أيها الأصدقاء تعالوا .. نختلف !
لطيفة أسير
كانت هذه إطلالة سريعة على هذا الكتاب النفيس للدكتور أحمد البراء الأميري، ارتأيت تلخيص قواعده حسب ما بدا لي
- التصنيفات: محاسن الأخلاق -
المتأمّل في واقع الأمة الإسلامية اليوم، لا يخفى عليه حجم الخرق الذي يتسع مداه سنة تلو أخرى بين أبناء هذه الأمة رغم أنّ ربهم واحد ، ونبيهم واحد، وكتابهم واحد...عوامل شتى تدعو للوحدة، لكننا نأبى إلا أن نجعلها أسبابا للاختلاف لا الائتلاف.
من هذا المنطلق ، ومن هذه الحرقة على الأمة أتى هذا المولود للدكتور أحمد البراء الأميري، والذي ارتأى أن يعنونه بــــــــــ ( أيها الأصدقاء تعالوا .. نختلف ) ، عنوان مثير يجذب قارئه ، ويثير فضوله لقراءة سطوره، وإن كان موضوعه ليس جديدا، لكن أسلوب صياغته فيه جاذبية، توحي أن الاختلاف لا يجب أن يلغي أواصر الصحبة والصداقة، وإنما على المرء أن يتعلم فقه الائتلاف حفاظا على الروابط الحميمية.
و أصل هذه ( النظرات ) أحاديث ألقيت من إذاعة القرآن في المملكة العربية السعودية ، شاء المؤلف أن يُلبسها هذه الحلة الجميلة بعد تعديل طفيف جدا عليها. وعن سبب اختياره لهذا الموضوع يقول :
( واختيار إطلاق فقه الائتلاف على هذه النظرات بدلا من فقه الاختلاف، هو أن الاسم الأول يتضح فيه الهدف الأسمى الذي ترمي إليه ، وهو تقريب الفجوة بين العقول والأفكار، وردمها تماما بين القلوب والمشاعر ).
و يقول في موضع آخر في ثنايا الكتاب : ( هدف هذا الكتاب أن يقترب في كل مقالة من مقالاته خطوة في طريق الائتلاف الواسع الذي يضم الكثرة الكاثرة، تتوحد فيه القلوب والجهود، وإن اختلفت الاجتهادات والآراء، لأن اختلافها لا يفسد المودة والمحبة عند أولي النهى ).
فدافع تأليف الكتاب بمقالاته الثلاث والأربعين ، نية مباركة من مسلم غيور على حال أمته، يؤرقه تشرذمها وتنازعها وسوء تدبيرها لخلافاتها، في الوقت الذي يرصّ عدوها صفوفه، ويجمع شتاته ، ويضرب بيد من حديد ، رغم التباين الشديد في تركيبة عناصره. ولهذا حاول المؤلف أن يؤكد في مقدمة الكتاب على أن الأساس في الائتلاف ليس توحد العناصر جملة واحدة، ولا سبب الاختلاف تباعد العناصر جملة واحدة ، وإنما الأساس حسن تدبير الاختلاف ليحقق ائتلافا لا نزاعا. يقول جيري ويزنيسكي في كتابه ( تسوية الخلافات في العمل ) : ( نحن في حاجة إلى التركيز على أفضل طريقة للتعامل مع الخلاف، بدلا من الادعاء بأنه سيزول من تلقاء نفسه، وذلك لأن الخلاف أمر طبيعي، وهو عنصر فعال في الاتصال بين الأفراد، وإذا تمّ التعامل مع الخلاف بشكل جيد، فسوف تتمّ تسويته في الغالب، ويحقق نتائج جيدة، وحلولا مبتكرة ).
وقد ساق المؤلف في عدة مقالات ما يؤكد أن الخلاف سنة طبيعية ، فأشار في المقالة الأولى إلى موقف السلف من الاختلاف ووقوعه حقيقة منذ عهد الصحابة الكرام رضوان الله عليهم.
