الحج والعمرة رحلة إيمانية (1-2)

فهد بن عبد العزيز الشويرخ

فلله كم لها من قتيل وسليب وجريح, وكم أنفق في حبها من الأموال والأرواح, ورضي المحب بمفارقة فلذات الأكباد والأهل والأحباب والأوطان, مقدماً بين يديه أنواع المخاوف والمتالف, وهو يستلذ ذلك ويستطيبه, مقابل الحصول على جوار هذا البلد الأمين.

  • التصنيفات: ملفات الحج وعيد الأضحي -

 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين....أما بعد :

فقد فطرت قلوب العباد على محبة الله جل جلاله, ومحبته سبحانه منزلة عظيمة يتنافس فيها المتنافسون, ويُسارع إليها المحبون, ويُسابق عليها أولى الألباب وأصحاب العقول, فهي كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله : قوت القلوب, وغذاء الأرواح, وقرة العيون, وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات, والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات, والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام, واللذة التي من لم يظفر بها فعيشهُ كلُّهُ هموم وآلام.

من آثار المحبة : الشوق, فهو أثر من آثارها, وهو شوق إلى لقاء الله في الآخرة, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( « وأسألك لذة النظر إلى وجهك, والشوق إلى لقائك, في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة» ) [أخرجه النسائي] وشوق إلى الله عز وجل بالشوق إلى ما يحبه الله جل جلاله, من أفعال, وأقوال, وأماكن, ومن الأماكن التي يحبها الله عز وجل, مكة شرفها الله ,أحب البقاع إلى الله, وأفضل بقاع الأرض, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها : ( والله إنك لخير أرض الله, وأحبّ أرض الله إلى الله, ولولا أني أخرجت منك ما خرجت ) فكل مسلم يحبُّ الله جلاله يحبُّ بيته ويشتاق إلى المجيء إليه, قال سبحانه وتعالى : {ربنا إني أسكنت من ذُريتي بوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم} [ [إبراهيم:37] قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله : وهذا هو الواقع, فما من مسلم مؤمن إلا وقلبه يميل إلى البيت الحرام, ويؤدُّ أن يحجَّ كل عام, ويعتمر كل شهر, وهذا شيء ألقاه الله عز وجل في قلوب العباد, ليس لأحد صنع فيه.

والناس لا يملون ولا يشبعون من زيارة بيت الله , بل كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له اشتياقاً وولهاً, قال الله عز وجل:{وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً} [ [البقرة:125] قال سماحة العلامة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله : فالله سبحانه قد جعل هذا البيت مثابة للناس يثوبون إليه, ولا يشيعون من المجيء إليه والمثابة إليه, لما جعل الله في قلوب المؤمنين من المحبة له والشوق إلى المجيء إليه. 

ومن أجلِ هذا الشوق والمحبة لمكة شرفها الله, يبذل المسلم كل غالي للوصول إليها, قال فضيلة الشيخ سعود بن إبراهيم الشريم : فلله كم لها من قتيل وسليب وجريح, وكم أنفق في حبها من الأموال والأرواح, ورضي المحب بمفارقة فلذات الأكباد والأهل والأحباب والأوطان, مقدماً بين يديه أنواع المخاوف والمتالف, وهو يستلذ ذلك ويستطيبه, مقابل الحصول على جوار هذا البلد الأمين.  

والمسلمون يشتاقون لبيت الله لما يجدون فيه من البركة والخير العظيم, ورفيع الدرجات, فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صل الله عليه وسلم يقول ( «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه» )[متفق عليه] وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال : ( «العُمرة إلى العمرة كفارة بينهما, والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» ) [أخرجه مسلم]     

إن على من وفق للوصول لبيت الله للحج أوالعمرة, أن يجاهد نفسه أن تكون رحلته رحلة إيمانية, ليستفيد من تلك الرحلة فيعود منها بخير زاد, وأفضل حال, ومن الأمور التي تساعد الحاج والمعتمر أن تكون رحلته إيمانية الأتي:

أولاً : التهيؤ لتلك الرحلة

على من عزم على الحج أو العمرة أن يتهيأ لهما بأمور منها :

1- التوبة من جميع الذنوب, والتوبة وإن كانت واجبة على العبد في كل وقت, لكنها تتأكد في هذا الموضع, حتى يجعل قلبه خالياً طاهراً من الشبهات والشهوات, التي متى  وجدت في القلب, كانت سبباً مانعاً من الاستفادة من مناسك الحج والعمرة.

