هِبة الألم!
أحمد بن عبد المحسن العساف
إنّه كتاب آسر حقًا، ففيه إطلالة على روح الإنسان، وإشراقة ضوء باهر من كوّة وسط الظّلام، مع أمل منبثق من ركام الألم، وسعادة منبعثة من داخل أتون المعاناة
- التصنيفات: الشعر والأدب -
إنّه كتاب آسر، مؤلم لدرجة تنسى معها الألم؛ بل تحبّه! مفيد للمرضى وذويهم، وللمعالجين في القطاع الصّحي، وللمشاركين في العمل الإغاثي والإنساني والبحثي، وهذا يعني أنّ فائدته تكاد أن تكون عامّة. وهو سيرة للألم مصاغة بقلم رشيق وأسلوب لا يملّ، وفيه علم، وخبرة، وإنسانيّة، وحكايات، وحكم، وحال من سمو الرّوح التي ينبثق منها متين الرّأي، وخالص النّصح.
عنوان الكتاب: هبة الألم: لماذا نُعذّب وما موقفنا من ذلك، تأليف: د.بول براند وفيليب يانسي-وحضور الأوّل في النّص ظاهر جدًا خلافًا للثّاني- ترجمته إلى العربيّة: آراك الشّوشان، وصدرت الطّبعة الأولى منه عن مركز تكوين للدّراسات والنّشر عام (1440=2019م)، على ورق نباتي بحجم متوسط من (494) صفحة، تشمل الإهداء، ثمّ مقدّمة المترجمة، فتصدير، يتلوه ثلاثة أقسام.
القسم الأوّل عنوانه: طريقي إلى الطّب ويحوي ستّة فصول، وعنوان القسم الثّاني: مهنة الألم وفيه سبعة فصول، بينما توجد خمسة فصول في القسم الثّالث بعنوان تعلّم مصاحبة الألم، وبعد هذه الفصول عقد المؤلّفان مقارنة بين الجذام والإيدز ختما بها الكتاب، ثمّ أضافا كعادة الغربيين كلمة شكر وعرفان، فالمصادر، وأخيرًا تعريف مختصر بالمؤلّفين والمترجمة.
أهدت أ.آراك عملها لوالدتها المربيّة الفاضلة الأستاذة فاطمة بنت صالح القنّاص، وأثنت في مقدّمتها على مهنيّة مركز تكوين، وأبانت أ.الشّوشان عن منهجيتها في التّرجمة، وذكرت أن موضوع الكتاب تتنازعه المدارس الفلسفيّة بينما تناوله مؤلّفاه من منظور طبي مع أنّ أحدهما دخل إلى الطّب من باب الهندسة! ويمكن لي اختصار تصدير سي.إيفيريت كوب بقوله إنّ زميله الطّبيب بول براند يقدّم الألم بوصفه صديقًا لا عدوًا متكئًا على خبرته بمرض الجذام وعلاجه للمجذومين.
ومن المفارقات أنّ المؤلّف اجتنب الطّب ابتعادًا عن المعاناة والآلام التي عايشها خلال معالجة والده المبشّر للمرضى في الهند، وتعلّم النّجارة والعمارة والهندسة والبناء، وبعد أن عمل في عيادة أسنان ضمن إطار تبشيري غيّر نظرته للطّب؛ ثمّ أُبتلي بمحبّته بعد أن رأى الحياة تعود لشابة جميلة أشرفت على الموت؛ فانضم عام(1937م) لكليّة الطّب بلندن، التي نشأت من مستوصف تعليمي، وتخصّص بالجراحة لأنّه تعايش مع منظر الدّماء إبّان الحرب العالميّة الثّانية، وتجاوز ذعر منظرها، وساعدته معرفته الهندسيّة وأدوات النّجارة على إتقان التّشريح والجراحة.
