أسباب تُعينُ العبد على الصبر عن المعصية (1-2)

فهد بن عبد العزيز الشويرخ

أحدها : علم العبد بقبحها ورذالتها ودناءتها, وأن الله إنما حرمها ونهى عنها صيانة لعبده عن الدنايا والرذائل.

  • التصنيفات: الآداب والأخلاق -

 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...أما بعد :

فالإنسان عبد ضعيف من جميع الجوانب, فهو ضعيف البنية والإرادة والعزيمة والصبر, وغيرها, قال الله عز وجل:   {وخُلِقَ الإنسانُ ضعيفاً}  [النساء :28] وهذا الضعف يجعله يقع في المعاصي, التي هي سبب للعقوبات, قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : الذنوب سبب للبلايا والعقوبات العاجلة والآجلة.

وهناك أسباب تعين العبد على الصبر عن المعصية, ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله عشرة منها, قال رحمه الله : الصبر عن المعصية ينشأ من أسباب عديدة :

أحدها : علم العبد بقبحها ورذالتها ودناءتها, وأن الله إنما حرمها ونهى عنها صيانة لعبده عن الدنايا والرذائل.

السبب الثاني : خوف الله وخشيته.

السبب الثالث: الحياء من الله عز وجل, فإن العبد متى علم بنظره إليه..استحيا من ربه أن يتعرض لمساخطه.

السبب الرابع: مراعاة نعمه عليك وإحسانه إليك, فإن الذنوب تزيل النعم ولا بد...ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمةً نعمةً حتى يُسلب النعم كلها, قال الله  عز وجل:  {إن الله لا يُغيرُ ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم}  [الرعد/11]  

السبب الخامس : شرفُ النفس وزكاؤها وفضلها وأنفتها وحميتها أن تختار الأسباب التي تحطها وتضع قدرها, وتخفض منزلتها وتُحقّرها, وتسوي بينها وبين السفلة.

السبب السادس : محبة الله سبحانه وهي من أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه.

السبب السابع : مجانبة الفضول في مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس, فإن قوة الداعي إلى المعاصي إنما تنشأ من هذه الفضلات, فإنها تطلب لها مصرفاً, فيضيق عليها المباحُ, فتتعداه إلى الحرام, ومن أعظم الأشياء ضرراً على العبد بطالته وفراغه, فإن النفس لا تقعد فارغة, بل إن لم يشغلها بما ينفعها شغلته بما يضرّه ولا بد.

السبب الثامن : قوة العلم بسوء عاقبة المعصية وقبح أثرها, والضرر الناشئ منها.

السبب التاسع:قصر الأمل وعلمه بسرعة انتقاله..فهو..حريص على ترك ما يثقلُه حمله

السبب العاشر : ثبات شجرة الإيمان في القلب, فصبر العبد عن المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه, فكلما كان إيمانه أقوى كان صبره عن المعاصي أتمّ.

ومن الأسباب التي تُعينُ العبد على الصبر عن المعصية, إضافة إلى ما ذكره, ما يلي :

يقين العبد أن اللذة الموجودة في بعض المعاصي بمنزلة طعام لذيذ لكنه مسموم

ما يوجد في بعض الذنوب والمعاصي من  مسرة عاجلة, فهي بمثابة من يأكل طعاماً لذيذاً مسموماً, يلتذُّ به وفيه هلاكه, قال العلامة ابن القيم رحمه الله : المعاصي والكفر والشرك وأنواع الظلم هي شرور...وإن نالت بها النفس مسرة عاجلة, وهي بمنزلة طعام لذيذ شهي لكنه مسموم, إذا تناوله الآكلُ لذّ له أكله وطاب له مساغه, وبعد قليل يفعلُ به ما يفعل, فهكذا المعاصي والذنوب ولا بدَّ, حتى ولو لم يخبر الشارع بذلك لكان الواقع والتجربةُ الخاصةُ والعامة من أكبر شهوده.

وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله : للذنوب تأثيرات قبيحة, مرارتها تزيد على حلاوتها أضعافاً مضاعفة.

يقين العبد أن الذنوب لها عقوبة لكن قد يتأخر وقوعها استدراجاً

الذنوب لابد لها من عقوبة لكن قد يتأخر وقوعها, استدراجاً من الله, قال عز وجل:  {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون . وأُملي لهم إن كيدي متين}  [الأعراف/182-183] قال بعض السلف : كلما أحدثوا ذنباً أحدثنا لهم نعمة.