2- أن يكون حجه وعمرته بمال حلالٍ, فالحج والعمرة بمال حرام محرم لا يجوز, وشيء حرام لن يكون هناك بركه ونفع واستفادة منه.   

3- أن ينوي بحجه أو عمرته وجه الله عز وجل, وهذا هو الإخلاص, ومن فقد الإخلاص فقد أجهد نفسه وعاد من حجه وعمرته بلا فائدة, قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله : إذا عدم الإخلاص في الأعمال فهي تعب ضائع.

4- أن يحرص على مرافقة الصحبة الطيبة التي تذكره إذا غفل, وتعينه إذا ذكر, قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله : الرفيق الصالح تفيد رؤيته وتعود منفعته.

ثانياً : أن يشكر الله عز وجل إذا وصل إلى مكة

على الحاج والمعتمر أن يستشعر نعمة الله عليه في وصوله لهذه الأماكن بسهولة وكيف كان حال من سبقوه الذين كانوا يسيرون عاماً كاملاً مشياً على الأقدام من بلادهم للوصول إلى مكة, قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله : قد حدثنا المشاة الذين كانوا يمرون بنا يأتون من أقصى شرق آسيا ستة أشهر ينزلون من قرية إلى قرية, ومن مدينة إلى مدينة, حتى يصلوا إلى مكة, وقال رحمه الله : شاهدنا هذا من قبل, كانوا يأتون على أرجلهم من الهند وباكستان وما وراء ذلك ستة أشهر من بلادهم إلى مكة...ثم يرجعون ستة أشهر.    

 

ثالثاً : أن يجاهد نفسه على تأدية المناسك وفق سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام

على الحاج والمعتمر أن يؤدي المناسك وفق سنة رسول الله, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( «خذوا عني مناسككم» )

رابعاً : أن يتجنب محظورات الإحرام, والفسوق والعصيان

قال الله سبحانه وتعالى:   {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } [البقرة:197] قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله : فيتجنب ما حرم الله عليه تحريماً عاماً في الحج وغيره من الفسوق والعصيان والأقوال المحرمة والأفعال المحرمة والاستماع إلى آلات اللهو ونحو ذلك ويتجنب ما حرم الله عليه تحريماً خاصاً في الحج كالرفث وهو إتيان النساء وحلق الرأس واجتناب ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبسه في الإحرام, وبعبارة أعم يجتنب جميع محظورات الإحرام.

خامساً : أن يستشعر أسرار المناسك والحكمة منها  

أن يستشعر أسرار المناسك والحكمة منها, فيستفيد فوائد, منها : 

الاستعداد للموت والعمل له  

عندما يتجرد الحاج و المعتمر من ملابسه عند إحرامه, يتذكر أنه سيجرد من ملابسه عند موته, فإذا اغتسل وتنظف تذكر أنه سيغسل وينظف عند موته, فإذا لبس الإزراء والرداء, تذكر لبس أكفانه عند موته, فإذا لبس ملابس الإحرام ليبدأ أداء مناسكه, تذكر أن لبس الأكفان بداية قيامته, فيحدث نفسه أنه كما استعد لحجه وعمرته, بالاغتسال ولبس الإزراء والرداء, فعليه أن يستعد لموته بالتوبة من جميع المعاصي والذنوب كبيرها وصغيرها, وبالإقبال على الله والمسارعة والمسابقة في طاعته وعبادته.

