إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ

خالد سعد النجار

الجهل رأس كل خطيئة، ومنشأ كل ضلال، قال قتادة رحمه الله: "أجمع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن كل ما عصي الله به فهو جهالة، عمدا كان أو غيره".

  • التصنيفات: طلب العلم -


 

الجهل بئس الرفيق، والجاهل يفعل بنفسه ما لا يفعل العدو بعدوه، فهو كَسَاعٍ إِلَى الْهَيْجَا بِغَيْرِ سِلاَحِ، وإن لم يكن في الجهل أنه يشوش الفكر ويعتم البصيرة لكفى به ذما، فكيف وهو مصيبة وداء عضال يسلب المرء وجهته الصحيحة في الدنيا والآخرة، وهو محض عفن فيه تفرخ الشهوات والشبهات والخرافات والتطرف.

الجهل رأس كل خطيئة، ومنشأ كل ضلال، قال قتادة رحمه الله: "أجمع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن كل ما عصي الله به فهو جهالة، عمدا كان أو غيره".

ولهذا جاء وصفهم في القرآن أنهم { {يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} } [النِّسَاء: 17]. أي جهل بمقام الله وقدره، أو جهل بنظر الله ومراقبته، أو جهل بعاقبة المعاصي وإيجابها لسخط الله، فهو جهل يقود إلى العصيان.

ومن أمثلة ذلك ما قاله بنو إسرائيل لنبيهم موسى -عليه السلام- حين أمرهم بأمر الله في ذبح البقرة فقالوا: { {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} } [البَقَرَة: 67]. فكان رد موسى عليهم أن قال لهم: { {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} } ولم يقل أعوذ بالله أن أكون من المستهزئين أو الساخرين.

كذلك الفواحش والمعاصي جميعها هي ضروب وأنواع من الجهل. فهذا نبي الله يوسف عليه السلام حين دعته امرأة العزيز ومن معها من النسوة إلى الفاحشة فرد عليهن داعيا ربه قائلاً: { {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} } [يُوسُف: 33].

والجهل محقِّر العظماء، ومضيِّع السفهاء، يطمس الهمة ويذيب الهوية

ومنزلة الفقيه من السفيه    كمنزلة السفيه من الفقيه
فهذا زاهد في قرب هذا      وهذا فيه أزهد منه فيه

وإذا خيَّم الجهل في بلاد اتَّشحت مدنُها بالظلام، وأصبحت أمة مقيَّدة اليدين، ومعصوبة العينين، لا تعرف إلى أيِّ هاوية تُساق.

إذا ما الجهل خيَّم في بلادٍ         رأيتَ أُسودَها مُسِخَت قُرودَا

وما حل الجهل بمتسع إلا ضاق، قال تعالى: { {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} } [الرعد:41] .. عن عطاء بن أبي رباح: ذهاب فقهائها وخيار أهلها.وعن مجاهد : موت الفقهاء والعلماء .. وذلك لأن بالعلم وأهله تنتظم حياة الناس ويسع بعضهم بعضا، والجهل سبب الهرج والمرج ونشوء الفتن فتضج الأرض بأهلها.

والجهل يلحق الهزيمة بأصحابه في معركة الوعي، وقديما قالوا: "ليس الخطر أن يقوم الصراع بين الحق والباطل، ولكن الصراع أن يفقد الناس الإحساس بالفرق بين الحق والباطل" .. وانظر ما فعل الجهل بالأمم في غياب الوعي المعرفي واضطراب البوصلة المجتمعية، خاصة في بلدان الربيع العربي، حيث يقول أحد المحللين: "الآن الشعب يجاهد في بعضه البعض، والباقي يذرفون الدموع على عهد الاسترقاق".

يقول شوقي:

إني نظرتُ إلى الشعوب فلم أجد  كالجهلِ داءً للشعوبِ مبيداً
الجهـــلُ لا يلدُ الحيـــــــــاةَ مُواتُهُ       إلا كمـــا تلدُ الرِّمَّــــام الدُّودا
لم يخُل من صــــورِ الحيـــاة وإنما     أخطاهُ عُنْصُرها فمات وليـدا

فالجهل –كما يقول الشاعر- داء يهلك الشعوب مثل الموت، والموت لا يعطي حياة، كذلك الجاهل يبدو في صورة الأحياء لكن حياته لا خير فيها، كالدود يتوالد من الرمة ولا قيمة له .