استهلّ د.براند كتابه بقصّة حزينة لمريضته الطّفلة تانيا، وهي مثال على بؤس الحياة دون ألم، ففي حين يطارد البعض خلف تسكين الألم يفقده هؤلاء نهائيًا، وقد جرّب بنفسه فقدان الألم في ليلة كئيبة بعد سفر وتعب، فلمّا استعاده وجد الشّعور بالوخز ألذّ من أن يوصف، فظلّ مسكونًا بالإجابة عن سؤال حول تأثير المعاناة على النّاس، وتشكيل أفكارهم حول العيش مع من يتألم ومن حرم من الألم، وأمضى عمره ساعيًا لإعادة التّوازن لتفكيرنا بالألم.
من أفكار الكتاب أنّ للألم قوة مهيمنة تجعله يتفوّق على الأساسيّات كالنّوم والغذاء، وأنّ العلاج الجيد يشفي الإنسان وليس المرض فقط. ومنها تعظيم دور العقل في إدراك الألم والتّعامل معه، فالجسد يثق بالدّماغ لتفسير العالم مع أنّه منفصل معزول داخل صندوق، ومن الّلافت أنّ الدّماغ يمنحنا الوعي دون أن يحدِث صوتًا كالمعدة، أو يشعرنا بإجهاده مثل القلب، أو يُقرص أسوة بالجلد.
وتعتمد صحة الجسم اعتمادًا كبيرًا على يقظته لتنبيهات شبكة الألم الذي يفقد وجوده حتى يشعر به الإنسان، وشعوره به يكون في العقل أوّلًا، وعليه فالأصل أن تكون الاستجابة عقليّة في المقام الأوّل، وأدرك المؤلّف قيمة الألم في الإبلاغ عن الإصابة، وتيقّن من مخاطر الحياة بدون ألم، فأضحى الألم جميلًا في وجدانه.
لذلك اجتهد د.براند في محاولة استعادته لمرضاه، ونشر دراساته في المحافل العلميّة، والدّفاع المبرهن عنها، وجلب الموازنات لأبحاثه، مع تدريب المرضى على حسن إدارة الألم فهو ليس عدوًا بل نعمة وصديق ورائد مخلص يخبر عن العدو، وما أحوج المرء للإنصات إلى جسده حين يتحدّث إليه، ويالها من منّة إلهيّة أن يظلّ مفتاح التّحكم بالألم بعيدًا عن متناول اليد أو لا يمكن الوصول إليه لإسكاته أو تخفيفه.
ولا يكون قهر الألم إلّا بالاستعداد المسبق له، وإتقان السّيطرة على الاستجابات الدّاخليّة، أمّا الأحوال الخارجيّة فلا نستطيع تغييرها دائمًا، ولذا نستفرغ الجهد لتصحيح التّوجه الذّهني الدّاخلي الذي يعدّل جوانب الحياة الخارجيّة، فيمكن إدارة الألم بعكس العمليّة وإعادة ثقة المريض بجسمه، فالألم خطاب يقدّمه الجسم حول موضوع ذي أهميّة للفت انتباه صاحبه، ولا يوجد محامٍ مخلص للجسم أكثر من الألم، وهو صديق صدوق ينبغي ألّا يُخرس بل يرهف له السّمع؛ فالاستماع للألم عمل مقدّس كما يقولان.
ولاحظ المؤلّف أنّ الهنود تعلّموا التّحكم بالألم على مستوى العقل والرّوح، فيما يرى الغربيون الألم على أنّه ظلم وإخفاق وانتهاك لحقّهم في السّعادة، ومن هذه الملاحظة أتقن مصاحبة الألم، وتعاظم تقديره لقدرة الذّهن على تغيير إدراك الألم من اتّجاه لآخر، كي يصبح الألم خادمًا لا سيّدًا، وأثبتت له خبرته قوّة الإيحاء، وأكدّتها تجارب أدوية البلاسيبو، وواقعة جهاز الموجات فوق الصّوتيّة الذي كانت له تأثيرات إيجابيّة على جزء من المرضى مع أنّه عاطل عن العمل، فثبت لديه إمكان إدارة الألم في مراحله، وتوظيف الذّهن البشري كحليف وليس خصمًا حتى تعدّل خلايا الدّماغ أيّ رسالة قبل أن تصبح ألمًا صرفًا.
