(5) الصورة سيماء قرآنية
فريد الأنصاري
ومن هنا لم تكن عناية الإسلام بالصورة الجسمية فارغة من أي مضمون، أو مجرد شكليات، وجودها كعدمها، كلا! بل هي أيضا تعبر عن انتماء حضاري، وموقف عقدي، ورؤية وجودية. إنها عمق مذهبي، والتزام ديني.
- التصنيفات: التفسير - العلاقة بين الجنسين - أعمال أدبية -
ومن هنا لم تكن عناية الإسلام بالصورة الجسمية فارغة من أي مضمون، أو مجرد شكليات، وجودها كعدمها، كلا! بل هي أيضا تعبر عن انتماء حضاري، وموقف عقدي، ورؤية وجودية. إنها عمق مذهبي، والتزام ديني.
ولذلك فليس عبثا أن تجد القرآن نفسه وهو أعظم مصدر ديني في الإسلام ينص على قواعد اللباس، وقواعد التصرف الصوري (نسبة إلى الصورة)، على سبيل الإلزام حينا، وعلى سبيل الإرشاد حينا آخر.
إن رمزية اللباس في الإسلام تنطلق مرجعيتها من قصة خلق آدم عليه السلام وزوجه حواء. حيث كان لباس الجنة رمزا للرضى الإلهي، وبمجرد ارتكابهما للخطيئة تحول ذلك إلى عري! فالعري هو رمز التمرد على الخالق. إنه إذن رمز الشيطان! قال عز وجل: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى. إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى. وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى. فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى. فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى. ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:117 - 122].
إن هذه الآيات تلخص قصة اللباس كيف بدأ في تاريخ الإنسان وفي تاريخ الدين كله. فآدم عليه السلام وزوجه كانا على تمام النعمة في الجنة، أَكْلاً وشُرْباً ولباسا. فقوله تعالى: {ولا تعرى} دال على أنه عليه السلام كان يتمتع بلباس الجنة هو وزوجه.
قال القرطبي في تفسير هذه الآيات: (فأعلمه أن له في الجنة هذا كله: الكسوة والطعام والشراب والمسكن). وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى}: إنما قرن بين الجوع والعري؛ لأن الجوع ذل الباطن، والعري ذل الظاهر). وقوله {ولا تضحى} أي لا تتعرض لحر الشمس. فهو في ظلالها وجمالها.
فصرح القرآن العظيم بعلة وسوسة الشيطان لآدم وزوجه؛ أنها الرغبة في تعريتهما التعرية التامة! حتى تظهر لهما سوءاتهما، فيريان ذلك من أنفسهما معا! وليس أبعد في المنكر والخزي من أن يتعرى الإنسان، ويكشف عن عورته على ملأ الناس! إذن تمسخ طبيعته التي فطر عليها، من رتبة الإنسانية إلى دَرَك البهَمِيَّة، كما هي معظم شوارع هذا الزمان وتلفزيوناته!
صحيح أن آدم وزوجه إنما كانا وحيدين في جنسهما آنذاك. إذ هما أول الخلق البشري. ولكن قصة آدم إنما كانت لوضع أصول التربية الفطرية للإنسان، والعهد إليه بميثاقها.
فالشيطان سعى قصدا لنقض هذه المقاصد، وتعرية الإنسان وتطبيعه على التعري، وخرق الحياء كقيمة إنسانية. ولذلك قال عز وجل في سورة الأعراف مبينا: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ. وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ. فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [الأعراف:20 - 22].
ومن هنا كانت الآية البصيرة -وكل آيات القرآن بصائر- الآية التي تحكم منطق اللباس في الإسلام، وتوجهه، وتمنحه مضمونه المقاصدي بالشمول الكلي، تحيل تعليل فطرة اللباس وطبيعته الإسلامية على قصة آدم نفسها، لكن بوضوح أبين، ودلالة أقوى، وهي قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا. وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ. ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ. يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا. إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ. إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:26].
والذي نفسي بيده! لو أبصرت النساء اليوم هذه الآية وحدها لكفتهن! ولكن أكثرهن -مع الأسف- هن كما قال الله تعالى عَمْياوَاتُ البصائر: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [الأعراف:198].
ومن جمالية التعبير القرآني بهذه الآية البصيرة؛ أنه تعالى ذَكَر لباس الثياب، ثم كنى عنه بالريش؛ وذلك لما للطائر من جمال إذ ينطلق بريشه محلقا في الفضاء، أو مستقرا على الشجر، أو ماشيا على الأرض. وما أتعسه من طير فقد ريشه! أو نتفه من يعذبه به! ألا ذلك هو العذاب الأليم! وقرن تعالى هذا كله بلباس التقوى، وإنما القصد (بلباس التقوى) صلاح النفس، لا اللباس المادي الظاهر، ولكنه هنا سيق ليكون هو غاية اللباس المادي في الإسلام، والمقصد الأساس من تشريعه. فإنما اللباس ما عبر عن ورع صاحبه وتقواه، ذكرا كان أم أنثى.
ومن ثَمَّ كان العهد الذي أخذه الله على الإنسان، بعدم عبادة الشيطان؛ يعود بنا إلى قصة العري والعصيان الآدمي. وذلك قول الله جل جلاله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ. وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} ( [يس:60 - 61].
فكان الالتزام باللباس نوعا من الوفاء العَقَدي لعهد الله وعدم الإشراك به، كما كان التعري نوعا من الشرك والوثنية! لما فيه من إبراز وتقديس للجسمانية على حساب الروحانية؛ ومن هنا كانت أحكام اللباس في الإسلام متأصلة في عقيدة التوحيد! وهذا معنى من ألطف ما يكون، وسر من أعجب أسرار القرآن! .. فتدبر!
في هذا الفضاء الكوني القرآني إذن؛ جاءت آية سورة الأحزاب في فرض نموذج لباس المرأة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب:59]. وآيات سورة النور التي منها قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31].
وفي هذا الفضاء أيضا جاء تمييز الرجال بألبستهم وصورهم. صحيح أن الإسلام لم يفرض نموذجا عربيا أو عجميا للباس، ولكنه فرض قواعد يجب أن تحترم سواء كان اللباس عربيا أو عجميا. وقد لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم اللباس العجمي وأقره بين الصحابة، كالقَبَاطِي والجبة الرومية، وغير ذلك،
مادامت تلك الألبسة لا تحمل دلالة دينية رمزية لغير المسلمين من ناحية، وما دامت من ناحية أخرى تستجيب لقواعد اللباس الرجالي في الإسلام.