سياسة التهميش في العمل الإسلامي

محمد المصري

التهميش هو ذاك الحديث الذي غالبًا ما يتناوله الإسلاميون عند حديثهم
عن معاناتهم التي عانوها من قبل الدول و الأنظمة التي تحمل فكر يخالف
ويتصادم مع المنهج الإسلامي هذا هو غالب الحديث عندما نتكلم عن
التهميش...

  • التصنيفات: السياسة الشرعية -


بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم:

التهميش هو ذاك الحديث الذي غالبًا ما يتناوله الإسلاميون عند حديثهم عن معاناتهم التي عانوها من قبل الدول و الأنظمة التي تحمل فكر يخالف ويتصادم مع المنهج الإسلامي هذا هو غالب الحديث عندما نتكلم عن التهميش.

ولكن في حديثنا هنا لن أتحدث عن هذا النوع من التهميش ولكن سأتحدث عن نوع آخر وهو الذي قد يمارسه بعض المربين أو الأفراد في العمل الإسلامي تجاه البعض ممن يحمل الفكر الإسلامي نفسه.

وقبل أن أشرع في الحديث عن هذه الظاهرة والتي قد تتفاوت النظرة حيالها ما بين من يراها ظاهرة قوية وواضحة للعيان وتستحق عناء الكتابة فيها، وممن يراها غير ذلك ،أحب أن أقول أن تناولي لهذه الظاهرة هو من قبيل توضيح للظاهرة وذلك لتجنبها والاحتراز منها وحتى تكون صورة العمل الإسلامي نقية ناصعة، وكذلك فإنه لا ضير على «من يتصدى للدعوة أن يتكلم عن الأخطاء والأمراض التي توهن العمل وتضعف الصف، فإن الكلام في مثل هذه الأمور ليس من التشاؤم ولا من التثبيط، ولكنه من الإصلاح الذي تحتاجه الدعوة باستمرار» [د.محمد العبدة خواطر في الدعوة التجمعات الصغيرة].

* وقفة مع المصطلح

معنى تهميش في قاموس المعاني:


هـ م ش : (مصدر هَمَّشَ)

1- كَتَبَ "تَهْمِيشًا عَلَى حَاشِيَةِ الكِتَابِ": مَا يُدوَّنُ مِنْ تَعَالِيقَ وَبَيَانَاتٍ عَلَى الهَامِشِ.

2- حَاولَ "تَهْمِيشَهُ": جَعَلَهُ عَلَى الهَامِشِ، أيْ عَدَمَ إعْطَائِهِ أهَمِّيَّةً .

* وقفة مع مصطلح التهميش كمصطلح سياسي اجتماعي:

يقول د. حامد البشير إبراهيم «إن كلمة التهميش ليست جديدة في اللغتين العربية والإنجليزية، ومصطلح التهميش يوازي في اللغة الإنجليزية مفردتي marginalization والتي تعنى حرفيًّا وضع الأشخاص أو الجماعات على هامش الأحداث والأفعال ومصطلح social exclusion والذي يعني العزل أو الإقصاء أو الاستثناء أو عدم الشمول.

والتهميش في بعض جوانبه يعني عدم قدرة المجتمع على تفعيل كل أفراده بالدرجة التي يحققون فيها ذواتهم ويفعلون فيها مقدراتهم وقدراتهم ومواهبهم وطاقاتهم» [د. حامد البشير إبراهيم مرافعة لأجل الحقيقة].

«ويوافق مفهوم التهميش مفهوم الاستبعاد الاجتماعي، الذي هو نقيض الاندماج أو الاستيعاب، فهو موضوع حيوي وكاشف لطبيعة البنية الاجتماعية في أي مجتمع، فالاستبعاد ليس أمرًا شخصيًّا، ولا راجعًا إلى تدني القدرات الفردية فقط بقدر ما هو حصاد بنية اجتماعية معينة ورؤى محددة ومؤشر على أداء هذه البنية لوظائفها» [الاستبعاد الاجتماعي كتاب عالم المعرفة العدد 344].

«والنتيجة الحتمية المترتبة على التهميش هي الاضمحلال فإنه حين تهمش مجموعة من غير سبب عملي وموضوعي فإنك تدفع بها نحو الاضمحلال وذلك من خلال تحجيم فرص ارتقائها ومن خلال محاصرتها على الصعيد الثقافي» [د/عبد الكريم بكار هكذا هي الحياة ص 61].

