نجوم موطأ مالك وفوائده...!

حمزة بن فايع الفتحي

مكث الإمام مالك رحمه الله ( أربعين سنة ) يقرأ الموطَّأَ على الناس ، فيزيد فيه وينقص ويُهذِّب ، فكان التلاميذ يسمعونه منه أو يقرؤونه عليه خلال ذلك

  • التصنيفات: طلب العلم -


حينما تطالع كتابه يشدك بسلاسة سياقاته، وحسن ترتيبه، فتلج إليه بسهولة، وتفقهه بانسيابية، قد رُصع بالنجوم، وازدان بالزخرفات، قال الإمام الشافعي في مؤلفه: ( إذا ذُكرت السننُ، فمالكٌ النجم ) .
وخلّف للأمة نجماً مزدهراً بين الكتب، ومصباحاً مضيئا بين مناحي المعرفة، يسطع فيسطع ولا يزال وهاجا، متدفقا ثجاجاً، ينهل الناس من ينبوعه ، ويرشفون من موارده، ولما صنّفه قيل له: قد صُنف موطاءات فقال( ما كان لله بقي ).
إنه الإمام الحافظ الحجة أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبَحي الحِميري المدني (١٧٩) رحمه الله.
ممن جمع بين الفقه والحديث والعقل والوقار، وهو إمام متبوع معروف، طبّق ذكره الآفاق ، واشتهر بكتابه ومذهبه الفقهي، وللشافعي أيضا : ( ما بعد كتاب الله تعالى كتابٌ أكثرُ صواباً من موطأ مالك ).

وهنا معالم وتنبيهات :

١/ توسطه واعتداله العلمي: ذكر العلامة ابن خلدون رحمه الله في تاريخه قال: ( حجَّ أبو جعفر المنصور ولقيه مالك بالمدينة ، فأكرمه وفاوضه، وكان فيما فاوضه : يا أبا عبد الله لم يبقَ على وجه الأرض أعلمِ مني و منك، وقد شغلتني الخلافة، فضَع أنت للناس ( كتابا ) ينتفعون به، تجنّب فيه رُخصَ ابن عباس، وشدائد ابن عمر, ووطّئه للناس توطئةً، قال مالك : فلقد علمني التصنيف يومئذ..).
وهذا معلَم منهجي في التأليف، خليق بطلاب العلم أن يتعلموه وينتهجوه، وهو تقريب العلوم بلا تطويل ولا تعقيد، نحو الموطأ والرسالة وزاد المعاد وجلّ كتب ابن القيم رحمه الله الجميع .

٢/ الأقدمية : هو أول مصنّف جامع بين الحديث والفقه، مرتب الأبواب، ولَم يشترط فيه الصحة مطلقا. قال ابن العربي رحمه الله في شرح الترمذي :الموطأ هو الأصل واللباب، وكتاب البخاري هو الأصل الثاني في هذا الباب، وعليهما بنى الجميع كمسلم والبخاري...!

٣/ نفعه وبركته : قال الإمام الشافعي رحمه الله ( ما كتابٌ بعد كتاب الله، أنفعَ من كتاب مالك بن أنس) ، وهذا القول قبل ظهور الصحيح .

٤/ قطعة من الذهب : قال الإمام البخاري رحمه الله:( أصح الأسانيد كلها: مالك عن نافع عن ابن عمر ). وكثيرًا ما ورد هذا الإسناد في الموطأ .

٥/ موطأ معروض : نُقِل عن مالك رحمه الله أنه قال : ( عرضت كتابي هذا على سبعين فقيها من فقهاء المدينة ، فكلهم واطَأَنِي عليه ، فسميته الموطأ ) أي وافقوه، وقيل: الموطأ: الممهد المسهّل للناس...! وهذا سبب التسمية . قال بعضهم :
ومالكٌ قد وطّأ الكتابا / وانساب في تسهيلِه انسيابا
ونحو سبعينَ من الأشياخِ/ قد وافقوه دونما تراخي...! 

٦/ تحرير ومراجعة : مكث الإمام مالك رحمه الله ( أربعين سنة ) يقرأ الموطَّأَ على الناس ، فيزيد فيه وينقص ويُهذِّب ، فكان التلاميذ يسمعونه منه أو يقرؤونه عليه خلال ذلك ، فتعددت روايات الموطأ، واختلفت بسبب ما قام به الإمام من تعديل على كتابه، وحصل تفاوت بين النسخ، ومن أشهرها أبو مصعب والليثي رحمهما الله ...!
وقد أخذه عنه الأوزاعي في أربعين يومـًا ، فقال مالك : كتاب ألفته في أربعين سنة أخذتموه في أربعين يومـًا ! ما أقلَّ ما تفقهون فيه...!

٧/ محتواه : أحاديث مرفوعة، مزجها بأقوال الصحابة والتابعين واختياراته الفقهية وعمل أهل المدينة، ولَم يخلُ من المرسلات والبلاغات التي كان يُحتج بها في زمانه..!

