أحكام المراتب (4)
ملفات متنوعة
لا يستقيم في صحيح البحث أن أترك الموضعَ الصريحَ الذي لا يُعَوِّلُ أهلُ العلم في باب بيان مراتب الألفاظ وأحكامها على غيره، وأستغني عنه بمواضعَ ليست من ذلك الباب، وعباراتٍ تحتملُ غيرَ وجهٍ من التفسير.
- التصنيفات: النهي عن البدع والمنكرات - الجرح والتعديل وعلومه -
موازنة بين مراتب الرواة عند ابن أبي حاتم:
سبق أن الإمام ابن أبي حاتم فصّل القول في مراتب ألفاظ التعديل والجرح وأحكامها في موضع واحد من كتابه "الجرح والتعديل"، وذلك في خُطبة الكتاب، وأنه قد وافقه على ذلك جماعة المصنفين في علوم الحديث، ويمكن الوقوف على موافقاتهم بمراجعة النوع الثالث والعشرين من أنواع علوم الحديث عند ابن الصلاح ومن جاء بعده كالنووي والعراقي والسخاوي والسيوطي، فإنهم جميعًا، على المستوى النظري، ما بين متابع له وبين مستدل لكلامه.
وعبارة ابن أبي حاتم في ذلك الموضع لا تدل على أن كلامه على الألفاظ ومراتبها وأحكامها: اصطلاحٌ خاصٌّ به، بل صَرَّحَ في صدرها بما يدلُّ على أنه أراد الاصطلاح العام، لقوله: "وجدتُ الألفاظ في الجرح والتعديل على مراتب شتى". وكلام جماعة المصنفين في "المصطلح" يدل على ذلك.
وهذا لا يعني نفي أثر التشدد والتساهل والاعتدال في إطلاق تلك الألفاظ أو في الحكم على أحاديث معينة لبعض الرواة المتكلم فيهم أو ممن قصر ضبطهم عن ضبط الثقات، فإن النقاد يتفاوتون في ذلك ويختلفون في مواضع كما يختلف أهل العلم في سائر مسائل العلم.
ومن ذلك:قول ابن تيمية: "وأما قول أبي حاتم: يكتب حديثه، ولا يحتج به، فأبو حاتم يقول مثل هذا في كثير من رجال الصحيحين، وذلك أن شرطه في التعديل صعب، والحجة في اصطلاحه ليس هو الحجة في اصطلاح جمهور أهل العلم" [1].
ليس معنى كلام ابن تيمية أن أبا حاتم يستعمل لفظ "حجة" في غير معناه المتعارف عليه، ولكن معناه أن أبا حاتم له شرط صعب في التعديل، فلا يصل عنده الراوي إلى درجة الاحتجاج قبل تجاوز هذا الشرط الصعب. وأما معنى الحجة فهو عند أبي حاتم كمعناه عند غيره، بل لا يصح أن يكون في معنى "الحجة" خلاف، لأن معناه صريح لفظه!
والمقصود أن ما قرره ابن أبي حاتم في الموضع المشار إليه آنفًا هو شيء تَوَصَّلَ إليه بالاستقراء، وأن عامة الذين جاءوا بعده وافقوه نظريًا.
فهذا ما يتعلق بما ذكره ابن أبي حاتم من المراتب في خطبة كتابه.
ومما يجدر التنبيه عليه: أن ابن أبي حاتم قد بيّن مراتب الرواة وطبقاتهم في "مقدمة الجرح والتعديل" في موضعين، وذكر أحكامًا يبدو للوهلة الأولى أنها لا تتفق مع كلامه في خطبة كتابه، ولأجل توضيح هذا النقطة وإزالة اللبس، لا بد من نقل كلام ابن أبي حاتم، وموازنة بعضه ببعض.