وزاد في تفصيل الأمر في المقالة الحادية والعشرين حيث تحدث عن كتاب للدكتور علي محمد العمري بعنوان ( الخلاف بين أبي حنيفة وأصحابه ) ، ركز فيه على ذكر علل اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم في بعض الأحكام استنادا لما ذكره العلامة الدهلوي في كتابيه " الإنصاف في بيان أسباب الخلاف " و " حجة الله البالغة " وقد لخصها في عشرة أسباب انتهى بعدها للقول ( أن اتفاق الآراء في المسائل الاجتهادية لم يقع في التاريخ، وأن العاقل الحكيم لا يبادر إلى تخطئة قول حتى يقف على دليل قائله، وأنّ العاقل الحليم أيضا إذا اعتقد بخطأ قول ما عليه أن يحترم صاحبه ، ولا يهاجم شخصه، بل ينقد القول ويبين رأيه الصريح دون تجريح ).
و زكّى هذا الطرح مجددا في المقالة الرابعة والعشرين حين تحدث عن كتاب ( بداية المجتهد ونهاية المقتصد ) للإمام القاضي أبي الوليد بن رشد القرطبي، والذي يؤكد أن أكثر المسائل الفقهية لم تجتمع فيها أقوال الفقهاء على حكم واحد، بل كان بينهم اختلاف ولكل حجته ودليله الذي ترجّح لديه، لذا فالواجب ترك الجدال وهدر الوقت في القيل والقال، واستثمار الجهد فيما هو نافع عاجلا وآجلا.
لكن المؤسف أن الخلاف بين المسلمين في المسائل الاجتهادية، لم يعد ظاهرة فكرية صحية، بل غدا أداة للاقتتال وإثارة الفتن، ووسيلة لشق الصفّ الداخلي ، والتّقوّي بالأعداء على صاحب الرأي المخالف، كما أشار الكاتب في مقالته ( وجوب الائتلاف ).
تمنيت لو كان الكتاب أكثر تنظيما وتمحيصا، بحيث تُضم بعض المقالات لبعضها، أو يقدم بعضها ويؤخر الآخر، لكان سِفرا أجمل وأروع، لكن يشفع للكاتب حسن نيته ، وطبيعة المادة التي حوتها صفحات الكتاب وهي أحاديث إذاعية وليست بحثا أكاديميا في الموضوع. لكن القارئ لن يعدم الفائدة وهو يقرأ صفحاته 245، ولن يخرج صفر اليدين مما به من معلومات وإرشادات سواء لبعض الكتب، أو بعض الاستدلالات المهمة، لذا فدفتر تسجيل المعلومات لابد أن يكون رفيق قراءته.
وكعادتي في طبيعة هذه المقالات، فهدفي هو تلخيص محتويات الكتاب في قالب يقرّب المعلومة كاملة للقارئ، وفي نفس الآن التحفيز على قراءة الكتاب .
مُجمل مقالات الكتاب الكاتب تركز على سُبل تأسيس قواعد للائتلاف ونبذ الاختلاف بين المسلمين، خصوصا فيما يتعلق بالمسائل الاجتهادية والفكرية، ارتأيت تنظيمها في محاور تسهيلا لتتبعها :
1- التجرد من الهوى والبعد عن التحيّز، إذ أن ( معرفة خطر الأهواء نافع في الاحتياط منها، وهي خطوة أساسية في طريق التفكير السديد الرشيد).
2- التمييز بين التقدير والتقديس، فالتقدير هو الاحترام اللازم، والتقديس مبالغة في الاحترام وخروج عن الحدود الشرعية، وقد أشار الكاتب إلى تقديس بعض الجماعات اليوم لعلمائها ، وذمّ ذلك مستدلا بموقفين من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم حين راجعه الصحابة في بعض آرائه فنزل الرسول الكريم عند قولهم لمّا تبيّن له صوابه، وفي هذا دلالة على أن ( الاحترام والتقدير لا يمنعان من السؤال والاستفهام والتعبير عن الرأي، والمخالفة في الرأي إن اقتضى الأمر ذلك ).
3- الاطلاع على حجج المخالفين لتحقيق الائتلاف بين القلوب، وتقريب الآراء، وقد أدرج الكاتب كمثال على ذلك الخلاف الفقهي في مسألتي زكاة الفطر، والطهارة ولمس المصحف. قال الشاطبي في الموافقات : ( إنّ تعويد طالب العلم ألا يطّلع إلا على مذهب واحد، ربما يكسبه نفورًا، أو إنكارًا لكل مذهب غير مذهبه ، مادام لم يطلع على أدلته، فيورثه ذلك حزازة في الاعتقاد في فضل أئمة أجمع الناس على فضلهم، وثقتهم في الدين، وخبرتهم بمقاصد الشارع، وفهم أغراضه ).