ويجب نزع اللثّام عن القوى المذهلة للذّهن في التّعافي، وألا نقلّل من قوّتنا الدّاخليّة لتعديل إدراك الألم، فنحن نمتلك قدرة مدهشة لإرباك الألم بالإيحاء، وتشتيت الانتباه، والتّسلية، ويعدّ النّشاط والعمل من أفضل وسائل التّعامل مع الألم المزمن. ومن إشارات الكتاب المهمّة أنّ المريض هو الطّرف الأهم في عمليّة العلاج، ومن المفارقات أن يرى المريضُ الطبيبَ أعظم أهميّة منه، بينما يضع نفسه ضحيّة! ومنها أنّ نسيج الجسم يزدهر بالنّشاط ويضمر بالخمول، فشعار علم وظائف الأعضاء استخدمه أو ستفقده!
كما يعلي الكاتبان من شأن الجانب الإنساني في الطّب وأثره العميق في المعالجة، فالّلمسة الإنسانيّة ذات نتيجة إيجابيّة، والطّبيب الحاذق يثق بأصابعه أكثر من ثقته بالسّماعة، والّلمس عنده أثمن أداة تشخيص وتمنح للمريض اهتمامًا شخصيًا، وخلص المؤلف لهذه النّتيجة من ملازمة الطّبيب غوين ويليامز، ومتابعة سلوك الهنود الذي يعدّون الطّبيب كاهنًا مبارك اليدين، فضلًا عن ثقافتهم الشّرقيّة ذات التّماسك الأسري، وإصرارهم على التّفاعل مع مريضهم، والقرب منه، ويعترف صاحبنا بأنّ الهند علّمته مداخل جديدة للعلاج، فالصّحة النّفسيّة للمريض، والعائلة والبيئة المحيطة لها أثر يوازي المسكنّات، فما أحوج المرضى إلى التّطمين والتّشبّث بالأمل.
ويحذّر الكاتبان من الوحدة الحادّة لأنّها أشدّ أنواع القلق، ويجزمان أنّ الانتقام، والمرارة، استجابتان عاطفيتان يرجع إليهما أكثر أسباب ارتفاع ضغط الدّم، بينما الامتنان هو الاستجابة الوحيدة التي تحسّن الصّحة، ويحصران معزّزات الألم في الغضب، والوحدة، والشّعور بالذّنب، والعجز والخوف وهو أقواها، في حين يبّث الغضب سمومه في الجسد.
ويدعوان للسّيطرة على القلق، والوقوف مع المرضى وأسرهم خلال المعاناة فهذا جزء من العلاج، وينسبان لشركات التّأمين حسنة الضّغط لتقليل فترة تنويم المريض، ويحثّان المحيطين به ألّا يغرقوا في مساعدة المريض ومنعه من كلّ شيء؛ حتى لا يشعر بانتفاء القدرة والفائدة، والحكمة تقتضي الموازنة الخفيّة بين تقديم المساعدة والمبالغة في تقديمها.
ويخبرنا الكاتب البصير أنّ التّعب، والمشاركة في الخدمة الاجتماعيّة، من أسرار الّلذة والمتعة، وأنّ ترف الغرب جعل عالمهم مكانًا صعبًا لتجربة الّلذة، ويجزم بأنّ القناعة حال مستوطنة من الّلذة، وهذه من حسنات الهند عليه التي قضى فيها ثلث حياته في مشافي لعلاج الجذام، بينما أمضي ثلثيها في بريطانيا وأمريكا مع الجذام والقدم السّكري والجراحة.
كما ينبّهنا لمخاطر الّلذة القصيرة التي تفضي إلى تعاسة مثل شراهة الأكل، بينما يعقب شقاء التّمرين المجهد لذّة دائمة، ويرى بأنّ المغامرات ماتعة، والإنجاز قد يدفع الألم لخواتيم أفضل، بينما يمنح ضحك عميق لمدة عشر دقائق ساعتين من النّوم دون ألم، وفي آخر الكتاب يربط بين الّلذة والألم فهما في الذّهن مثل توأم سيامي.
