لماذا نعتمر في رمضان (2)

محمد حسين يعقوب

«عمرة في رمضان كحجة معي» لو استشعرت عظمة هذا الوعد النبوي الصادق، أنك إذا اعتمرت في رمضان عمرة صادقة بنية خالصة ومتبعة بإحسان على منهج النبي تكون كأنك حججت مع النبي.

  • التصنيفات: فقه الزكاة - مناسبات دورية -

رابعًا: التبتل:
إننا نحتاج أن نعمل أعمالًا جديدة، نريد أن نقوم بأعمال لم نقم بها قبل ذلك، هذه الأعمال الجديدة تجدد الإيمان، تنشط الدورة الإيمانية، ومن هذه الأعمال التبتل، والتبتل معناه الانقطاع: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8]،

أي انقطع إليه انقطاعًا.. وأنصحك أن تبحث أحيانًا عن مسجد بعيد عن حيك، لا تعرف فيه أحدًا، ولا يعرفك فيه أحد.. اذهب وامكث هناك يومًا كاملًا من العشاء للفجر، أو من الظهر إلى العشاء، انقطع تمامًا.. ليس معك تليفون، ولا جَوَّال، ولا أحد يعرفك، ولا أحد يصل إليك ويراك، وتلبس ثيابك وتجلس مسكينًا فقيرًا ذليلًا متمسكنا، تنقطع عن انشغالاتك بالدنيا وتُقبل على الله بكل قلبك.


وفرصتك لذلك التبتل في الكعبة أعظم وأفضل عندما تترك زوجتك وأولادك وعملك ومالك وأصدقاءك وزملاءك وتليفوناتك وتنقطع لعبادة الله وحده لا شريك له.
إن معنى التبتل الانقطاع، أما أن تذهب إلى هناك ومعك هواتفك وتتابع عملك من هناك.. ماذا فعلتم؟، ماذا اشتريتم؟، ماذا بعتم؟، هذا ليس معنى التبتل.


أنت قلت: لبيك لا شريك لك، فلماذا جعلت معه شركاء، لبيك يا الله. أم لبيك للمصنع؟، لبيك يا الله أم لبيك للشركة؟، هل تقول: نعم أنا معك لكن أنا أيضًا مع الناس ومع مصالحي وشهواتي وآمالي الدنيوية ... هذا لا يصح أبدًا.
الملك لا يرضى ذلك، ولا يقبله، إما هو وحده وإلا فلا..


تبتل.. انقطع.. اترك كل شيء خلف ظهرك، حاول أن تنسى الدنيا بما فيها ومن فيها، لذلك إياك أن تتكلم وأنت هناك في التليفون كل الأيام بل اجعله للضرورة فقط كأن تطمئن على زوجتك وأولادك، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان معتكفًا وجاءت إليه السيدة صفية -رضي الله عنها- تزوره، وخرج معها فأوصلها إلى بيتها، فتعلمنا من هذا جواز السؤال للاطمئنان على الزوجة والأولاد. كل عمل بدليل إنه شرع ودين.

 

لا بأس أن تطمئن على أهلك، بل هذا هو المطلوب منك أن تسأل عن أخبارهم، وتطمئن على أحوالهم؛ لأنهم مسئوليتك، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته»، هذه مسئولية شرعية وليست دنيا، أما المصنع والعمل فدعك من كل هذا.


نريد أن نعيش حياتنا يومًا بيوم، فما أسرع موت الناس اليوم، اللَّهم ارزقنا حسن الخاتمة، نريد أن نستفيد من موت الناس من حولنا ألا نعيش الدنيا باتساعها.. بطول الأمل فيها، بل عش كل يوم جزئية مستقلة بذاتها.
أيها الإخوة..
نحن اليوم على قيد الحياة، وغدًا في علم الله، لا ندري ماذا يكون فيه، فأتقن عبادتك في يومك ودعك من كثرة الشواغل، وحقق معنى التبتل وهو الانقطاع للعبادة


ودعني أنتقل معك مرة ثانية إلى النيات: لماذا نذهب إلى العمرة؟
لأن في هذا جوابُ كثيرٍ من الإشكالات، فإن بعض الناس يذهب إلى العمرة، ثم يأتي يشكو ويقول: ذهبت إلى العمرة، ولكني لم أجد قلبي.. كنت أظن أني سأكون هناك في قمة الإيمان وسأشعر بروحانية كأنني أطير في السماء وأعيش في الجنة، كنت أظن أني سأموت من الفرح والسعادة، ولكني لم أجد شيئًا من ذلك للأسف الشديد!، إن كثيرًا من المسلمين يعيش وهمًا.. وهما حقيقيًّا.. يظن أنه بمجرد أن يذهب ويرى الكعبة سيطير بجناحين!!


