نظرات في كتاب "الرسالة المحمدية" :المقال الأول

ملفات متنوعة

ويقول معين الدين أحمد الندوي في مجلة "المعارف"، العدد الخاص بالشيخ سليمان الندوي: " هذا الكتاب يشتمل على مائة وخمسين صفحة، ولكنه يفوق المؤلفات الضخمة حول السيرة في وفرة المعلومات، ونذرة البحوث وشمول النفع، وكفاه مفخرة للمؤلف

  • التصنيفات: السيرة النبوية -

نظرات في كتاب "الرسالة المحمدية" للشيخ سليمان الندوي رحمه الله. 1

بنداود رضواني 


- إطلالة.

يقول أبو الحسن الندوي في مؤلفه " شخصيات وكتب"، في شهادته على كتاب "الرسالة المحمدية" : " هو من أقوى الكتب في السيرة وأروعها في جمال التعبير، وبث حلاوة الإيمان، وثوثيق الصلة بذات النبي صلى الله عليه وسلم، والكتاب عصارة لمكتبة كاملة في السيرة النبوية، وهو هدية ثمينة لغير المسلمين والمثقفين المسلمين، والباحثين عن الحق...". ويقول معين الدين أحمد الندوي في مجلة "المعارف"، العدد الخاص بالشيخ سليمان الندوي: " هذا الكتاب يشتمل على مائة وخمسين صفحة، ولكنه يفوق المؤلفات الضخمة حول السيرة في وفرة المعلومات، ونذرة البحوث وشمول النفع، وكفاه مفخرة للمؤلف. "والكتاب يضم ثماني محاضرات، ألقاها الشيخ باللغة الأوردية- لغة عامة الهند، وتتباعد السنوات بيننا وبينها بحوالي قرن من الزمن، إذ ألقيت تحديدا عام 1925م بجامعة مدراس- بكسر الميم وتسكين الدال- الهندية. وقد ترجمت إلى الإنجليزية والتركية والبنغالية والعربية.
ومن خلال قراءة هادئة ومتأنية، لمؤلف "الرسالة المحمدية"، وغيرها من المؤلفات في علوم القرآن، و الحديث الشريف، والفقه، وعلم الكلام والفلسفة، وعلوم اللغة العربية، والدراسات التاريخية، يتكشف النبوغ والمكانة الرفيعة لهذا الرجل، وتبرز عمله الدؤوب، وجهده المتواصل، وسعيه المتتابع، خلال مسيرة خمسين عاما، بشهادة أقرانه وتلامذته، يقول الشاعر محمد إقبال عن صاحب الرسالة المحمدية: " إنه ليس مجرد عالم، بل هو أمير العلماء، بل ليس بكاتب فحسب، بل إنه إمام الكتاب والمؤلفين، إن شخصه بحر من للعلوم والمحاسن، تخرج-بفتح الخاء- منه مئات من الأنهار، وتسقى منها الألوف من الزروع. ". مقتبس من ترجمة حياة المؤلف" سليمان الندوي والتي خطها ناقل المحاضرات إلى العربية محمد رحمة الله الندوي. 

- محاضرات في " الرسالة المحمدية "

المحاضرة الأولى: سير الأنبياء والكمال البشري.

ينطلق الشيخ رحمه الله، في محاضرته الأولى، من مسلمة كونية، مفادها التباين والتنوع الذي خص الله بهما البريئة، من جماد ونبات وحيوان وإنسان، من حيث التركيب والتكوين، هذا من جانب، ومن حيث قوة الإدراك، وطاقة الإرادة،ونعمة الشعور والإحساس من جانب آخر. وفي محصلة هذا التباين والتنوع يعتلي الإنسان قمة الكمال بين الموجودات دون منازع، من حيث الإدراك والإرادة والإحساس، ويخلص -رحمه الله- إلى أن هذا الإعتلاء هو السر في وضع الأمانة الملقاة كاهل الإنسان. 
وبعد التذكير بهذا التباين التكويني بين المخلوقات، يتحول المحاضر إلى نوع آخر من المفاضلة، بين أصناف الجنس البشري أنفسهم، متوسلا بشخصيات ورد ذكرها في القرآن، وأخرى تاريخية، لإيضاح التمايز والتفاضل بين "من قدم خطة متكاملة للمجتمع البشري المثالي الأفضل"، وحمل معه " علاجا لأمراضه المعنوية وأسقامه النفسية" كما يقول، وبين من هام في أودية الخيال كالشعراء، أو أسس لشتى أنواع الفلسفات والنظريات كالفلاسفة، أو قعد للقوانين والتشريعات كفقهاءالقانون، أو سيطر على أنفس الأقوام ونفائسهم كالجبابرة. فهذه الأصناف الأربعة حسب صاحب الرسالة:" خابت فيهم الآمال ، وأخفق الرجاء، وتحطمت تلك الأحلام التي رآها العالم تجاههم"، والسبب أنهم لم يقدموا أمام الإنسانية حلا ناجعا لمعضلات الحياة، أو قدوة مناسبة لإزالة العقبات التي تعاني منها البشرية في شتى مجالاتها.
لذا هذه فإن البشرية- حسب الشيخ الندوي- لم تجد ضالتها في هذه النماذج المفلسة، بل نالت حاجتها مع الصفوة المختارة من الأنبياء والمرسلين، والتي نهضت بجهود جليلة لإرشاد النوع البشري إلى الهداية والسعادة، وشرف الأعمال، ونبل الأخلاق، وإيجاد الإعتدال والوسطية في القوى البشرية. وفي المقابل فإن الإنسانية جمعاء، كواهلها مثقلة بأفضال هذه النخبة الفريدة من عباد الله المخلصين.