4- تجنب الكيل بمكيالين، والتعصب المذهبي ، والاعتزاز بالرأي الواحد وإقصاء الرأي الآخر ، وكلها من أخطاء التفكير التي يؤدي اجتنابها إلى ائتلاف القلوب وتقارب العقول.
وقد سلط الكاتب الضوء على هذا الجانب في عدة مقالات منها المقالة السابعة ( الكيل بمكيالين ) و المقالة التاسعة عشر( الخلاف بين المذاهب والتعصب المذهبي ) و المقالة عشرون( ما أريكم إلا ما أرى ) .
5- التمييز بين النص وتفسير النص، فالنص مقدس وتفسيره غير مقدس، إذ أن الكثير من النصوص دلالتها في الفهم ظنية، لذا ( يجب أن لا نجعل الاختلاف في الفهم سببا لاختلاف القلوب، أو للتعصب لما نراه صوابًا، بل نرى في الاختلاف سعة، ونجعله مصدرا لإخصاب العقول بالآراء المختلفة).
6- ترسيخ مجموعة من القيم الأخلاقية التي حث عليها ديننا الحنيف، وقد أفرد لها الكاتب مقالات مستقلة بين فيها فضائلها وأثرها ،كالمحبة، العفو والصفح، التماس الأعذار للآخرين ، الذلة على المؤمنين، تجنب الحسد والتباغض، الإيثار، صلة الرحم ،و الأخوة في الله .
وفي مقال مستقل عنونه بــــــ ( فن معاملة الآخرين ) أكد المؤلف أن ( إتقان فن التعامل مع الناس واحد من أهم العوامل المؤدية إلى الائتلاف، والمودة والرحمة ، والتعاون ) ،ونقل عشر سبل في فن معاملة الآخرين ذكر معظمها ديل كارنجي في كتابه " كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس " ، فليراجع بالكتاب لأهميته.
7- ولأن أئمة السلف براء من كثير من الحروب الفقهية التي قادها تلامذتهم، فقد عقد الكاتب فصولا للحديث عنهم، فترجم للأئمة الأربعة قائلا : ( ومناسبة الحديث عن هؤلاء الأئمة الأجلاء في كتاب يتحدث عن فقه الائتلاف ، أنّ عامة المسلمين ينتمون إلى مدارسهم، ولكن أتباع كل مدرسة أو مذهب، إن عرفوا، فلا يعرفون إلا فضل إمامهم ومناقبه ، ويجهلون فضائل الأئمة الثلاثة الباقين، ولذلك يغمطونهم حقهم )، فمعرفة مناقبهم سبيل لتوقيرهم رضوان الله عليهم.
وقد عقد الكاتب فصلين لكتابي شيخ الإسلام ابن تيمية الأول عن ( رفع الملام عن الأئمة الأعلام ) والثاني ( رسالة الألفة بين المسلمين )، حيث أشار ابن تيمية في الكتاب الأول إلى سبب الاختلاف في بعض أقوال هؤلاء الأئمة ورفع الملام عنهم في أخطائهم أو اجتهاداتهم أو مخالفاتهم مؤكدا صدق اتباعهم للنهج النبوي قائلا: ( يجب أن نعلم أنه ليس أحد من الأئمة – المقبولين عند الأمة قبولا عاما – يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته، دقيق ولا جليل، فإنهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباعه )، وقد رصد شيخ الإسلام عشرة أسباب اختار المؤلف بعضًا منها.
أما الرسالة الثانية فساقها الكاتب للتأكيد على أن خلاف الأمة في صفات العبادات لا يقتضي الشقاق والنزاع، ولا ينبغي أن يورث الريبة في أحكام الشريعة.
8- من سبل الائتلاف كذلك فقه أدب الجدل، حيث أشار الكاتب في المقالة السادسة عشر إلى بعض أدبيات الجدل، واعتمد في كثير منها على كتاب الخطيب البغدادي الموسوم ب '' الفقيه والمتفقه '' ، كالإخلاص في بلوغ الحق وإيضاحه دون مغالبة للطرف الآخر، وتجنب الكلام مع المتعصبين غير المنصفين، وعدم الإكثار من الكلام ...