أقول: لا يا أخي، بل هذا الأمر يحتاج إلى عمل إلى عبادة حتى يتحصل لك ما تتمناه.. أنت لماذا ذهبت إلى هناك، لو قلنا: للتبتل، فهذا يعني أنك 

ذاهب لعبادة الله، صلاة وذكر ودعاء وطواف وقراءة قرآن واستغفار.. إن فعلت ذلك وداومت عليه وجدت ثمرته وإلا فلا ولكل سلعة ثمن.
بعض الناس يذهب فيقوم بالعمرة فقط، ثم يذهب ليجلس في الفندق ويصلي في المسجد المجاور للفندق!، وكأنها سياحة!
وبعض الناس -للأسف الشديد! - يقضي أيامه هناك نائمًا، حتى في الاعتكاف في العشر الأواخر، تجده يصلي الظهر ثم ينام، ويصلي العصر ثم ينام، فمن أين إذًا تجد قلبك؟!، وكيف بحالك هذه تجد قلبًا؟!
حج الإِمام مسروق بن الأجدع التابعي المعروف فما نام إلا ساجدًا، إنه لم يضع جنبه على الأرض، وما نام على ظهره، وإنما كان يغلبه النوم وهو ساجد، ما نام على سرير، ولا استلقى على ظهره!، كان يصلي طوال الوقت، فكان من طول الصلاة ينام وهو ساجد، هذه هي الهمة، إننا نذهب بنية التبتل، فلابد أن نعمل حقيقة، ونجتهد في هذا العمل.
من يذهب بنية التبتل لا بد أن يكون له برنامج عمل يقوم به، ينظر أيهما أفضل: الصلاة أم الطواف أم تلاوة القرآن أم الذكر أم حضور مجالس العلم، ماذا يعمل؟، وماذا يقدم؟.


يقول العلماء: إن كل عمل لا يؤدى إلا في محل ووقت فهو واجب الوقت.
فأفضل الأعمال ما كان موافقًا لمكانك ووقتك، فعندما تكون في الحرم؛ دروس العلم موجودة لكنها موجودة في أماكن أخرى وفي أوقات أخرى، تستطيع أن تجلس فتنشغل بالذكر، لكن الذكر له أوقات غير محددة، بل تستطيع أن تذكر في أي وقت وفي أي مكان، إذا الطواف يُقَدَّم، تقرأ فيه القرآن وتدعو وتذكر.. لأن الطواف لا يوجد إلا حول الكعبة، فهذا محله وهذا وقته فهو أولى، وهذا من فقه العبادة..

بعض الناس لا يطوف إلا طواف العمرة فقط، وهذا فهم خاطئ، بل كلما وجدت السبيل للطواف طف، كلما دخلت الحرم ووجدت السبيل للطواف طف.


وقد تجد من يقول: الطواف فيه اختلاط، والنساء يسرن إلى جوارك وخلفك وأمامك، أقول: وهل وقت الطواف يشعر فيه الإنسان بالنساء؟، إنك تحتاج إلى علاج قوي من البداية، لا بد أن تفهم أولًا ما هو قدر الكعبة، ولابد أن تفهم معنى الحب معنى حب الله سبحانه.
فحين تفهم معنى الحب، وتعرف الله سبحانه، وتعرف أنك في بيته، وتعرف قدر بيته سبحانه وتعالى، وأنت تطوف حول بيت حبيبك بالحب؛ فلن تشعر ساعتها بمن حولك.