* مظاهر الظاهرة

لهذه الظاهرة عدّة مظاهر ولكن سأكتفي بصورتين منها وهما:

الصورة الأولى:

التهميش الذي يُمارس بين فرق العمل الدعوية المختلفة وممارسة كل مدرسة ما يسمى باحتكار الصواب أو حيازة الخيرية فقط دون ما سواها.

«وهذه الظاهرة ممن يعبر عنه في الواقع الدعوي بمصطلح آخر وهو مصطلح الحزبية الذي هو عبارة عن داء وبيل يفتك بالإخوة الإسلامية، فيقطع أواصرها ويجعل صفوها كدرً، فهل يجوز للمسلم أن يكون وجهه الطلق وابتسامته العريضة، وسلامه الحار لمن هو من حزبه أو جماعته، ولغيره العبوس والسلام البارد؟! وهل يجوز للمسلم أن يغض الطرف عن أخطاء أصحابه، وإذا وقع غيره في الأخطاء نفسها شهّر به وتكلم عليه؟! وإذا ذكرت له انحرافًا في الفكر أو التصور وقع به واحد منهم أتى بالمبررات وقال: هذه أخطاء، ولكنها لا تخدش في أصل المنهج.

وبسبب هذه الحزبية تراه لا يطَّلع ولا يقرأ ولا يستقي إلا من طرف واحد، من كتب أصحابه وممن يوصى أن لا يقرأ إلا لهم ، فيتخرج ضيّق الأفق، مشوه الشخصية الثقافية، لا ينظر إلا من زاوية واحدة ولا يعرف إلا الفكر الأحادي، كيف تغلغلت هذه الحزبية إلى صفوف الدعوة؟ ومن الذي يمدها حتى تستمر؟ لا شك أنها التربية السيئة التي تمارس على الفرد فيقال له: نحن الأفضل، وغيرنا فيه نقص كذا ونقص كذا، وكل هذا حبًّا في التكثير والتجميع، فلا بد أن يشوه الطرف الآخر حتى لا يذهب الفرد إليهم، وكأننا أحزاب تتنافس على الانتخابات فهي تشتري الأصوات بالدعاية والمال.

ومن هذه التربية أن يحال بين الفرد في أول عهده بالدعوة وتلقي العلم، وبين الجلوس إلى العلماء أو من عندهم علم وخبرة، فيربونه بأدبهم وسمتهم وتجربتهم، وإذا حيل بينه وبين هذا فهو يتلقى ممن يباشر عملية التربية، فإذا كان دينًا وعنده علم وليس فيه حب الزعامة كانت التربية أقرب للصواب، وإذا كان ممن يحب الزعامة أو فيه شيء من زغل العلم فعندئذ يتخرج من تحت عباءته شباب متحزبون مشوهون» [د.محمد العبدة خواطر في الدعوة (الحزبية)]، ولعلاج هذه الظاهرة نقول أنه «لا ينجو من هذا الداء إلا من تنبه له من البداية، وعرف أن أنواعًا من التربية ستؤدي حتمًا إلى الحزبية، فخاف واحتاط لنفسه، فهو يحاسب نفسه ويلتفت وراءه ويجدد ويتجدد بين كل فترة وأخرى ، حتى لا يقع في هذا الداء الذي تطاير شرره وعم بلاؤه»
[المصدر السابق].

«كذلك فإنه يجب أن يكون تحرير معلم الولاء والبراء للحق لا للأشخاص ولنتأمل في أنفسنا: ما هو محور الولاء فيها (أهو الرجل أم الحق؟ وماذا نفعل حين تقدم لنا فكرة (الرجل) الذي نحبه تحت اسم (الرجل) الذي نكرهه؟ ألا يدفعنا ذلك إلى رفضها، ربما دون النظر فيها؟!! وهل يسهل علينا أن نرى الرجل الذي نحبه يخطئ أو نصف رأيه بأنه (خطأ)؟

فأهل السنة والجماعة انتسابهم وانتماءهم للكتاب والسنة، ومتبوعهم هو محمد صلى الله عليه وسلم، وأما الرجال عندهم فأدلاء على الحق» [د.محمد محمد بدري بين الحق والرجل].

الصورة الثانية:

تهميش مجموعة من أفراد العمل داخل فريق العمل الواحد لأسباب مختلفة وقد يكون منها عدم التوافق النفسي بين الأفراد وقد يكون اختلاف الفروق الفردية بين الأفراد .