وعن عُقبة بن عامر رضي الله, قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا رأيت الله عز وجل يعطى العبد وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك استدراج منه ثم تلا قوله عز وجل: } فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيءٍ حتى إذا فرحوا بما أُتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون { [الأنعام/44] قال العلامة ابن القيم رحمه الله : قال بعض السلف : إذا رأيت الله يتابع عليك نعمَه عليك وأنت مقيم على معاصيه فاحذره, فإنما هو يستدرجك به وقال آخر : رُبَّ مستدرج بنعم الله عليه وهو لا يعلم ورُبَّ مغرور بستر الله عليه وهو لا يعلم....فكن من عقوبته العاجلة والآجلة على حذر, واعلم أن العقوبة تختلف فتارةً تُعجّل, وتارة تؤخّر, وتارةً يجمعُ الله على العاصي بينهما, وقال رحمه الله : ...الرب سبحانه...أما من سقط من عينه وهان عليه, فإنه يخلي بينه وبين معاصيه, وكلما أحدث ذنباً أحدث له نعمه, والمغرور يظن أن ذلك من كرامته عليه, ولا يعلم أن ذلك عين الاهانة, وأنه يريد به العذاب الشديد, والعقوبة التي لا عاقبة معها, كما في الحديث المشهور : ( إ «ذا أراد الله بعبده خيراً عجَّل له عقوبته في الدنيا, وإذا أراد بعبده شراً, أمسك عنه عقوبته في الدنيا, فيرد يوم القيامة بذنوبه» ) قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله : من أعظم المحن الاغترار بالسلامة بعد الذنب, فإن العقوبة قد تتأخر.

يقين العبد أن الذنوب لا تزيل الهموم بل تغيبها فترة ثم تعود أشدَّ ما تكون

الذنوب لا تزيل الهموم, فهي تغيبها فترة من الزمن تعود بعدها أشد من سابقتها قال العلامة ابن القيم رحمه الله : السُّكر يُوجب اللَّذة...فإن صاحبها يحصل له لذة وسرور بها, يحملُه على تناولها, لأنها تُغيب عنه عقله, فتغيِّب عنه الهموم والغموم والأحزان تلك الساعة, ولكن يغلطُ في ذلك, فإنها لا تزول, ولكن تتوارى, فإذا صحا عادت أعظم ما كانت وأوفر, فيدعوه عودها إلى العود, كما قال الشاعر :

وكأسٍ شربتُ على  لذَّةٍ         وأُخرى تداويت منها بها    

وتلك اللذة أجلبُ شيءٍ للهموم والغموم عاجلاً وآجلاً.

يقين العبد أن المذنب قد يؤخذ على حين غرة

قال العلامة ابن القيم رحمه الله عن إهلاك الله عز وجل لقوم لوط : فجعلهم آية للعالمين, وموعظة للمتقين, ونكالاً وسلفاً لمن شاركهم في أعمالهم من المجرمين...أخذهم على غرةٍ وهو نائمون, وجاءهم بأسُه وهو في سكرتهم يعمهون, فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون, فانقلبت تلك اللذات آلاماً فأصبحوا بها يعذبون..ذهبت اللذات, وأعقبت الحسرات, وانقضت الشهوات, تمتعوا قليلاً, وعذبوا كثيراً, رتعوا مرتعاً وخيماً, فأعقبهم عقاباً أليماً, أسكرتهم خمرة تلك الشهوة, فما استفاقوا منها إلا في ديار المعذبين, وأرقدتهم تلك الغفلة, فما استيقظوا إلا وهو في منازل الهالكين, فندموا والله أشد الندامة حين لا ينفع الندم, وبكوا على ما أسلفوه بدل الدموع بالدم.

يقين العبد أن لترك المعاصي فوائد كثيرة

قال العلامة ابن القيم رحمه الله : لو لم يكن في ترك الذنوب والمعاصي إلا إقامة المروءة, وصون العرض, وحفظ الجاه, وصيانةُ المال الذي جعله الله قواماً لمصالح الدنيا والآخرة ومحبة الخلق وصلاح المعاش, وراحة البدن, وقوة القلب, وطيب النفس, ونعيم القلب, وانشراح الصدر, والأمن من مخاوف الفُساق والفُجار, وقلة الهم والغم والحزن, وعزّ النفس عن احتمال الذُّلِّ, وصونُ نور القلب أن تطفئهُ ظلمةُ المعصية, وحصول المخرج له مما ضاق على الفساق والفجار, وتيسير الرزق عليه من حيث لا يحتسبُ, وتيسير ما عسُر على أرباب الفسوق والمعاصي, وتسهيل الطاعات عليه, وتيسير العلم, والثناء الحسن في الناس, وكثرة الدعاء له, والحلاوة التي يكتسبها وجهه, والمهابة التي تُلقي له في قلوب الناس, وانتصارهم وحميتهم له إذا أوذي وظلم, وذبُّهم عن عرضه إذا اغتابه مغتاب, وسرعة إجابة دعائه, وزوال الوحشة التي بينه وبين الله, وقُربُ الملائكة منه, وبعدُ الشياطين الإنس والجن منه, وتنافس الناس على خدمته وقضاء حوائجه, وخطبهم لمودته وصحبته, وعدم خوفه من الموت بل يفرح به لقدومه على ربه ولقائه له ومصيره إليه, وصغر الدنيا في قلبه, وكبرُ الآخرة عنده, وحرصُهُ على الملك الكبير والفوز العظيم فيها, وذوقُ حلاوة الطاعة, ووجد حلاوة الإيمان, ودعاء حملة العرش ومن حوله من الملائكة له, وفرحُ الكاتبين به ودعاؤهم له كل وقت, والزيادة في عقله وفهمه وإيمانه ومعرفته وحصول محبة الله له وإقباله عليه وفرحه بتوبته..فهذه بعض آثار ترك المعاصي في الدنيا, فإذا مات تلقَّته الملائكة بالبشرى من ربه بالجنة, وبأنه لا خوف عليه ولا حُزن, وينتقل من سجن الدنيا وضيقها إلى روضة من رياض الجنة ينعم فيها إلى يوم القيامة, فإذا كان يوم القيامة كان الناس في الحرِّ والعرق وهو في ظلِّ العرش.

