النصر قرين الإيمان

راغب السرجاني

مع أن موقعة عين جالوت هذه كانت موقعة واحدة، وتمت في يوم واحد، إلا أن آثارها كانت من القوة بحيث لا يتخيل أصلاً، فقد كانت من الكثرة بحيث لا تحصى

  • التصنيفات: التاريخ والقصص - التاريخ الإسلامي -
النصر قرين الإيمان

مع أن موقعة عين جالوت هذه كانت موقعة واحدة، وتمت في يوم واحد، إلا أن آثارها كانت من القوة بحيث لا يتخيل أصلاً، فقد كانت من الكثرة بحيث لا تحصى، وكانت آثارها في غاية الأهمية، ولا نستطيع في هذه العجالة أن نمر عليها كلها، ولكن سنمر على طرف بسيط منها.
وعلى الدارسين والمحللين أن يبحثوا في هذه الآثار بمزيد من التفصيل والدراسة، فالموضوع فعلاً في غاية الأهمية، وسنقص هنا بعض هذه الآثار لموقعة عين جالوت الخالدة:

الأثر الأول والأهم: عودة المسلمين إلى الله عز وجل أثناء التحضير والإعداد لهذا اللقاء، وأثناء المعركة وبعدها ولمدة طويلة من الزمان؛ فقد وضحت المعادلة جداً في أذهان الناس، فالمسلمون عندما ابتعدوا عن الله عز وجل تمكن التتار من رقابهم، ولما عادوا إلى الله تحقق النصر الذي اعتبره كثير من المحللين معجزة حقيقية، وفي الحقيقة أن هذا النصر ليس بمستغرب، فإن النتيجة الطبيعية لعودة المسلمين إلى الله عز وجل أن يتم نصرهم على أعدائهم.


وتبين المسلمون أيضاً بعد موقعة عين جالوت أن الحرب دينية في المقام الأول، فقد تحالف كثير من النصارى كما رأينا مع التتار أكثر من مرة، مع أن مصالحهم على المستوى البعيد كان مع المسلمين وليس مع التتار، فالتتار لا عهد لهم، بينما يحترم المسلمون عهودهم جداً؛ لأن هذا الاحترام للعهود أصل من الأصول في دين الإسلام، وواقع المسلمين يشهد بذلك في معظم فترات التاريخ، والمخالفات الإسلامية للعهود قليلة جداً في التاريخ، ومع ذلك آثر النصارى أن يتحالفوا مع التتار ضد المسلمين،

ولذلك استقر في نفوس المسلمين تماماً بعد انتصار عين جالوت، أن الحروب التي دارت بينهم وبين التتار والنصارى لم تكن حروب مصالح فقط، كما يصورها كثير من الغربيين والعلمانيين على أن المحرك الرئيسي للحروب أبداً هو الاقتصاد،

أو يجعلون الأغراض العسكرية أو الإستراتيجية هي الهدف الأساسي، فنحن لم نر هذا في قصتنا هذه، بل رأينا في هذه القصة الواقعية أن الدين هو المحرك الأساسي للنصارى في حرب المسلمين، وكان له كذلك أكبر أثر في تحريك المسلمين أنفسهم لحرب التتار والنصارى في هذه الموقعة الخالدة، والله عز وجل نبهنا إلى ذلك في كتابه مراراً أكثر من مرة، قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].
فجعل الرضا عندهم مقروناً باتباع الملة، وليس مقروناً ببقاء المصالح.
وكذلك قال ربنا في كتابه الكريم: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217].


فوضح أن القتال سيستمر حتماً إلى أن يترك المسلمون دينهم، وأما قبل ذلك فالحرب لن تتوقف، ولن يكتفي اليهود والنصارى والتتار والمشركون والهندوس في أي وقت من أوقات الدنيا بالسيطرة على الديار والأموال والبترول والناس وغير ذلك أبداً، فسيظل الهدف الأسمى لهؤلاء هو السيطرة على الدين الإسلامي، أو إن شئت فقل: محو الدين الإسلامي.


وما نراه الآن من متابعة لكل الحركات الإسلامية والتوجهات الدينية، ومحاولات تغيير مناهج المسلمين الدراسية، وحرب في وسائل الإعلام المختلفة، كل هذا ما هو إلا صور للتعبير عن شدة الكراهية لبقاء الدين، وليس لبقاء القوة أو الحدود، فالمعركة في أصلها هي معركة وجود أساساً، فهم لا يقبلون بوجود الدين الإسلامي على وجه الأرض، ولذلك فالحرب لن تنتهي أبداً؛ لأن دين الإسلام لن ينتهي أبداً بإذن الله.


وهكذا لا يصلح كما ذكرنا قبل ذلك مراراً أن يكون السلام خياراً إستراتيجياً أبدياً مهما تغيرت الظروف، وأنت إن تنازلت عن كل شيء في مقابل السلام، فهم لن يقبلوا إلا أن تتنازل عن الدين بوضوح.
إذاً: فقه المسلمون بعد موقعة عين جالوت أن الصراع ديني في المقام الأول، ومن ثم إذا أردت أن تنتصر في هذا الصراع الديني فلابد أن تكون مستمسكاً تماماً بهذا الدين.


كان هذا هو الأثر الأول الخالد والهام جداً من موقعة عين جالوت الخالدة، وهو عودة المسلمين إلى الله عز وجل عودة كاملة، ليس في مصر والشام فقط، بل وفي كثير من بقاع العالم الإسلامي آنذاك، ولمدة عشرات السنين بعد ذلك، فالحقيقة وضحت تماماً أمام أعين الناس، فما لم تكن مستمسكاً بالدين فلا تبحث عن النصر.