إبل إبليس!
أحمد بن عبد المحسن العساف
وأصدر أ.د. عبد العزيز كتابه في ثلاثة أجزاء بعنوان: روايات غربيّة عن رحلات في شبه الجزيرة العربيّة،
- التصنيفات: أعمال أدبية -
الرّحلات ماتعة بذاتها، وأنيسة حين تروى بلسان أديب، أو تصاغ بقلم أريب، مع خيال مفكر متزن، ولذلك يتخذ القرّاء من كتبها سلوة، أو مادّة لتجديد النّشاط، أو رفيقًا في السّفر. ولحضارتنا العربيّة والإسلاميّة باع متطاول من منتجات هذا الأدب، وعلى رأسها الرّحلة في سبيل طلب العلم، ورحلات الحج ومكتبتنا الإسلاميّة تحوي عددًا منها، وبعضها ترجم إلى لغات عالميّة.
وللعالم الغربي رحلاته الكثيرة نحو شرقنا الإسلامي، وبعضها تقدمة لأعمال عسكريّة كالاحتلال، أو لأبحاث علميّة نتج عنها الموسوعات والتّقارير والأدلة، أو لجهود مهدّت للتّنصير وسلخ بعض المسلمين من ثقافتهم، واستولدت أناسًا من بني جلدتنا؛ وهم في العداوة كاليهود! ولا تخلو تلك الرّحلات من غايات تجارية، أو استكشافية، وربّما صاحبها فضول منبعه الافتتان بالشّرق وغرائبه، وكم في الشّرق من مفاتن!
وترجمت كثير من الرّحلات الغربيّة، وبذلت جهود كبيرة تقف خلفها مؤسسات ثقافيّة ومعرفيّة ضخمة في العراق، والإمارات، ومصر، ولبنان، والسّعودية، وغيرها، وبعضها صدر بطبعات أنيقة، وأسعار مرتفعة، ويتفاوت مستوى التّرجمة والتّحقيق، وينتقل من علياء الاتقان وسمو العلم، إلى حضيض المتاجرة ورزيئة حجب الحقيقة.
ولأستاذنا الكبير البروفيسور عبد العزيز عبد الغني إبراهيم حمدون، عمل باهر، وإنجاز جميل في خدمة أهم الرّحلات الغربيّة التي سبقت الاحتلال الغربي للشّرق العربي الإسلامي، على اختلاف المحتل الغاصب، والمحتل المظلوم. ويتميز عمل البروفيسور باختيار أهم الرّحلات، واختصار أولى ما فيها؛ كي لا يضيع القارئ في متاهات الحواشي، وبالتّالي فكتابه لباب لذيذ، ومن أراد الاستزادة فالأصل ومترجماته متاحة منشورة في الغالب.
ومما يتسامى به هذا الكتاب الماتع، أنّ الذي يقف وراءه، يعتز بدينه، ويفاخر بثقافته، ويقدّس لغته، ويتقن لغة القوم، ويخبر خفاياهم، ولا تروج عليه أكاذيبهم، فضلًا عن كونه صاحب اختصاص طويل في تاريخ الخليج والجزيرة العربيّة، وبصر نافذ بجولات الغربيين فيها؛ فهو عالم وليس تاجرًا، وباحث عن الحقيقة غير متاجر أو مسترزق.
وأصدر أ.د. عبد العزيز كتابه في ثلاثة أجزاء بعنوان: روايات غربيّة عن رحلات في شبه الجزيرة العربيّة، ورأت طبعته الأولى النّور عام 2013م، وحازت سبق نشرها دار السّاقي، وفي مقدّمة كلّ جزء إهداء من المؤلف لحفيده الذي يحمل اسم الجد، وفي الإهداء شموخ، وعزّة، وحنان، وتربية، وكلماته تفيض صدقًا ونصحًا.
ويبلغ عدد صفحات الجزء الأول (460) صفحة، ورحلاته تقع بين عامي 1500-1840 م، وأما الثّاني فعن رحلات كانت بين عامي 1850-1880 م، ويقع في (448) صفحة، والجزء الثّالث يتكون من (432) صفحة، ورحلاته بين عامي 1900-1952م، ومجموع صفحات هذا المنجز الفردي (1340) صفحة، وتعاني هوامش الكتاب الجانبيّة من الضّيق، وتحتاج بعض تواريخه الهجريّة والميلاديّة إلى مزيد تدقيق، والكمال عزيز.
وسبق لي عرض عدد من كتب أستاذنا، وبعض مؤلفاته الثّمينة في حكم النّادر أو المفقود، وليت أنّ مراكز البحث، أو دور النّشر، تسارع إلى هذه الثّروة فتحفظها من الضّياع، وتتفاهم مع مؤلفها الذي وهبه الله نشاطًا علميّاً وبحثيًا وهو في عشر الثّمانين متّعه الله بالصّحة والعافية، وأمتع به. وقد حصلت على نسخة من آخر نتاجه العلمي بعنوان مختارات من وثائق حكومة بومباي، وكانت إهداء من صديق عزيز وفي يسكن في أوروبا.
