طلب ليلة القدر وفضلها
محمد صالح المنجد
ربنا الذي أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم في هذا الأجر العظيم، للصابر فيهن أجر خمسين منكم، يعلم أن الزمن المتأخر سيكون في الفتن، والملهيات، والمغريات، والأشياء التي تصرف عن الطاعة مالا يوجد في الزمن المتقدم
- التصنيفات: ملفات شهر رمضان -
إن المؤمن دائماً يأمر أهله بالصلاة، والزكاة، ودائماً يحذرهم غضب الله، ويقيهم ونفسه ناراً وقودها الناس والحجارة، ولكن هذه الأيام فيها زيادة في الاجتهاد، والتشمير في طاعة الله تعالى، ومعرفة شرف الليالي،
وطلب ليلة القدر التي من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، لاشك أنه دليل الإيمان؛ لأن المؤمن تتحرك نفسه لعبادة الله في الأوقات التي يحبها الله ويفضلها الله تعالى على غيرها، ولذلك فإن العابد لله يجتهد في هذه الأيام محبة لربه؛ لأن المحب ينظر في محبوبات من يحبه فيأتيها، فإذا صدقنا في محبة الله، وجب أن نجتهد في هذه المواسم التي يحبها الله تعالى، وندبنا إلى طاعته فيها، وفتح لنا الأبواب، وأعطانا الفرص،
إن عبادة هذه الليلة خير من ألف شهرٍ، أكثر من ثمانين سنة، عمر إنسان معمر تعاطها يا عبد الله في ليلة واحدة، فيا فرحة من انتهزها بطاعة الله، ويا خسارة وغبن من فوت الفرصة الثمينة على نفسه وأهله، والعبادة تحتاج إلى مصابرة، ولا شك أن طول القيام يتعب الأقدام، ويؤلم الأجساد، ولكن المسلم يكابد ذلك ويعانيه، ويصابر من أجل نيل رضا الله سبحانه وتعالى، وكذلك فإن المغريات في هذا الزمان أكثر من زمان السلف بكثير، ولا مقارنة بين زماننا وزمن السلف في المغريات والملهيات، ولذلك فإن الصبر عليها في زمننا أكثر أجراً من الصبر عليها في زمن السلف، ولماذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم للصابر في آخر الزمان أجر خمسين منكم أي من الصحابة؛ لأن ربنا الذي أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم في هذا الأجر العظيم، للصابر فيهن أجر خمسين منكم، يعلم أن الزمن المتأخر سيكون في الفتن، والملهيات، والمغريات، والأشياء التي تصرف عن الطاعة مالا يوجد في الزمن المتقدم،
مالم يوجد في الزمن الأول، فلم يكن عندهم تقنيات، وشاشات، والشيوع للمحرمات، وإغراء بها، ونشر لها كما يوجد في هذه الأيام، فانتهز الفرصة يا عبد الله بالمصابرة لأجل الطاعة، واترك اللهو، قال تعالى: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ} [سورة الجمعة: 11] فهذا اللهو الذي يشغل عن الطاعة، ينبغي التباعد عنه، ونسيانه في هذه الأيام وفي غيرها، فكيف وقد قام السوق، وقد فتحت الأبواب، وتزينت الحور للخطاب، هذه مواسم الخير العظيمة قد وردتنا من ربنا، وأناس لم يحضروها قد غيبوا تحت التراب، فما بالك يا عبد الله وقد خوطبت بهذا الخطاب الذي يأخذ بالألباب، وكانت الوصية من الرب سبحانه وتعالى الذي أنزل الكتاب بأن تجتهد في طاعته وعبادته حتى تنال جزيل الثواب.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر رجاء إصابة ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، «من يقم ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه»، { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [سورة الدخان: 3]،
وليلة فيها نزل القرآن من عند الله الحكيم العليم، وكان الفصل بين اللوح المحفوظ إلى الكتبة، وهذا الفرق يفرق فيها كل أمر حكيم، ما في هذه السنة من الأرزاق، والآجال، والخير و الشر يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة لتنفيذه، هذه الليلة ينزل الله فيها في صحف الملائكة التعليمات، والأقدار بالآجال والأرزاق، وما يقسمه تعالى بين عباده، فإذا أصابتها فهذا من مصلحتك للعام القادم كله، فمصير السنة القادمة وما فيها في ليلة القدر يفصل فيها، يفرق فيها كل أمرٍ حكيم،
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [سورة القدر: 1] وما أدراك لشرفها، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} في ثوابها، {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، وفيها نزول الملائكة الذين هم في الأرض أكثر من عدد الحصى، {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ} وجبريل كذلك ينزله الله إلى الأرض، فإذا نزل الروح الأمين، والملك الكريم، ذو المرة من أجلنا، والملائكة من أجلنا بإذن ربهم، يتنزلون من كل أمر، منه سبحانه،
إنهم يكونون معنا في الطاعة والعبادة، وبركة حضور الملائكة عظيمة، وهذه الليلة سلام، سالمة من العذاب، والشر بالنسبة لأهل الخير، {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}،
إنها مباركة بكثرة خيرها وفضلها، إنها شريفةٌ، جليلةٌ، عظيمة، لقد رفع الله تعيينها لمصلحتنا، لأنها لو عينت وخصصت بشيء معلوم لنا؛ لما اجتهد الناس إلا هذه الليلة المعينة، لكن رفع الله تعيينها بسبب تلاحي رجلين، وهذا يبين سوء الخصومة بين المسلمين، لكن كان ذلك السبب من الشر في النهاية خيراً للأمة، وهذا يبين أنه ليس في أفعال الله وتقديره شرٌ محض، ففيها خير للأمة من جهة أنها ستتوجه إلى تحري الليلة فتزداد خيراً، وتزداد أجراً، وتزداد فضلاً، ثم قلوبهم تترقب معنى الرجاء في إخفاء ليلة القدر أكثر منه عند تعيينها، فتعلق القلوب بالقبول والثواب وإصابة ليلة القدر أكثر عندما تكون مخفية، ولذلك اقتضت حكمته أن يخفيها عن عباده،
فقال عليه الصلاة والسلام: «تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان» وفي الأوتار أقرب منها في الأشفاع، كما قال عليه الصلاة والسلام «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان»، وهي في السبع الأواخر أقرب؛
لقوله عليه الصلاة والسلام: «أرى رؤياكم قد تواطأت يعني اتفقت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر»،
وقال: «التمسوها في العشر الأواخر فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي»، وكذلك فقد ذكر كثير من العلماء أنها تنتقل فتكون في عام ليلة، وفي عام آخر ليلة أخرى تبعاً لمشيئة الله وحكمته، وأكثر ما تكون ليلة سبع وعشرين، ولكنها يمكن أن تكون في غيرها.
قال ابن حجر رحمه الله: أرجح الأقوال أنها في وتر من العشر الأخير، وأنها تنتقل، ومن كان جاداً في طلبها، حريصاً عليها، يريد إصابتها، فسيجتهد في العبادة، وقد حصل في عهد النبي عليه الصلاة والسلام إشارة إلى أنها في ليلة واحد وعشرين تارة، وإلى أنها ليلة ثلاثٍ وعشرين تارة، وإلى أنها ليلة سبعٍ وعشرين تارات، ولذلك ينبغي للمسلم الاجتهاد إلى نهاية الشهر لأنها قد ورد أيضاً أنها في آخر ليلة من رمضان.