(4) منهج عمر في مراقبة ومحاسبة الولاة

ھذه القضية شغلت حيزا كبيرا من الفكر العمري، وھي من أكابر مظاھر حزمه وعدله مع ولاته ورعيته؛ لانھا تتضمن مبدأ الثواب والعقاب، الذي ينبغي أن يشغل بال الولاة والعمال.

  • التصنيفات: التاريخ الإسلامي - سير الصحابة -
(4) منهج عمر في مراقبة ومحاسبة الولاة

ھذه القضية شغلت حيزا كبيرا من الفكر العمري، وھي من أكابر مظاھر حزمه وعدله مع ولاته ورعيته؛ لانھا تتضمن مبدأ الثواب والعقاب، الذي ينبغي أن يشغل بال الولاة والعمال.

وقد كان عمر جادا قاطعا، إذ يجمع بين الوالي والرعية. قال ذات مرة – بعد ما عرض توجيھاته إلى الولاة: فمن فٌعل به غيرُ ذلك، فليقم، فما قام إلا رجل واحد شاكيا: إن  عاملك فلانا ضربني مائة سوط.
قال عمر: فبم ضربته؟ ويبدو أن العامل لم يُجب، فأصدر عمر حكمه للرجل: قم، فاقتص منه،

فانبرى عمرو بن العاص قائلا: يا أمير المؤمنين، إنك إن فعلت ھذا يكثر عليك، ويكن سنة يأخذ بھا من بعدك، فبين له عمر أنه رأى الرسول يُقيد (يسمح  بالقصاص) من نفسه،

قال عمرو: ُ دعنا، فلنرضه، قال عمر: دونكم فأرضوه، فافتدى منه بمائتي دينار، كل سوط بدينارين.

حرص الخليفة ابن الخطاب رضى الله عنه على سؤال عماله، مھما كانت مكانتھم عن الاموال، التي يجبونھا من الناس: أھي من حلال، أم من حرام؟ فھا ھو الصحابي الجليل أبو ھريرة رضى الله عنه يأتي في نھاية العام بما جباه من البحرين وھجر، وقد بلغ خمسمائة ألف،

فقال له عمر رضى الله عنه: ما رأيت مالا مجمعا –قط- أكثر من ھذا، فيه دعوة مظلوم، أو مال يتيم، أو أرملة؟ قال أبو ھريرة: لا والله فإنه بئس -والله- الرجل أنا إذن، إن ذھبت أنت بالمھنأ، وأنا أذھب بالمؤنة.


وإذا كان ھذا يقع منه في حق صحابي فوق الشبھات، فإنه في حق غيره أكثر وقوعا، فقد ثبت أنه لما جُبي إليه مال العراق، أخرج عشرة من أھل الكوفة، ومثلھم من أھل البصرة يشھدون أربع شھادات بالله إنه لطيب، ما فيه ظلم مسلم، ولا معاھد.

منح الله عمر بن الخطاب فطنة وذكاء وفراسة، فكان لا يخدع ولا يُخدع؛ من ھنا كان يأخذ حذره تماما من عماله، ويشتد معھم في الحساب، بل كان يطلب بيانا من العامل بما يمتلكه عندما يوليه منصبه.

ولا شك أن ذلك كان لمقارنته بما يصير إليه ماله بعد فترة من ولاية المنصب، فينظر ھل تربح منه أولا، فھا ھو عتبة بن أبي سفيان، استعمله عمر رضى الله عنه على كنانة، فقدم معه بمال،
فسأله: ما ھذا يا عتبة؟ قال:مال خرجت به معي، وتجرت فيه. قال عمر: وما لك تخرج المال معك في ھذا الوجه؟! فصيره في بيت المال. فھنا عد عمر التجارة مع تولي المنصب شبھة، درأھا مصادرة جزء من المال فيما نفھم.


وأثر عنه قيامه رضى الله عنه بمقاسمة كثير من عماله أموالھم، ولم يكن يعتد بما يزعمونه من أن ھذه الاموال نمت وتضخمت للتجارة ونحوھا، ومن ھؤلاء:
سعد بن أبي وقاص بالعراق، وعمرو بن العاص بمصر، وأبو ھريرة بالبحرين.
ذكر أبو عبيد بسنده أن عمر كان يقيل في ظل شجرة، فجاءت امرأة أعرابية، فقالت: إني امرأة مسكين، ولي بنون، وإن أمير المؤمنين بعث محمد ابن مسلمة ساعيا، فلم يعطنا فاستدعاه عمر في الحال.