9- عدم الالتفات إلى ما نقل من طعون وإساءات للعلماء، لأن الغالب على طبع الناس أنه لم يسلم من أذى لسانهم أحد مهما شرف قدره، قال الإمام الذهبي: ( و لو أنّا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورًا له قُمْنا عليه وبدَّعْناه، وهجرناه لما سلم معنا أحد من الأئمة ).
10- اعتماد منهج دعوي سليم سيرًا على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، و قد اعتمد الدكتور في هذا الباب على كتاب ( دعوة إلى السنة في تطبيق السنة ) للدكتور عبد الله بن ضيف الله الرحيلي. كما نبّه في المقالة التاسعة والثلاثين المعنونة ب ( متى نخوّف الناس ؟ ) إلى ملمح من ملامح هذا النهج وهو عدم المبالغة في استعمال أسلوب الترهيب واعتماد النهج الوسطي.
11- الالتزام بضوابط الاجتهاد وآدابه فهذا سيساعد على إغلاق أبواب كثيرة للخلاف بين المسلمين، ولهذا نبّه المؤلف في عدة مقالات إلى بعض القواعد الفقهية والضوابط الشرعية مثل ( المشقة تجلب التيسير ) و ( الاجتهاد لا ينقض بمثله ) و ( الرخصة والعزيمة ).
12- التهيّب من الفتيا : فلا يقتحم ساحة الإفتاء إلا أهلها، ولو شاعت هذه الفضيلة اليوم ( لضيّقت من شقة الخلاف بين المتخالفين، ولكانت داعية إلى الائتلاف ووحدة القلوب والصفوف التي نحن في أمسّ الحاجة إليها، لأنها أدب نفسي عالٍ، ندر هذه الأيام، وإشاعة الآداب النفسية خطوة كبرى في درب الائتلاف والتحابب ) .
13- توقير العلماء والتأدب معهم ، والأخذ عنهم وعدم الاكتفاء بالقراءة من الكتب ، كما قال الإمام الشافعي : ( من تفقّه من بطون الكتب ضيّع الأحكام )، وقال بعض السلف: ( مِن أعظم البلية تشيّخ الصحيفة ).
وقبل أن يتحدث الكاتب عن مظاهر الأدب معهم، أشار في مقالة مستقلة إلى ( سمات العلماء )، فتحدث عن بعض صفات العالم الحقّ، كإشارة إلى أن أحد عوامل عدم الائتلاف شيوع أدعياء العلم خصوصا في زمن الفضائيات ومواقع التواصل ، فأضحى كل مدّعٍ يُفتي بما يراه دون بيّنة أو حجة واضحة ، ولهذا وجب التثبت من أحوالهم وأن نضع نصب أعيننا المقولة المشهورة ( إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم ).
ومن الآداب التي ساقها الكاتب ضرورة احترام العلماء والاعتراف بفضلهم وعدم تقديسهم أو تقديس آرائهم لأنهم في الأصل بشر، واجتهاداتهم قد تكون صائبة أو خاطئة. كما ذكّر ببعض هذه الآداب في سيرة السلف الصالح ، لأن التأسي بها وذيوعها سيحقق التآلف المرغوب بين الناس. وزاد المقام توضيحا في مقالة مستقلة بعنوان ( أدب العلماء ).
14- تجنب الغلو في التكفير: وقد أكد الكاتب في هذه المقالة أن التكفير ليس ظاهرة جديدة بل قديمة، وقع في حبائلها أئمة كبار، وسالت بسببها دماء كثيرة قديما وحديثًا، لذا وجب الحذر من الغلو فيها، قال أبو حامد الغزالي: ( والذي ينبغي أن يميل المحصّل إليه : الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلا، فإنّ استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة، المصرحين بقول: لا إله إلا الله خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك مِحْجمة من دم مسلم ).
وبعدُ أخي القارئ ،
كانت هذه إطلالة سريعة على هذا الكتاب النفيس للدكتور أحمد البراء الأميري، ارتأيت تلخيص قواعده حسب ما بدا لي من لحمة جامعة بين بعضها البعض تبعا للسياق الذي ذكرته، والذي قد يكون صائبا وقد يكون غير ذلك، لكن هدفي أن يخرج القارئ بفكرة واضحة عن الكتاب، وإن شاء الاستزادة فله أن يطلع على كل المقالات فسيجد بها فوائد جمة قصُر المقام عن ذكرها هنا تجنبا للإطالة المملة.