ولكن بعض الناس أساء إلى الحب، فالحب معنى، والعلماء يقولون: الألفاظ قوالب المعاني، فلو أنك وضعت المعنى في قالب معين فإنك بهذا تُضيِّقُه.. تُصَغِّره، فلو أردت أن تقول لإنسان: ما هو الحب؟، فقد أخطأت في الحب.
الحب معنى فلا يوضع في قالب، ولا يُحَجَّم، الحب معنى سام جدًّا، معنًى عالٍ، وخصوصًا إذا تكلمنا عن حب الله، فهو معنى يُحَس.. يُعَاش، ولا يُوصف، هذا ما أطالبك به؛ أن تذهب إلى العمرة بالحب، وبالطبع إضافة الشرطين الآخرين الخوف والرجاء، وكذلك أن تصوم رمضان بالحب والخوف والرجاء، أن تصلي بحب وخوف ورجاء، وهكذا كل عباداتك وأحوالك مع الله، ساعتها ستعيش معانيَ لا تستطيع أن تصفها، إذا سئلت: بماذا تشعر؟، تقول؛ أشعر أني أحب الله جدًّا.. أحس أني أحب الله حبًّا شديدًا، هذا المعنى لا يوصف وإنما يُحَسّ فقط.

 

وهناك معان في الإِسلام لا تفسر مثل: قرة العين، والسكينة، والحب، فهذه أشياء لا توصف، لا تُعَلَّم، لا أستطيع أن أُعَلِّمك كيف تحب الله؛ وإنما أستطيع أن أقول لك: افعل كذا لكي يحبك..
الشاهد: أنك عندما تشرع في الطواف تتذكر عظمة هذا البيت.. وشدة شوقك إليه، أحد الإخوة عندما ذهب إلى العمرة أول مرة ونظر إلى الكعبة قال: سأصاب بالذهول.. بيت ربنا فيه قطعة من الجنة: الحجر الأسود من الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضًا من اللبن فسودته خطايا بني آدم»، فإذا لمست الحجر الأسود فقد لمست شيئًا من الجنة.


ذهبت جارية إلى الحج؛ فقالت لمن برفقتها: أين بيت ربي؟، فكانوا يقولون لها: اصبري حتى تري بيت ربك، فلما دخلوا المسجد الحرام ورأوا الكعبة قالوا لها: هذا بيت الله، فجرت وهرولت وهي تقول: بيت ربي.. بيت ربي، حتى وضعت خدها على الكعبة فما رفعوها عن جدار الكعبة إلا ميتة!!


هذا هو المعنى، وهؤلاء هم الذين شعروا به وأحسوه، بيت ربي.. بيت ربي!!، إحساسك عندما ترى الكعبة بأن قلبك قد طار والتصق بالكعبة.. ببيت ربك.. بيت حبيبك.. بيت الله، هذا هو المطلوب.. الله الذي لم تر منه إلا خيرًا، هو الذي أوصلك إلى الكعبة، فله الحمد والمنة سبحانه وتعالى.
فإذا وصلت إلى هذا البيت ورأيته ولمسته وأنت الآن تطوف حوله، إن المشتاق ساعتها لا يحس بمن حوله، وإن المحب ساعتها لا يدري من بجواره؛ لأنه يطوف حول بيت حبيبه يناجيه وكأنه وحده معه.


سادسًا: صحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حجة:
هذه نية غالية بهمة عالية، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عمرة في رمضان كحجة معي»  لو استشعرت عظمة هذا الوعد النبوي الصادق، أنك إذا اعتمرت في رمضان عمرة صادقة بنية خالصة ومتبعة بإحسان على منهج النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ تكون كأنك حججت مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، يا لها من عمرة!!.. بل ركضة إلى الفردوس الأعلى.. انوِ صادقًا.. وإنما لكل امرئ ما نوى.


سابعًا: مغفرة الذنوب المتقدمة:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الجمعة إلى الجمعة، والعمرة إلى العمرة، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر»، فانظر إذا اجتمعت لك جمعة في رمضان في العمرة فقد اجتمعت لك ثلاثة أسباب لمغفرة الذنوب المتقدمة في وقت واحد، فهذا حري أن تعود كيوم ولدتك أمك وصحيفتك بيضاء نقية لاذنب فيها.