يقين العبد أن الإصرار على المعاصي يؤدي إلى سوء الخاتمة

قال أبو محمد الإشبيلي رحمه الله : واعلم أنَّ سوء الخاتمة- أعاذنا الله منها-  أسباباً, ولها طرقاً وأبواباً, أعظمها : الاكباب على الدنيا, والإعراض عن الأخرى, والإقدام والجرأة على معاصي الله عز وجل, ولقد بكى سفيان الثوري ليلة حتى الصباح, فلما أصبح قيل له : كلُّ هذا خوفاً من الذنوب ؟ فأخذ تبنةً من الأرض, وقال : الذنوب أهون من هذا, وإنما أبكى من خوف الخاتمة....وهذا من أعظم الفقه : أن يخاف الرجل أن تخذله ذنوبه عند الموت, فتحول بينه وبين الخاتمة بالحسنى,

وقال: واعلم أن سوء الخاتمة أعاذنا الله منها لا تكون لمن استقام ظاهره, وصلح باطنه ما سمع بهذا ولا علم به, ولله الحمد وإنما تكون لمن له فساد في العقيدة, أو إصرار على الكبائر وإقدام على العظائم, أو لمن كان مستقيماً ثم تغيرت حاله وخرج عن سنته, وأخذ في طريق غير طريقه فيكون عمله ذلك سبباً لسوء خاتمته وسوء عاقبته

وقال الإمام الشاطبي رحمه الله: من مات مصراً على المعصية فيخاف عليه فربما إذا عاين علامات الآخرة استفزه الشيطان وغلبه على قلبه حتى يموت على التبديل والتغير

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله : مات كثير من المصرين على المعاصي على أقبح أحوالهم...وكثيراً ما يقع هذا للمصرين على الخمر المدنين لشربها.

وقال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله :إن أكلة الرِّبا مُجرب لهم سوء الخاتمة,وقال الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد رحمه الله  : فالغالب أن من تعاطي الربا لا يختم له بخير, في الغالب أنه يموت على شر, لأن دمه ولحمه نبت على سُحت, فحريّ ألا يوفق ولا يُختم له بخيرٍ, وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله : والمعاملة بالربا أيضاً من أسباب سوء الخاتمة

وقال ابن رجب رحمه الله  خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنه للعبد لا يطلع عليها الناس من جهة عمل سيئ..فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت.

وقال العلامة ابن القيم رحمه الله : كيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله سبحانه قلبه عن ذكره, واتبع هواه, وكان أمره فرطاً ؟ فبعيد من قلب بعيد من الله تعالى غافل عنه متعبد لهواه أسير لشهواته, ولسان يابس من ذكره, وجوارح معطلة من طاعته مشتغلة بمعصيته, أن توفق للخاتمة الحسنى, ولقد قطع خوف سوء الخاتمة ظهور المتقين.

وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله : كثير من الناس يحرص ألا يخطئ في العمل الظاهر, وقلبه مليء بالحقد على المسلمين, وعلمائهم, وعلى أهل الخير, وهذا يُختم له بسوء الخاتمة والعياذ بالله, لأن القلب إذا كان فيه سريرة خبيثة فإنها تهوى بصاحبه في مكان سحيق...وأيضاً من أسباب سوء الخاتمة محبة الكفار, لأنها سريرة خبيثة, بل الواجب على المسلم محبة المسلمين وموالاتهم وكراهية الكفار ومعاداتهم, فإذا كان الأمر بالعكس عند أحد الناس فذلك أمر خطير يخشى على صاحبه أن يختم له بسوء الخاتمة.

يقين العبد أن الذنب إذا كان فيه تعد على الآخرين فالغالب أن العقوبة تتعجل

عن أبي بكرة رضي الله عنه, أن النبي صلى الله عليه وسلم, قال : ( «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدَّخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» ) [أخرجه أبو داود] قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله : الذنب إذا كان فيه تعدٍّ على العباد, فإن الله قد يجمع لفاعله بين العقوبتين, عقوبة الدنيا والآخرة, عقوبة الدنيا ليشفي قلب المظلوم المعتدى عليه, ولا شك أن الإنسان إذا اعتدي عليك ثم رأيت عقوبة الله فيه أنك تفرح بأن الله سبحانه وتعالى اقتصَّ لك منه, وقال ابن القيم رحمه الله : من ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة رحم.