السمع والطاعة لله تعالى ولرسوله علية الصلاة والسلام في جميع الأوامر والنواهي

عندما يبدأ الحاج و المعتمر نسكه, يقول:( لبيك اللهم لبيك )فيستشعر أن معناها-كما قال أهل العلم- إنَّا مجيبوك لدعوتك مطيعون لأمرك مرة بعد مرة لا نزال على ذلك 

فإذا استشعر ذلك, سأل نفسه هل هو كذلك حقاً في جميع أموره مطيع لله عز وجل ؟ ممن قال الله فيهم : {وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } [ [البقرة:285] فإن كان ذلك حمد الله وشكره وسأله الثبات والمزيد, وإن كان غير ذلك عزم على مجاهدة نفسه لتكون مُطيعة لله تعالى, ولرسوله صلى الله عليه وسلم, بالامتثال لجميع الواجبات والمستحبات, واجتناب المحرمات والمكروهات, ومتى كان صادقاً في ذلك, أعانه الله الجواد الكريم.

إجلال الله جل جلاله وتعظيمه والتواضع له

إذا قال الحاج و المعتمر : الله أكبر استحضر معناها, وأن الله سبحانه وتعالى أكبر من كل شيء ذاتاً وقدراً وعزةً وجلالةً, فهو أكبر من كل شيء في ذاته وصفاته وأفعاله.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله في قصيدته الميمية :

أما والذي  حج المحـبون  بـيته        ولبوا له عند المُهَلِ   وأحرموا

وقد كشفوا تلك الرؤوس تواضعاً        لعزةِ من تعنوا الوجوه وتُسلِم

قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله : كشفوا رؤوسهم في الإحرام تواضعاً لله عز وجل, وهذا أمر معروف إلى الآن أن الإنسان يكشف رأسه من باب التواضع وتعظيم من كشف رأسه من أجله حتى نشاهد الآن الجند إذا مرّ بهم شخص يكرمونه يضعون ما على رؤوسهم من القبعات إكراماً له وتعظيماً...وهذا معنى لا يكاد أحد من المحرمين يشعر به أنه يكشف الرأس تواضعاً لله عز وجل.

فيعود الحاج والمعتمر لوطنه وقد امتلأ قلبه من تعظيم الله وإجلاله والتواضع له, ويكون هذا ديدنه في جميع أموره وأفعاله.

التسليم لأمر الله تعالى وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام ولو لم يعلم الحكمة فيه

إذا وصل الحاج و المعتمر إلى الحجر الأسود استلمه وقبله, اقتداءً بالنبي علية الصلاة والسلام, ويتذكر عند تقبيله الامتثال لأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم, فأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه, قبّل الحجر الأسود, وقال : إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه يقبلك ما قبلتك, قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : وفي قول عمر هذا, التسليم للشارع في أمور الدين, وحسن الإتباع فيما لم يكشف عن معانيها, وهو قاعدة عظيمة في إتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما يفعله, ولو لم يعلم الحكمة فيه.

ويرمي الحاج الجمرات, تعظيماً لله تعالى, واقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم, قال العلامة ابن قدامة رحمه الله : فإذا رميت الجمار فاقصد بذلك الانقياد للأمر, وإظهار الرق والعبودية, ومجرد الامتثال من غير حظ النفس, وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله : نرمى هذه الجمرات إقامة لذكر الله, وإتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم, وتحقيقاً للتعبد, فإن الإنسان إذا عمل طاعة وهو لا يدري ما فائدتها إنما يفعلها تعبداً لله, كان هذا أدل على كمال ذله وخضوعه لله عز وجل.

وهذه فائدة عظيمة أن يعود الحاج والمعتمر وقد عزم أن يطيع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فيما يأمران أو ينهيان بدون اعتراض, علم الحكمة أو لم يعلم, فيكون ممن قال الله فيهم :  {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلَّ ضلالاً مبيناً} [الأحزاب:36].