تنتهي مع إتمام شهر رمضان وشكر الله على نعمته،
وإنما تلك هي البداية لعهد جديد مع النفس يكون غذاءا لروحك على مدار العام.
ومن علامات قبول الطاعة، أن تستمري عليها بعد انتهاء مواسمها.
فتستمري على تزكية نفسك وروحك وتطهيرها وتغذيتها إيمانيا، بحيث كلما مر عليكِ رمضان، كلما ارتقيتِ أكثر وأكثر في تهذيب نفسك وتزكيتها لترتفع مكانتك عند الله أكثر وأكثر فيكفر الله بها ذنوبك جميعها.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( «الصَّلَواتُ الخَمْسُ، والْجُمْعَةُ إلى الجُمْعَةِ، وَرَمَضانُ إلى رَمَضانَ، مُكَفِّراتٌ ما بيْنَهُنَّ إِذا اجْتَنَبَ الكَبائِرَ» .) [رواه مسلم]
والآن يا رفيقتي …
ما رأيك أن نبدأ بداية جديدة مع الصيام،
بداية نجدد فيها نوايانا وهدفنا من الصيام لعلنا نكون من المؤمنين الذين يرزقهم الله التحلي بالتقوى.
وليكن رمضان هذا العام ليس مجرد طاعة لله والتقرب إليه، بل لنجعله بداية جديدة لنا في رحلتنا مع التخلق بمكارم الاخلاق.
مع التذكرة أن هذه البداية تحتاج أيضا لتهيئة واستعداد (تحدثت عن ذلك مفصلا في سلسلة "سباق القلوب إلى رمضان")
أسأله سبحانه أن يهدني وإياكِ لأحسن الأخلاق، وأن يصرف عنا سيئها وأن يجعلنا من المتقيين المحسنين.