قال ابن أبي حاتم في الموضع الأول في بيان طبقات الرواة [2]:
1- ويُعرَف من كان منهم عدلًا في نفسه، من أهل الثبت في الحديث والحفظ له والإتقان فيه، فهؤلاء هم أهل العدالة.
2- ومنهم الصدوق في روايته، الورع في دينه، الثبت الذي يهم أحيانًا، وقد قبله الجهابذة النقاد، فهذا يُحتجّ بحديثه أيضًا.
3- ومنهم الصدوق الورع المغفل، الغالب عليه الوهم والخطأ والسهو والغلط، فهذا يُكتب من حديثه الترغيب والترهيب والزهد والآداب، ولا يُحتجّ بحديثه في الحلال والحرام.
4- ومنهم من قد ألصق نفسه بهم، ودلّسها بينهم، ممن قد ظهر للنقادِ العلماءِ بالرجالِ منهم الكذبُ، فهذا يُترك حديثُه ويُطرح روايتُه ويسقط ولا يُشتغل به". تقدمة الجرح والتعديل (1 /6 - 7).
وقال في الموضع الآخر في بيان مراتب الرواة المقبولين:
"فكانوا على أربع مراتب:
1- فمنهم الثبت الحافظ الورع المتقن الجهبذ الناقد للحديث، فهذا لا يُختلف فيه، ويعتمد على جرحه وتعديله، ويحتج بحديثه وكلامه في الرجال.
2- ومنهم العدل في نفسه، الثبت في روايته، الصدوق في نقله، الورع في دينه، الحافظ لحديثه، المتقن فيه، فذلك العدل الذي يُحتج بحديثه، ويوثق في نفسه.
3- ومنهم الصدوق الورع الثبت الذي يهم أحيانًا، وقد قبله الجهابذة النقاد، فهذا يحتج بحديثه.
4- ومنهم الصدوق الورع المغفّل الغالب عليه الوهم والخطأ والغلط والسهو، فهذا يكتب من حديثه الترغيب والترهيب والزهد والآداب، ولا يُحتجّ بحديثه في الحلال والحرام". ثم قال ابن أبي حاتم: "وخامس قد ألصق نفسه بهم، ودلسها بينهم، ليس من أهل الصدق والأمانة، ومن قد ظهر للنقاد العلماء بالرجال أولي المعرفة منهم [3] الكذبُ، فهذا يترك حديثه ويطرح روايته". تقدمة الجرح والتعديل (1 /10).
ففي هذين الموضعين استعمل ابن أبي حاتم كلمة "الصدوق" خمس مرات، والسياق في جميعها صريح في أنه استعملها في معناها اللغوي، ولم يقصد بها معنى اصطلاحيًا معينًا، بل كلُّ قصده أن الراوي موصوف بالصدق، بدليلين ظاهرين إن لم يكونا صريحين:
الأول: أنه كان يقرنها دائمًا بوصف يتعلق بالضبط.
الثاني:أنه وصف بها الثقة فقال في الموضع الثاني: "الثبت في روايته، الصدوق في نقله" الخ، ووصف بها من دون الثقة، حتى المغفل وصفه بذلك، فقال في الموضعين: "ومنهم الصدوق الورع المغفّل الغالب عليه الوهم والخطأ والغلط والسهو"، ومعلوم أن الصدق بمعناه اللغوي قدر مشترك بين الثقة وليّن الحفظ والضعيف، وأما في معناه الاصطلاحي فهو دون الثقة وفوق الضعيف.
وأما الموضع الثالث، الذي في خطبة كتابه، فقد بيّن فيه ابن أبي حاتم رُتَبَ الألفاظ إذا أطلقت في وصف الرواة، فلا وجهَ وجيهًا لحمل ذلك الموضع على الموضعين السابقين الذين ذكرهما في مقدمة كتابه؛ لأن ذلك يؤدي إلى الإخلال بكلام ابن أبي حاتم وإخراجه عن دلالته، لا إلى تفسيره وتوضيحه.