٨/ منهجه في الكتاب : سار في موطئه على طريقة المؤلفين في الأحكام في عصره ، فمزج الحديث بأقوال الصحابة والتابعين والآراء الفقهية ، حتى بلغت آثار الصحابة : ( ٦١٣ ) أثرا ، وأقوال التابعين : (٢٨٥) قولا .
يقدم في الباب الحديث المرفوع ثم يتبعه بالآثار ، وأحيانا يذكر عمل أهل المدينة ، فكتابه كتاب فقه وحديث في وقت واحد ، وليس كتابَ جمع للروايات فقط ، لذلك تجد بعض الأبواب تخلو من المرويات ، وإنما يسوق فيها أقوال الفقهاء وعمل أهل المدينة واجتهاداته ، ومن ذلك :
(باب ما لا زكاة فيه من الثمار) ، و( باب صيام الذي يقتل خطأ ) ..وغيرها .
ونجد أيضا أنه اقتصر على كتب الفقه والأدب وعمل اليوم والليلة ، وليس في كتابه شيء في ( التوحيد أو الزهد أو البعث والنشور والقصص والتفسير) .

٩/ تعداده : في رواية يحيى الليثي رحمه الله : بترقيم الشيخ خليل شيحا ، فبلغ فيها بترقيمه (١٩٤٢) حديثا ، تشمل المرفوع والموقوف .
وأما رواية أبي مصعب الزهري رحمه الله : فقد رُقمت ، فبلغ عدد أحاديثها (٣٠٦٩) حديثا ، وقد شمل الترقيم كل شيء، فطالت وتعددت .
وافتتحه بكتاب الطهارة ( باب وُقوت الصلاة ) وحديث أبي مسعود البدري وخبر جبريل في الأوقات(.. أَلَيْسَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ فَصَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ....).
وختمه بكتاب الجامع ( باب أَسْمَاء النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
وحديث محمد بن جُبير مرفوعا:( لِي خمسة أَسْمَاءٍ : أَنَا محمد، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يمحو اللَّهُ بِيَ الكفر،..).

١٠/ شخصيته البارزة وعمل المدنيين : لعله من أقوى الكتب ظهورا للمحدث من بيانه للاجتهادات الفقهية، واحتجاجه بعمل أهل المدينة، لا سيما ما يجري منه مجرى النقل والاحتجاج، وهو يزيد على (٣٠٠) موضع . ولشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة قيّمة اسمها ( صحة أصول مذهب أهل المدينة )، ومن الكتابات المعاصرة: عمل أهل المدينة بين مصطلحات مالك وآراء الأصوليين لأحمد نور سيف، أطروحة ماجستير .

11/ بلاغاته : وقد بلغت (٢٢٨) ومعناه ما يقول فيها مالك: ( بلغني أو نحوه)، من غير أن يبين من روى عنه كقوله: بلغني عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (للمملوك طعامُه وكسوته)..! وهي ضعيفة في الجملة، غير أن مالك يتحرى. قال الذهبي في الموقظة : ( بلاغات مالك أقوى من مراسيل مثل حميد وقتادة، لأن مالكاً متثبت ).
وقد وصلها كلها العلامة ابن عبد البر النمَري رحمه الله في كتابه( التمهيد ) إلا أربعة أحاديث لم يجدها مسندة،
ووصلها الحافظ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله في رسالة بعنوان: ( رسالة في وصل البلاغات الأربعة في الموطأ ).

١٢/ سَعَة عقله وعلمه : ذكر صاحب الحلية : أنه لما حج الخليفة هارون الرشيد، سمع الموطأ من الإمام مالك، فرغب أن يعلّقه في الكعبة، ويحمل الناس على العمل بما جاء به ، فأجابه الإمام مالك رحمه الله بجواب فقيهٍ محدّث واعٍ : ( لا تفعلْ يا أمير المؤمنين ، فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلاد ، وكلٌ مصيب ) فعَدل الرشيد عن ذلك .

١٣/ مصطلحاته : نحو
• ( تلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا ) .. يقصد أهل المدينة
• الامر عندنا: أي أهل المدينة.
• لم أر أحداً من أهل العلم يكره ،،، أي مجمع عليه . 
• هذا أحبُّ ما سمعت إلي... يقصد الراجح عنده .
• كل ما في كتاب مالك (أخبرني من لا أتهم من أهل العلم ) فهو الليث بن سعد، كما قال ابن وهب، رحم الله الجميع . 

١٤/ زوائده على الستة : اعتنى بها الشيخ المحدث صالح الشامي وفقه الله هي والمسند، وطبعت في (٣) مجلدات ، دار كنوز أشبيليا سنة(١٤٣١)هـ.
وكتب الشيخ عبد السلام العامر زوائده على الصحيحين، وبلغ بها(٨٦٨) حديثا . 

١٥/ شروحاته : كثيرة ومتنوعة وأحسنها وهو مطول : الاستذكار والتمهيد للحافظ ابن عبد البر النمَري رحمه الله (٤٦٣)هـ .
ويوصى المبتدئون بشرح العلامة الزرقاني رحمه الله