قطز وبناء الأمة

راغب السرجاني

قطز رحمه الله كبقية المماليك نشأ على التربية الدينية القوية، وتشبع بالحمية الإسلامية القوية، وتدرب منذ صغره على فنون الفروسية وأساليب القتال، وعلى أنواع الإدارة وطرق القيادة، فنشأ رحمه الله شاباً فتياً أبياً محباً للدين معظماً له.

  • التصنيفات: التاريخ والقصص - التاريخ الإسلامي -
قطز وبناء الأمة

في المقال السابق تحدثنا عن المماليك ونشأتهم وتربيتهم، وعن عدم استقرار الحكم في مصر في أوائل الفترة التي تسلم فيها المماليك حكم البلاد، وتحدثنا أيضاً عن موت الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله، ثم ولاية ابنه توران شاه، ثم قتله، ثم ولاية شجرة الدر، ثم تنازلها، ثم ولاية الملك المعز عز الدين أيبك لمدة سبع سنوات كاملة، انتهت بقتله على يد شجرة الدر، ثم ولاية ابن الملك المعز عز الدين أيبك وهو لم يتجاوز بعد الخامسة عشرة من عمره.


وذكرنا أن الذي تولى الوصاية عليه هو أقوى الرجال في مصر في ذلك الوقت، وهو قائد الجيش المصري سيف الدين قطز رحمه الله.
سيف الدين قطز هو واحد من أعظم الشخصيات في تاريخ المسلمين، واسمه الأصلي محمود بن ممدود، وهو من بيت مسلم ملكي أصلي، وسبحان الله! كم هي صغيرة هذه الدنيا! فـ قطز رحمه الله هو ابن أخت جلال الدين بن محمد بن خوارزم وجلال الدين الذي هزم التتار مرتين، ثم هزم وفر إلى الهند، ثم عاد إلى أرض فارس وقتل الكثير من المسلمين إلى أن قتل على يد فلاح كردي.


فالتتار لما أمسكوا بعضاً من أهل جلال الدين بن خوارزم بعد فراره إلى الهند، كان قطز أحد هؤلاء الذين أمسكهم التتار، فقتلوا بعضهم وأبقوا بعضهم؛ ليباعوا في سوق الرقيق، وكان ممن بقي محمود بن ممدود أو قطز.


والتتار هم الذين أطلقوا على قطز اسم قطز، وهذه الكلمة بالتترية تعني: الكلب الشرس، فقد كان واضحاً على قطز علامات القوة والبأس من صغره، فلذلك أطلق عليه التتار هذه الكلمة، ثم باعوه بعد ذلك في أسواق الرقيق في دمشق، واشتراه أحد الأيوبيين وجاء به إلى مصر، ثم انتقل من سيد إلى غيره حتى وصل في النهاية إلى الملك المعز عز الدين أيبك؛ ليصبح أكبر قواده كما رأينا.


ولعلنا نلحظ بوضوح في قصة قطز التدبير العجيب لرب العالمين سبحانه وتعالى! فالتتار مكروا بالمسلمين، واسترقوا أحد أطفالهم، وباعوه بأنفسهم في دمشق، ثم بيع بعد ذلك من واحد إلى آخر، ووصل إلى بلد لم يرها قبل ذلك، ولعله لم يكن يسمع بها أصلاً في هذه السن الصغيرة، ليصبح في النهاية ملكاً على هذا البلد، وتكون نهاية التتار -الذين قاموا بنقله من أقاصي بلاد المسلمين إلى مصر- على يد هذا المملوك الذي كان يباع ويشترى، وسبحان الذي يدبر بلطف، ويمكر بحكمة، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} } [النمل:50].


وقطز رحمه الله كبقية المماليك نشأ على التربية الدينية القوية، وتشبع بالحمية الإسلامية القوية، وتدرب منذ صغره على فنون الفروسية وأساليب القتال، وعلى أنواع الإدارة وطرق القيادة، فنشأ رحمه الله شاباً فتياً أبياً محباً للدين معظماً له، وكان رحمه الله قوياً صبوراً جلداً،

بالإضافة إلى أنه ولد في بيت ملكي، فكانت طفولته طفولة الأمراء، وهذا أعطاه ثقة كبيرة في نفسه، فهو لم يكن غريباً على أمور القيادة والإدارة والحكم، وفوق كل هذا فإن أسرته قد هلكت تحت أقدام التتار، وقد رأى بعينه أفعال التتار في بلاده يوم أن كان صغيراً، وهذا ولا شك جعله يفقه جيداً مأساة التتار، وليس من رأى كمن سمع.
كل هذه العوامل مجتمعة صنعت من قطز رحمه الله رجلاً ذا طراز خاص جداً، يستهين بالشدائد تماماً، ولا يرهب أعداءه، مهما كثرت أعدادهم، أو تفوقت قواتهم.
ولقد كان للتربية الإسلامية العسكرية، والتربية أولاً على الثقة بالله أثر كبير جداً في حياة قطز رحمه الله.