الإمام البخاري .. أول من دوّن الصحيح
ملفات متنوعة
وهب الله سبحانه وتعالى الإمام البخاري عددا من الخصال الحميدة، والمناقب العظيمة، حتى شهد له علماء عصره بتفوقه على أقرانه، ولو كتبنا في مناقب هذا الإمام العظيم المؤلفات ما وفّينا حقه.
- التصنيفات: الحديث وعلومه - الجرح والتعديل وعلومه -
ارتضى الله الإسلام ديناً للبشرية كلها، وجعله الدين الخاتم إلى قيام الساعة، ومن ثمّ فقد تكفّل الله بحفظه وصيانته، فسخّر من خلقه من يذبّ عن وحيه قرآناً وسنةً، واصطفى علماء بيّنوا ما تشابه من القرآن، وميّزوا صحيح السنة من ضعيفها، ويزخر التاريخ الإسلامي بكوكبةٍ من العلماء المخلصين، الذين نذروا حياتهم لخدمة هذا الدين، ومن أبرز هؤلاء الإمام البخاري رحمه الله تعالى.
وحياة هذا الإمام الجليل مليئة بالصفحات المشرقة، فقد اجتمعت فيه كثير من الصفات الحميدة، والخصال الجليلة، ونذر حياته لخدمة السنة الغرّاء، فنفع الله به، وبارك في علمه، وألّف كتابه الصحيح الذي اتفقت الأمة قاطبة على صحّته، وتلقّيه بالقبول، وسوف نستعرض بعض الجوانب من حياة هذا العلم ؛ حتى نسلك مسلكه، ونقتدي بسيرته.
نسبه ومولده
هو شيخ الإسلام، حجّة الأمة، ناصر الحديث، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أمير المؤمنين في الحديث كما لقّبه بذلك غير واحد من أئمة السلف.
كان مولده في شوال سنة أربع وتسعين ومائة في بخارى، ونشأ في بيت علم، وظهرت عليه في طفولته علامات النبوغ والنجابة، ووهبه الله سبحانه وتعالى ذاكرةً قويّة تفوّق بها على أقرانه، وقد اشتمله الله برعايته منذ طفولته، وابتلاه بفقدان بصره في صباه فرأت والدته في المنام إبراهيم عليه السلام فقال لها: "يا هذه قد رد الله على ابنك بصره لكثرة بكائك أو كثرة دعائك" فأصبحت وقد ردّ الله عليه بصره ببركة دعاء أمه له.
طلبه للعلم
بدأ البخاري حياته العلمية من الكتّاب، فأتم حفظ كتاب الله في العاشرة من عمره، ثم مرّ على الشيوخ ليأخذ عنهم الحديث، ولما بلغ ستة عشر عاماً كان قد حفظ أحاديث ابن المبارك ووكيع، وكان آية في الحفظ، حتى بلغ محفوظه آلاف الأحاديث وهو لا يزال غلاما، والشاهد على ذلك ما رواه حاشد بن إسماعيل -رحمه الله- أن الإمام كان يذهب إلى المشايخ مع رفقائه وهو غلام، فكان يكتفي بسماع الأحاديث دون أن يدونها كما يفعل زملاؤه، حتى أتى على ذلك أيام فكانوا يقولون له: "إنك تتردد معنا إلى المشايخ ولا تكتب ما تسمعه فما الذي تفعله؟ "وأكثروا عليه حتى ضاق بهم ذرعاً، وقال لهم مرةً بعد ستة عشر يوماً: "إنكم قد أكثرتم عليّ وألححتم فأخرجا إليّ ما كتبتموه" فأخرجوا إليه ما كان عندهم، فزاد على خمسة عشر ألف حديث فقرأها كلها عن ظهر قلب حتى جعلوا يصحّحون ما كتبوه من حفظه، فعرفوا أنه لا يتقدمه أحد.
ثم ارتحل في طلب الحديث إلى "بلخ" و"نيسابور" وأكثر من مجالسة العلماء، وحمل عنهم علما جمّا، ثم انتقل إلى مكة وجلس فيها مدة، وأكمل رحلته إلى بغداد ومصر والشام حتى بلغ عدد شيوخه ما يزيد عن ألفٍ وثمان مائة شيخٍ، وتصدّر للتدريس وهو ابن سبع عشرة سنة، وقد كان الناس يزدحمون عليه وهم آلاف حتى يغلبوه على نفسه، ويجلسوه في بعض الطريق، يكتبون عنه، وهو لا يزال شاباً لم تنبت له لحية.