قال ابن أبي حاتم في خطبة كتابه:
"وجدتُ الألفاظ في الجرح والتعديل على مراتب شتى:
فإذا قيل للواحد: إنه ثقة، أو: متقن ثبت، فهو ممن يُحتجّ بحديثه.
وإذا قيل: إنه صدوق، أو: محله الصدق، أو: لا بأس به، فهو ممن يُكتَبُ حديثُه، ويُنظَرُ فيه، وهي المنزلة الثانية.
وإذا قيل: شيخ، فهو بالمنزلة الثالثة، يُكتَبُ حديثُه، ويُنظَرُ فيه، إلا أنه دون الثانية.
وإذا قيل: صالح الحديث، فإنه يُكتَبُ حديثُه للاعتبار". الجرح والتعديل (2 /37).
ثم بيّن ابن أبي حاتم مراتب الجرح على هذا المنوال.
فهذا الموضع هو الموضع الذي نصّ فيه ابن أبي حاتم على أحكام الألفاظ من حيثُ إطلاقُها على الراوي كوَصفٍ يَتعلق ببابِ التعديل والجرح، ومنها يُؤخذ المعنى الاصطلاحي، دون الموضعين السابقين.
وعلى هذا يدل صنيع المصنفين في علوم الحديث، فإنهم لا يعوّلون في ترتيب المراتب اصطلاحًا على غير هذا الموضع؛ فلا وجه سليمًا للاستدراك عليهم من هذه الجهة، كما لا وجه مقبولًا لاستنباط حكمٍ للفظة "صدوق" عند ابن أبي حاتم استنادًا إلى جمع هذه المواضع وحمل بعضها على بعض مع أن البابين مختلفان.
فإن قيل: إن ابن أبي حاتم قد صرح في الموضعين الأول والثاني بأن الراوي الصدوق الورع الثبت الذي يهم أحيانًا: أنه يُحتجّ بحديثه. وهذا يدل على الاحتجاج بحديث من ثبتت عدالته وخفّ ضبطه، وهو من يُقال فيه "صدوق" و"لا بأس به" ونحوهما؟
فالجواب: أن هذا قد قيّده ابنُ أبي حاتم في الموضعين بأن يكون "قد قَبِلَه الجهابذةُ النقاد"، وذلك هو الثقة، والثقات مراتب، فيكون قد أشار إلى نوع من الثقات، ولذلك وصفه بلفظ "الثبت الذي يهم أحيانًا"، وهذا الوصف دليل على وهم يسير في ضبط كثير.
وبكل حال، فإنه لا يستقيم في صحيح البحث أن أترك الموضعَ الصريحَ الذي لا يُعَوِّلُ أهلُ العلم في باب بيان مراتب الألفاظ وأحكامها على غيره، وأستغني عنه بمواضعَ ليست من ذلك الباب، وعباراتٍ تحتملُ غيرَ وجهٍ من التفسير.
الخلاصة:
1- أن الأحكام التي ذكرها ابن أبي حاتم فَمَنْ بعده في مراتب التعديل والجرح: أربعة، وهي: الاحتجاج، والكتابة للنظر، والكتابة للاعتبار، والترك.
2- أن هذه الأحكام متسلسلة في الرتبة كما دلّ عليه سياقها في المراتب.
3- أنها تختلف من جهة قوة اعتمادها، فالاحتجاج حكم أغلبي وصريح، والترك حكم عام وصريح، وأما الكتابة للنظر والكتابة للاعتبار، فهما في الجملة: حكمان دالان وليسا صريحين، ولذلك يفتقران إلى طلب المرجحات، وهذه المرجحات تتفاوت الحاجة إليها من حالة إلى حالة، ولذلك تجدهم في جانب القبول مثلًا: يشترطون في بعض الحالات وجود المتابعة التامة، وفي بعضها يكتفون بالمتابعة القاصرة، وفي بعضها يكتفون بشاهد يرويه صحابي آخر أو بأصل يعضده، بل ربما يكتفي أحدهم بعدم وجود المخالفة لذلك الحديث، وغير ذلك مما يمكن الوقوف عليه لمن تدبر أقوالهم وحرَص على أحكامهم.