وهو ما يصفه البعض بمصطلح آخر وهو الشللية والذي هو «داء قديم سرى إلى التجمعات الإسلامية كنا نسميه مشكلة (الشِلَلْ) وهو أن تجمع عدد قليل ممن تتقارب أسنانهم أو ثقافتهم أو جمعهم الأقليم الواحد، وقد يكون هذا طبيعيًّا في البداية، ولكن بسبب انسجام آرائهم، يتطور الأمر ليشكلوا أداة ضغط على العمل ويتعصبون لبعضهم، ويقدمون الخدمات لأنفسهم، ويحاولون كسب الأنصار، ولا مانع عندهم من وضع الناس في غير مواضعهم وعلى حساب الكفاءة والإخلاص، وتسير الأمور بهذه الطريقة وتصبح كأنها ظاهرة طبيعية فيشار إليها ضمن العمل الكبير ويقال: مجموعة فلان أو(شلة فلان).

وهذا المرض إذا لم يتنبه له في البداية يستفحل ويؤثر تأثيرًا سلبيًّا على الدعوة، وعودة إلى السيرة النبوية وفقهها ترينا كيف منع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذه التجمعات التي تبنى على القرب الجغرافي أو الانسجام في النفسيات، وذلك بأن استفاد من الطاقات المبدعة ووضع كل إنسان موضعه، وشغلهم بالنافع والمفيد، ولم يقرب أحدًا لقرابة أو لمغنم أو مغرم، فالكل يرى نفسه منسجمًا مع الدعوة له مكان فيها، ولكن عندما تقع أخطاء مثل هذه من الكبار فمن الطبيعي أن يكون رد الفعل انحرافات مثلها، فيتجمع العدد القليل ليثبتوا أنهم موجودون وأن لهم تأثيرًا وفاعلية، وقد يكون من الطبيعي أن ينسجم عدد محدود مع بعضهم على ألا يؤدي هذا إلى عمل جيوب داخل الجماعة، وعلى من يمارس عملاً مثل هذا أن يتقي الله، ويشعر بالمسؤولية ولا يزكي أحدًا إلا على أساس الكفاءة والإخلاص» [د.محمد العبدة خواطر في الدعوة (التجمعات الصغيرة)].

*أسباب هذه الظاهرة

- أن يكون منهج الاستيعاب الدعوي في فريق العمل الدعوي به خلل بحيث يجعل من الصعوبة التعامل مع جميع الأفراد داخل فريق العمل، والذي لا شك فيه أن الدعاة كبقية الناس يتفاوتون في قدراتهم على الاستيعاب، ولكن الذي لابد منه كذلك أن يتمتع كل داعية بحد أدنى من القدرة على الاستيعاب لأنه بغيرها لا يكون داعية أو عاملاً في إطار الدعوة، إن عدم توفر الحد الأدنى من القدرة على الاستيعاب قد لا تجعل الداعية عقيم الإنتاج عديم الفائدة فحسب بل قد تجعله مسيئًا للإنتاج مسببًا الضرر للإسلام والحركة على حد سواء، إن العلاقة بين الاستيعاب ونجاح الدعوة علاقة جذرية إذ لا نجاح بدون قدرة على الاستيعاب، والدعوة الغنية بالدعاة القادرين على اجتذاب الناس إلى الإسلام وإلى الحركة يصبح حظها من النجاح ومن تحقيق أهدافها قويًّا.

- أن يكون التعامل مع الجميع وفق مرضاة الله وأن يكون معيار التفاضل بين الأفراد هو حيازة الصواب والإخلاص والكفاءة في العمل و { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وليس في كتاب الله آية واحدةٌ يمدح فيها أحداً بنسبه، ولا يَذُمُّ أحداً بنسبه، وإنما يمدحُ الإيمانَ والتقوى، ويذمَ بالكفرِ والفسوقِ والعصيان» [
الفتاوى الكبرى1/164].

- وقد يكون من أسباب هذه الظاهرة إهمال مبدأ الشورى في العمل الدعوي وعدم أخذ رأي من يستحق أن يستشار، وإهمال مبدأ الشورى فضلاً عن إنه يسبب مثل هذه الظاهرة فإنه يخالف النهج النبوي وكيف كان صلى الله عليه وسلم يأخذ رأي أصحابه وقد يدع رأيه كما حدث في أحد وبعد هذه الغزوة نزلت آية: {وشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ } [آل عمران:159]، تأكيدًا لمبدأ الشورى .