المحاضرة الثانية: سيرة محمد صلى الله عليه وسلم، العالمية والسرمدية.

هذه المحاضرة هي الأهم والأساس، لما سيأتي بعدها من تحرير وبيان لخصائص وميزات "الرسالة المحمدية"، ولقد استهلها الشيخ الندوي بمسلمة التباين والتنوع -مرة أخرى-، والتي تسري كذلك بين الرسل و الأنبياء كلهم، فمنهم الأسوة في الصبر، ومنهم القدوة في الإيثار والتضحية، ومنهم من كان مثالا في الصدع بالحق...
ومع ذلك كانت الحاجة ماسة إلى قائد يقود الإنسانية من بدايتها إلى نهايتها، وإلى سراج وهاج ينور الطريق كله بإرشاداته. ولم يتحقق حلم البشرية إلا في إمام الأنبياء والمرسلين، محمد صلى الله عليه وسلم.
ويؤكد سليمان الندوي رحمه الله، أن ما ذكره ليس ادعاءات كاذبة، بل يستند إلى البراهين القوية، والأدلة القاطعة والشهادات التاريخية، لذا يشترط في أي سيرة توصف بالمثالية أن تتوفر فيها أربعة شروط.

الشرط الأول: التاريخية، والقصد منه أن تكون ترجمة حياة-هذه القدوة- وأحوالها وأخبارها موثقة تاريخيا، عبر إخضاعها لأصول الرواية وقواعد النقد، لا أن تكون مبنية على الميثولوجيا و الحكايات الخيالية، كما هو الشأن بالنسبة إلى "مهابهارتا" و"رامائنا" أبطال الديانة الهندوسية، و"زرادشت" مؤسس المجوسية، و"بوذا" البطل الديني لكل من الهند والصين....، و"موسى التوراتي"، و"عيسى الإنجيلي"، وقد أفضت هذه البيئة الخيالية إلى ظهور المدرسة النقدية داخل علم مقارنة الأديان، واعتماد منهج الشك والريبة في دراسات الشخصيات والزعامات الديني، كان من بين نتائجها السؤال المشهور لوول ديورانت حول تاريخية عيسى: هل وجد المسيح حقا؟.

الشرط الثاني: الكمال، ومعناه أن يتمتع-الشخص القدوة- بالكمال في جميع جوانب الحياة، وأن تكون شؤون حياته ظاهرة أمام أعين الناس، لا تخفى منها خافية. ويبدو أن الشيخ سليمان قد بلغ بالحاضرين إلى نفس نتائج- الشرط الأول- من خلال سبر أغوار حياة "بوذا" و"زرادشت"، مستندا إلى القصص والحكايات الخاصة بهما، والتي لا تلوي على شيء سوى الخيبة والفشل، وأما سيرة موسى التوراتي، فلا تدل على -هي الأخرى- على المثالية والأسوة، وإنما هي وقائع شخصية قد تختلف من شخص لآخر، وأما أناجيل الكنيسة فتفتقر في سيرة عيسى إلى ثلاثين سنة من حياته، ابتداء من مولده حتى كرازته. إنها فترة رمادية لايعرف عنها شيء من أحوال عيسى الإنجيلي وحياته،.!!!

الشرط الثالث: الشمول والإحاطة، وهو شرط يعزز شخصية النموذج المثالي والقدوة الحسنة، وفي اعتقاد الشيخ سليمان أن هذا الشرط، لا يتجسد إلا في محمد صلى الله عليه وسلم، وأما حياة الزعماء الدينيين الآخرين، فخالية من طلب معرفة الله، والكشف عن ذاته وصفاته، خالية من محبة الله سبحانه، فأسفار التوراة الخمسة-مثلا- كلها، لا تشير لا بالتلميح ولا بالتعريض، إلى ما كان في قلب موسى عليه السلام من الحب لله تعالى. والأمر نفسه بخصوص عيسى عليه السلام، إذ نقف في الأناجيل على اعتراف الإبن-أي عيسى- أن الأب- أي الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا - كان يحب ابنه حبا شديدا، لكن لا ندري مدى حب هذا الإبن لأبيه؟!.. يتساءل المحاضر.
ويشتد افتقار هذه الشخصيات لشرط الشمول والإحاطة-هذا إن سلمنا بوجودها تاريخيا-، حين نقرأ ماخطه البوذيون حول خلوة زعيمهم، واعتزاله للناس، وما كتبه أحبار اليهود حول موسى من اقتصار كل أحيانه وأحواله على الجهاد والبسالة فقط، وما دونتها الكنيسة عن عيسى، بخصوص حياته، فلا قدوة ولا أسوة قدمت لمختلف الناس، من الرعاة، والحكام، وأرباب الأسر...، فلو أن البشرية سلكت طريق هاته الشخصيات لكان مصيرها الخراب لا محالة.

الشرط الرابع: العمل أو العملية، إذ بالإمكان أن يعرض الواحد منا نظريته أمام العالم، وتحظى بالقبول، لكن الشىء الصعب تجسيده هو العمل، فالسيرة التطبيقية هي التي تقرر أنك إنسان صالح ام فاسد.
ومادام شرط الشمول غائب عن زعماء الأديان -السالف ذكرهم-، فتبدو الحاجة ملحة إلى أسوة عملية متحركة في جميع جوانب الحياة، على مستوى الفرد والجماعة، مثل الحرب والهدنة، الغنى والفقر، الغضب والرضا، الظاهر والباطن...
ويختم سليمان هذه المحاضرة بأنه لايجرد باقي الأنبياء من هذه الصفات، ولكن المشكلة في أن سيرهم خالية من هذه الخصائص والصفات