4- أن النظر رتبة تقع بين الاحتجاج والاعتبار، وتعني: الاستدلال بالقرائن الداخلية، (أي الملابسة للرواية)، وطلب المرجحات الخارجية من غير حصر في المتابعات.
5- أن من كان حكمه: "يُكتب حديثه، ويُنظر فيه" فإن له نصيبًا من الاحتجاج دون نصيب الثقات، أي أنه يقبل في بعض ما تفرد به مما ترجح في ظن الناقد، بعد استيفاء النظر، أنه حفظه.
6- أن جماعة المصنفين في علوم الحديث لم يصرح أحدٌ منهم بمخالفة ابن أبي حاتم في أحكام تلك المراتب، بل إما أن يتابعوه وإما أن يستدلوا لبعض قوله.
7- أن من أراد من الباحثين المعاصرين الحكم على حديث من أحاديث الرواة المتوسطين، فليس له أن يحكم بمجرد ما تقتضيه أوصاف الرواة قبل أن يطلب كلام الأئمة في هذا الحديث، ويجتهد في تفسيره واستخراج القرائن منه.
8- أن أقل ما يطالب به الباحث المعاصر إذا وجد حديثًا من أحاديث أصحاب الرتب المتوسطة، ووجد أن أحد كبار أئمة النقد يُضعّفُ ذلك الحديث، أن يترك الاعتراض عليه في تضعيفه إذا لم يكن للاعتراض سبب سوى أن راويَه "صدوق" أو "لا بأس به". وهذا يُشبه ما لو وَجَدَ حديثًا أعلّه أحد كبار أئمة النقد، فإنه لا يصح الاعتراض عليه في إعلاله إذا لم يكن للاعتراض سبب سوى أن راويَه "ثقة". وأما إذا كان الاعتراض في الحالتين مبنيًا على معرفة القرينة التي استعملها الناقد ومعارضتها بما هو أرجح منها في كلام ناقد آخر، فهكذا يكون الاجتهاد السائغ، وبمثل هذا يغلق الباب دون المتطفِّلين على التصحيح والتضعيف، وينحصر الشأن في أهل الشأن، عملًا بقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
وفي ختام هذا الموضوع، أحببت أن أضيف شيئًا له علاقة بالحديث عن المرجحات، وهو أن من محاسن الدراسات الحديثية المعاصرة: عنايتها بكتب العلل، وقد نتج عن ذلك كتابات وفيرة في قرائن الإعلال. لكن مما يؤخذ عليها: قلة العناية بقرائن قبول الأحاديث، وهذا يتطلب دراسات معمّقة للأحاديث التي صححها الأئمة مما يبدو لأول وهلة أنه معلول بمخالفة الأحفظ أو الأكثر أو بالتفرد، كما يتطلب دراسات واسعة للأحاديث التي شملها الأئمة بمطلق القبول والصلاحية، وهي أحاديث لا يعتمد كثيرًا على رواتها، لكن لم يترجح غلطهم فيها. وهذا القسم المشمول بمطلق القبول والصلاحية وإن لم يصل إلى رتبة الاحتجاج، أرجو أن يكون موضوع مشاركةٍ قادمةٍ، هدفُها الإشارةُ إليه في كلام الأئمة، وأما الوفاء بحقه فإن سبيله البحوث الاستقرائية.
والحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مجموع الفتاوى (24 /350).
[2] الأرقام في هذا النص والذي بعده: تصرف مني، وضعتها من أجل توضيح المراتب.
[3]قوله: "منهم" متعلق بقوله: "ظهر"، أي ظهر منهم الكذب للنقاد العلماء بالرجال أولي المعرفة.