مناقبه
وهب الله سبحانه وتعالى الإمام البخاري عددا من الخصال الحميدة، والمناقب العظيمة، حتى شهد له علماء عصره بتفوقه على أقرانه، ولو كتبنا في مناقب هذا الإمام العظيم المؤلفات ما وفّينا حقه، حتى قال عنه رجاء الحافظ : "هو آية من آيات الله يمشي على ظهر الأرض"، من ذلك أن الله قد آتاه حفظاً وسعة علم حتى روي عنه أنه قال: "لو أردت ما كنت أقوم من ذلك المجلس حتى أروي عشرة آلاف حديث في الصلاة خاصة" وذلك في إحدى المجالس، ومما يدل على كثرة محفوظاته قوله: "أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح".
واشتَهر الإمام بشدّة ورعه، فقد كان حريصا على ألفاظه عند الجرح والتعديل للرواة، ومما أُثر عنه قوله: "أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً"، كما اشتَهر رحمه الله بالزهد والكرم، يعطي عطاءً واسعاً، ويتصدّق على المحتاجين من أهل الحديث ليغنيهم عن السؤال، وكان وقّافا عند حدود الله، كما كان شديد الحرص على اتباع السنة، قال النجم بن الفضيل : " رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم كأنه يمشي، ومحمد بن إسماعيل يمشي خلفه فكلما رفع النبي -صلى الله عليه وسلم- قدمه وضع الإمام قدمه مكانها".
وأعظم خصلة تحلّى بها الإمام هي الإخلاص لله تعالى -نحسبه كذلك والله حسيبه-، فقد كان يريد الله بعلمه وعمله، وبغضه وحبه، ومنعه وبذله، فانتشرت كتبه، وتلقت الأمة كلها "صحيح البخاري" بالقبول، حتى عدّه العلماء أصحّ كتاب بعد كتاب الله تعالى.
كتبه ومؤلفاته
ساهم البخاري رحمه الله في التأليف والكتابة، وأول كتاب يتبادر إلى الذهن هو كتابه العظيم "الجامع الصحيح" المعروف عند الناس بكتاب: "صحيح البخاري"، وهو أول كتاب صُنف في الحديث الصحيح المجرد، واستغرق تصنيف هذا الجامع ست عشرة سنة، ولم يضع في كتابه هذا إلا أصح ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وللشيخ تصانيف أخرى مهمة، مثل: "الأدب المفرد"، والذي تناول فيها جملة من الآداب والأخلاق، وبعض الأجزاء الحديثية مثل: "رفع اليدين في الصلاة" و "القراءة خلف الإمام"، وفي علم التاريخ له: "التاريخ الكبير، والأوسط والصغير"، وفي العقيدة ألّف رسالة أسماها: "خلق أفعال العباد"، وفي علم الرجال: "الضعفاء"، ومصنفات أخرى كثيرة بعضها في عداد المفقود.
محنته ووفاته
تعرض البخاري للامتحان والابتلاء كما تعرض الأنبياء والصالحون من قبله، فصبر واحتسب، وما وهن وما لان، وكانت محنته من جهة الحسد الذي ألمّ ببعض أقرانه لما له من المكانة في قلوب العامة والخاصة، فأثاروا حوله الشائعات بأنه يقول بخلق القرآن، وهو بريئ من هذا القول، فحصل الشغب عليه، ووقعت الفتنة، وخاض فيها من خاض، حتى اضطر الشيخ درئاً للفتنة أن يترك نيسابور ويذهب إلى بخارى، موطنه الأصلي.
وبعد رجوعه إلى بخارى استتبّ له الأمر زمناً، ثم ما لبث أن حصلت وحشة بينه وبين أمير البلد عندما رفض أن يخصّه بمجلس علم دون عامة الناس، فنفاه الوالي وأمر بإخراجه، فتوجه إلى قرية من قرى سمرقند، فعظم الخطب عليه واشتد البلاء، حتى دعا ذات ليلة فقال: "اللهم إنه قد ضاقت عليّ الأرض بما رحبت، فاقبضني إليك"، فما تم الشهر حتى مات، وكان ذلك سنة ست وخمسين ومائتين، وعاش اثنتين وستين سنة، ودُفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر.. رحم الله الإمام رحمة واسعة، وأجزل له العطاء والمثوبة، فقد كانت سيرته مناراً يهتدى بها، ونسأل الله تعالى أن يجمعنا معه في جنات النعيم.