فألزم نفسك تلك النية، أنك تريد أن تُغسل مق ذنوبك، وتغتسل من خطاياك وآثامك، وتتطهر من غدراتك وفجراتك، تريد أن تبدأ حياةً جديدة بتاريخ ميلاد جديد؛ لتكون عبدا جديدا لله -عز وجل-.. فأقبل ولا تخف..


ثامنًا: أعالى القصور من أعالى الأجور:
لا شك أنَّ تاجرًا حريصًا، وخبيرًا خِرِّيتًا لا يرضى بالغُبن في تجارته، فضلًا عن خسارته، وقد رأينا أنَّ التجار يسافرون إلى أقصى بلاد الأرض طلبًا لربحٍ زائد، فكيف برجلٍ عمرُهُ قصير، وأجلُة قريب، وعملُهُ قليل، وجَهْدُهُ ضعيف؛ أمَامهُ فرصة أن تُحْسَبَ له الركعة بمئة ألف، والتسبيحة بمئة ألف، والحرف من القرآن بمئة ألف.


واللهِ، إنه لفوزٌ عظيم، وفرصة لا تُعوَّض، إنها حقًّا غنيمة باردة، لا تعجب من تكرار هذه الكلمة معنا؛ فواللهِ أنا لا أدري كيف أشكرُ الله على هذه النعمةِ العظيمة، ولا أدري إلى أيِّ مدى سيبلغ حبُّ القلب لهُ سبحانه وتعلُّقه به بعد هذه المِنَنِ الجِسام.
فإنه سبحانه وَعَدَ على الحسنة بعشر أمثالها، وقلنا: رضينا ربي، ثم وعد على الدرهم بسبعمئة في الإنفاق، فقلنا: رضينا ربي، وجعل النفقة في الحج والعمرة كالنفقة في سبيل الله بسبعمئة ألف أيضًا؛ فقلنا: رضينا ربي؛ فإذا بالكريم يَزيدنا: أنَّ الحسنة هناك في بيته الحرام في الكعبة بمئة ألف، وفي مسجد حبيبه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الحسنة بألف قياسًا على الصلاة، وهذا مذهب ابن عباس - رضي الله عنهما - المسألة: أنَّ كل الأعمال تُضاعف في الحرمين الشريفين.
فأقبلْ يا بطَّال؛ فرصةُ العمر، {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ*وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: 114-115].. اغتنم هذه الفرصة وارحل إلى عمرة رمضان؛ تجد المضاعفات من الخيرات، والبركات والحسنات، والفرص والمكآفات.


ولا يفوتني أن أُحَذِّرَك أنَّ مذهب ابن عباس -رضي الله عنها- هذا في غاية الخطورة؛ فإنه ثبت عنه -رضي الله عنه- أنه انتقل من مكةَ إلى الطائف، فقيل له: أترغبُ عن البلد الحرام؛ قال: وما لي لا أرغبُ عن بلدٍ تُضاعَف فيه السيئات كما تُضاعف فيه الحسنات. فكما بشَّرتُك أُحِذرك؛ أنه إذا كانت الحسنةُ بمئة ألف؛ فالسيئة بمئة ألف. 

ولعلَّه يدلُّك على هذا قولُ الله -عز وجل-: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] فتُوُعِّدَ بعذابٍ أليم لمجرد الإرادة، وهذا مُسَامَحٌ فيه في غير هذا المكان؛ فدَلَّ على أن المعاصي تُضاعف عقوباتهُا لشرفِ المكان.
وإني وإن كان يَبهرُني أن يُكتبَ لك مئةُ ألف قيراط في الجنة بصلاة جنازة واحدة، القيراط كجبل أحد، تصديقًا بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ «إلا أنه يُفزعُنِي أن نظرةً واحدة إلى وجه امرأةٍ في الحرم تُكتب بمئة ألف زَنْيَة».


الخلاصة: لماذا نعتمر في رمضان؟
(1) ليجتمع لنا أفضل الأعمال في شرف الزمان، وشرف المكان، وشرف الأعمال.
(2) الرحلة إلى الله.
(3) الفرار إلى الله.
(4) الهجرة إلى الله.
(5) التبتل والانقطاع والتفرغ لله.
(6) صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة.
(7) مغفرة الذنوب المتقدمة.
(8) أعالي القصور من أعالي الأجور.