وفي المقدّمة، أوضح المؤلف الفرق بين تأليف الغربيين لدولهم، واستخباراتهم، وبين كتابتهم العامّة، فالأولى تعبّر عمّا يعتقدونه وإن لم يصيبوا فيه، وأمّا الثّانية؛ فمزيج من خيالات، وكذب، وضخ أحقاد، وتهويل، وبتر، وشيء من الحقيقة، ومع ألأسف، فإنّ هذه التّآليف كوّنت جزءًا من نظرة الغرب إلينا، وصدّقها بعض قومنا، فامتلأ حياءً منها، وجلّها محض اختلاق وافتراء، أو تحريف وتزيّد.
ولهؤلاء الرّحالة شغف كبير بترويج معتقداتهم، وتوهين شأن دين البلاد التي زاروها، ولا عجب ممن يحمل ضغائن الحروب الصّليبيّة أن ينوء بهذا الحقد على دين الأمّة التي طردتهم من بيت المقدس وعموم الشّام. كما أنّ لدى هؤلاء الرّحالة وله مفرط، وولع شديد، بجميع ما يخصّ المرأة، ونقابها، وازورارها عن عالم الرّجال.
وقد نقلوا رؤيتهم المنسجمة مع تربيتهم لأقوامهم، مع بهارات فاسدة من الكذب والغراميات التي تأنف منها العربيّة الشّموس، وتأباها بنات الجزيرة العفيفات، ويبدو أنّ المرأة موضوع خصب عند الغرب منذ القدم، مع أنّ والدة العذراء، وجدّة المسيح-عليهم السّلام- قرّرت أنّ الذّكر ليس كالأنثى؛ فليس للمساواة التّامة بينهما من سبيل بحكم الطبيعة، ونظر العقل، فضلًا عن محكمات الشّريعة.
ومن أهم رحلات هذه الموسوعة الفريدة، رحلة سادلير الذي وفد للجزيرة مهنئًا الباشا على سحق الدّولة السّعودية الأولى، ووأد الدّعوة السّلفيّة الإصلاحيّة في مهدها، وهي تهنئة حملها نصراني لأصحاب أهواء متنازعة! ومنها رحلتا الفرنسي والإنجليزي بلجريف وبيلي، حيث قدما إلى الرّياض إبّان أواخر عهد الإمام فيصل بن تركي في الدّولة السّعودية الثّانية، ومنها رحلات داوتي، وبيرتون، لمكة وحائل وعنيزة.
وفي الكتاب رحلة أول أمريكي للجزيرة العربيّة، وزيارات المنصّرين للخليج، والرّحلة النّسوية الشّهيرة لآن بلنت، وقدوم السّاسة الأجانب للمنطقة مثل كيرزن، وشكسبير، وفيلبي، ولورانس العرب، ولوريمر، وموزيل، ودي جويري، وولفرد تسجر، وبكماستر، ونيبور، ومنصور، ولبعضهم مواقف مع زعماء البلدان المعنيّة.
ولم يغفل المؤلف البصير عن أبرز ملمح يشترك فيه جلُّ الرّحالة الأجانب، وهو عنصريتهم البغيضة، واحتقارهم للأرض العربيّة، وإنسانها، وثقافتها، وهذه السّمة المتأصلة في الغربي الشّاحب من لواهب الجزيرة، توجد اليوم في الغربي الذي تلمعه مواد التّجميل؛ فهم يرون العربي المسلم جاهلًا زائدًا عن الحاجة، لا يصلح إلا مستهلكًا لمنتجاتهم، أو منفذًا لتوجيهاتهم، ومتى انعدمت الفائدة منه فلا بأس من إبادته، استنادًا لمالتوس أو دارون أو سبنسر، والسّلام على حقوق الإنسان!
وبعد؛ فهذا تطواف سريع، وحقّ الكتاب ومؤلفه أعظم من هذه العجالة، بيد أنّي آمل أن يكون لهذا العرض أثر في اقتطاع نصيب من وقت المثقف والقارئ لصالح هذا الكتاب، فهو مختصر، وماتع، وخالٍ من الشّوائب والزّوائد، ولا غرو؛ فقد حرّره عالم خبير، بمنهج علمي متين، وبقلم يستعلي على إفك الغرب، وعقل سليم من زورهم وحبائلهم، وما أجمله من سفر حين السّفر، أو الانقطاع طلبًا للاستجمام.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
مدونة أحمد بن عبد المحسن العسَّاف