نقل السمعاني عن أهل العلم قولهم: "لَا دَاء أعظم من الْجَهْل، وَلَا دَوَاء أعز من دَوَاء الْجَهْل، وَلَا طَبِيب أقل من طَبِيب الْجَهْل، وَلَا شِفَاء أبعد من شِفَاء الْجَهْل".

الجهل طريق مظلم لا فكاك منه إلا بنور المعرفة، ومفازة وعرة لا ينجو منها إلا بمركب العلم .. قال تعالى: { {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} }[التوبة: 46]

روي عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أنه قال: "تعلموا العلم، فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلم صدقة، وبذله لأهله قربة، لأنه معالم الحلال والحرام، والأنيس في الوحشة، والصاحب في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والزين عند الأخلاء، والقرب عند الغرباء، يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخلق قادة يقتدى بهم، وأئمة في الخلق تقتص آثارهم، وينتهى إلى رأيهم، وترغب الملائكة في حبهم، بأجنحتها تمسحهم، حتى كل رطب ويابس لهم مستغفر، حتى حيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه، والسماء ونجومها، لأن العلم حياة القلوب من العمى، ونور الأبصار من الظلم، وقوة الأبدان من الضعف، يبلغ به العبد منازل الأحرار، ومجالسة الملوك، والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، والفكر به يعدل بالصيام، ومدارسته بالقيام، به يطاع الله عز وجل، وبه يعبد الله عز وجل، وبه توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال من الحرام، إمام العمل، والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء".

قال الإمام الشافعي:

كم يرفع العلم أشخاصا إلى رتب    ويخفض الجهل أشرافا بلا أدبِ

وقال ابن القيم: "ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف".

فكل من كان بالله أعلم كان أكثر له خشية، وأوجبت له خشية الله الانكفاف عن المعاصي، والاستعداد للقاء من يخشاه، وهذا دليل على فضيلة العلم، فإنه داع إلى خشية الله، وأهل خشيته هم أهل كرامته، كما قال تعالى: { {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} } [البَيّنَة: 8].

ولما سأل نوح عليه السلام ربه أن ينجي ابنه الكافر من الغرق في الطوفان، عاتبه الله ووعظه وحذّره أن يكون من الجاهلين، فقال -جل وعلا-: { {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} } [هُود: 46].

والعلم للأمم كنزها الاستراتيجي في عصر الكل يتسابق إلى المعلومة، ولذلك قالوا: "العلم في الغربة وطن، والعلم في الوطن تاج للوطن".

والعلم لا يدرك براحة الجسد، وشرط التوفيق فيه الإخلاص، والسر في ذلك -والله أعلم- أن هداية السبيل ولزوم المحجة أمرٌ عزيز لا يمنحه الله -عز وجل- إلا من يُحِب، وظهرت منه الدلائل على صدق المحبة.

يقول الشيخ أبو الفداء بن مسعود: "العذر بالجهل لا يعني تسويغ الجهل، وأنَّ الاضطرار إلى التقليد لا يعني الرِّضا به والإقرار عليه؛ هذه خصال ذميمة يَعرف مذمَّتَها مَن له أدنى اطلاع على نصوص شريعة رب العالمين، وينبغي أن يُعلم أن الجهل بما يجب تعلمُه معصية في ذاته، وأن العذر لا يتسع في الآخرة لمن كان قادرًا على تعلم ما يجب عليه أن يتعلمه ولكنه تخلف عن ذلك؛ فإن ما لا يقوم الواجب إلا بتعلمه فتعلمه واجب، وما أُتي الناس في زماننا إلا من قِبَل جهلهم بمراتب العلوم الواجبة عليهم؛ الشرعي منها والدنيوي"