يقول الطرطوشي حول هذه الآية الكريمة: «إذا قيل كيف يشاورهم وهو نبيهم وإمامهم وواجب عليهم مشاورته، قلنا هذا أدَبٌ أدَّبَ اللهُ تعالى نبيه عليه السلام به، ومن أقبح ما يوصف به الرجال ملوكًا كانوا أو سوقه الاستبداد بالرأي وترك المشورة» [1].

ويقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفسيره: «فإن في الاستشارة من الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ما لا يمكن حصره، منها: أن المشاورة من العبادات المتقرب بها إلى الله ومنها: ما تنتجه الاستشارة من الرأي المصيب، فإن المشاور لا يكاد يخطئ في فعله» [2].

وبعد فإني اعترف إنني مررت على هذه الظاهرة مرور الكرام وأحسب أن مثل هذه الدراسة تستحق دراسة أشمل وأعمق ولكن حسبي أن طرقت هذا الباب وقبل خاتمة كلامي هنا أحب أن أختمه بعدّة نقاط وذلك لمن ابتلي بتهميش في حياته الدعوية من حيث كونه فرد من مجموع فأقول:

لا تغرق في المثال: وذلك حتى لا تقنط أو تنقطع عن الطريق فمن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم رأى مواقف عدة برز فيها الضعف البشري من أصحاب الني صلى الله عليه وسلم الذين هم خير الناس.

إن هذه المواقف لا يجوز أن تكون وسيلة لانتقاص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إساءة الأدب معهم، أو التقليل من شأنهم، كما لا يجوز تسليط المجهر عليها بما يعزلها عن السياق العام لحياتهم المشرقة والمضيئة.

فإنها تعطي الدرس للجميع ألا يبالغوا في تصور الكمال من الجميع سواء أكانوا مربين أو أفراد، وأن يعلموا أن الكبار مهما جل قدرهم، وعلا شأنهم لا يسلمون من الهفوة والزلة.

وهي في الوقت نفسه تعطي الدرس للمربين في ألا يغرقوا في رسم الصور المثالية لمن يتربون على أيديهم، وأن لا يحاسبوهم في ضوء الصورة المثالية.

إنها تدعو إلى الواقعية التي لا تقود للاستسلام للواقع، بل لحسن التعامل معه، والسعي لتجاوز ما يمكن من خلل وقصور[3].


إنَّ إرخاء الستر عن الأخطاء والتأسي بخير البشر محمد صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الأخطاء، وعلى الفرد المسلم الذي يشعر بأنه وقع له نوع من التهميش أن يتخلق بخلق العفو كما في قوله تعالى في قوله تعالى {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، «قال مجاهد: يعني خذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تخسيس مثل قبول الأعذار والعفو والمساهلة وترك الاستقصاء في البحث والتفتيش عن حقائق بواطنهم» [ابن القيم رحمه الله تعالى (مدارج السالكين منزلة الخلق)].

وعلى المسلم أن يلحظ مشهد السلامة وبرد القلب وهو مشهد شريف لمن عرفه وذاق حلاوته، وهو أن لا يشتغل قلبه وسره بما ناله من الأذى، وطلب الوصول إلى درك ثأره وشفاء نفسه، بل يفرغ قلبه من ذلك ويرى أن سلامته وبرده وخلوه منه أنفع له، وألذ وأطيب وأعون على مصالحه، فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده وخير له منه فيكون بذلك مغبونًا، والرشيد لا يرضى بذلك ويرى أنه من تصرفات السفيه، فأين سلامة القلب من امتلائه بالغل والوساوس وإعمال الفكر في ادارك الانتقام [المصدر نفسه].

وأخيرًا وليس بآخر فإن كان من خير فيما كتبته حول هذه الظاهرة فهو من الله وحده وإن كان من شر فمن نفسي ومن الشيطان والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
_____________________________________________

[1] د/محمد العبدة (الشورى هل نلتزم بها مجلة البيان العدد 38، وسراج الملوك ص 94).
[2] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 1/445.
[3] د.محمد عبد الله الدويش (الإغراق في المثال ) موقع المربي.



"حقوق النشر محفوظة لموقع "المركز العربي للدراسات والأبحاث"، ويسمح بالنسخ بشرط ذكر المصدر"