ولم يتركنا المؤلّف الطّبيب المبشّر دون أن يمجّد خمس شخصيّات تنصيريّة من بيئات مرموقة ومهن راقية، منحوا الحياة للآخرين فوجدوا المتعة تنبعث عفويًا من الخدمة، وحملوا على عواتقهم الآم العالم فسعدوا، ثمّ عرج بنا على إرثه من أمّه التي كانت لجمالها تبدو ممثلة لا تبشيريّة بينما قضت عمرها في جبال الهند وصحاريها وأدغالها داعية ومعالجة حتى ماتت بعد تجاوزها التّسعين، وحين عبرتُ بهذا القسم الأخّاذ أسفت لبعض ما تجده أعمالنا الخيريّة ورموزنا المباركة من جفوة أو تهمة.
أمّا خاتمة الكتاب فكانت بعقد مقارنة بين الجذام والإيدز باعتبارهما وصمة ويشتركان في الأعراض المرعبة، والخوف من العدوى، والاعتقاد بأنّ هذا المرض لعنة من الرّب، واجتهد المؤلّف موصيًا القارئ بتعديل سلوكه، والالتزام بالأخلاق الواردة في الوصايا العشر التي كتبت لمصلحتنا مثل دليل المالك الملحق مع أيّ جهاز، وأشاد بالأثر الحميد لنبذ التّبغ والكحول، وطهر الاكتفاء بالمعاشرة الجنسيّة الشّرعيّة.
ومن لطائف الكتاب مسألة الحمل التّضامني الذي يصيب ربع الرّجال مشاركة لأزواجهم في أعراض الحمل، وفي بعض الثّقافات تلد المرأة ثمّ تنهض من فورها ليقضي الرّجل فترة النّفاس عنها! وبما أنّنا في سياق مؤسسة الأسرة فلابأس من الإشارة إلى نتيجة إحصاء مفاده أنّ نسب الانتحار والحوادث القاتلة ترتفع بجنون لدى الأزواج المطلّقين، وأنّ وفاة الشّريك تؤثر على الرّجل أكثر من تأثيرها على المرأة.
ومن لطائفه أنّ العصب الذي ينقل ألم الأسنان هو ذاته النّاقل لمتعة القبلة! وكانت مضيفته المسنّة تلبس أطباقًا من الملابس حتى وهي نائمة كي تخرج للملاذ بلباس محتشم لو أرسلت طائرات الألمان قنابلها على بيتها في لندن التي اجتمع النّاس فيها تحت الأرض هروبًا من القصف؛ فانبلج معنى جديد غير معهود للمجتمع، فيه موّدة ومساندة وتساكب للدّموع على مصاب فرد واحد مع تقاسم الطّعام والنّوايا الحسنة.
وحين سُأل مهندس عن قدرة طائرة على حمل فيل أجاب بأنّ أرضيّة الطّائرة مصمّمة للمرأة التي ترتدي الكعب الخنجري وهي باحتمال الفيل أحرى! وأعترف الكاتب بأنّ معظم الأطبّاء يقاومون زيارة الطّبيب، ومن الغرائب أنّه استعار طقم أزاميل من نجّار محلّي وغلاها ثمّ استخدمها في عمليّاته الجراحيّة بمنطقة نائية.
إنّه كتاب آسر حقًا، ففيه إطلالة على روح الإنسان، وإشراقة ضوء باهر من كوّة وسط الظّلام، مع أمل منبثق من ركام الألم، وسعادة منبعثة من داخل أتون المعاناة، وما أجدر مراكزنا بالعناية فيما يترجمون وينقلون، كي نغدو على أهبة انتظار هِبة جديدة من آراك وجمهرة زملائها المترجمين المبدعين في طول عالمنا العربي وعرضه.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
مدونة أحمد بن عبد المحسن العسَّاف