ويبدو أن ابن مسلمة فاته إعطاء ھذه المرأة وبنيھا، فعاتبه عمر عتابا شديدا، وقال له: إن الله بعث إلينا نبيه صلى الله عليه وسلم، فصدقناه، واتبعناه، فعمل بما أمره الله به، فجعل الصدقة لاھلھا من المساكين، حتى قبضه الله على ذلك، ثم استخلف الله أبا بكر فعمل بسنته حتى قبضه الله، ثم استخلفني فلم آل أن أختار خياركم، فكيف أنت قائل إذا سألك الله عز وجل عن ھذه؟!

فدمعت عينا محمد، ثم أمره عمر قائلا: إن بعثتك، فأد إليھا صدقة العام، وعام أول. وما أدري لعلى لا أبعثك.

 ثم طيب خاطرھا وعوضھا في الحال مشقة السفر والترحال و السؤال، فدعا لھا بجمل، فأعطاھا دقيقا وزيتا، وقال: خذي حتى تلحقي بنا بخيبر، فلما أتته بخيبر، دعا لھا بجملين آخرين، وقال: خذي ھذا، فإن فيه بلاغا حتى يأتيكم محمد بن مسلمة، فقد أمرته أن يعطيك حقك للعام، وعام أول.
 

ولم يكن عمر بن الخطاب رضى الله عنه يتردد في عزل العمال المخطئين، فقد عزل قدامة بن مظعون الجمحي عن جباية البحرين، وحده على شرب الخمر. وتذكر بعض المصادر أن رجلا ھتف بعمر وھو يسير في بعض طرقات المدينة: يا عمر، أترى أن ھذه الشروط –ما اشترطه على عماله من قبل- تنجيك من الله تعالى، وعاملك عياض بن غنم على مصر، وقد لبس الرقيق، واتخذ الحاجب؟!


فدعا عمر محمد بن مسلمة رسوله إلى العمال، فقال له: ائتني به على الحال التي تجده عليھا، فلما جاءه ابن مسلمة، وجد على بابه حاجبا، ورآه عليه قميص رقيق، فأمره أن يجيب أمير المؤمنين، ورفض أن يطرح عليه عباءته، فلما رآه عمر، نزع قميصه، وأعطاه جبة صوف، وعصا، وغنما وقال: ارعھا، واشرب، واسق من مر بك، واحفظ الفضل علينا، أسمعت؟ قال: نعم، والموت خير من ھذا، فرددھا مرارا، فقال له عمر: ولم تكره ھذا، وإنما سُمي أبوك غنما؛ لانه كان يرى الغنم؟ أترى يكون خير؟! فقال: نعم، يا أمير المؤمنين، فنزع رداءه، ورده إلى عمله، فلم يكن له عامل يشبھه،

يعد إقليما البصرة والكوفة من الاقاليم ذات الخصوصية الشديدة، التي تمرس أھلوھا بالعصيان والخلاف والشقاق، وقد عانى عمر بسببھما المكائد والدسائس، وتعرض ولاته من كبار الصحابة لاكاذيب وافتراءات بعض أھلھا، فكان عمر يرى عزل عماله؛ إيعادا لھم من مواطن الشبھات، ودرءا للمفاسد، وجدا في البحث عن ولاة آخرين، يستطيعون ترضي ھؤلاء المشاغبين، الذين لا يكادون يرضون عن أمير، دائمي الشكاية والسعايات.

فمثلا: اضطر إلى عزل المغيرة سنة ١٧ھـ ً عن البصرة، وولي مكانه أبا موسى الاشعري؛ نظرا لمكيدة دنيئة رتب لھا أبو بكرة البصري –لخلاف بينه وبين المغيرة- وبعض أصدقائه واتھموا فيھا المغيرة بالزنا، وكادت مساعيھم الخبيثة تنجح لولا لطف الله بھذا الصحابي، حيث اختلفت شھاداتھم، فأقيم حد القذف على ثلاثة منھم كذبة، بيمنا صدق الرابع، فأفلت من العقوبة، بينما لو أحكمت الشھادات الاربعة، لرُجم المغيرة ظلما وافتراء وبھتانا.

وكذلك تعرض سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه سنة ٢١ھـ لاتھامات باطلة من بعض أھل الكوفة، فزعمت قلة قليلة أنه لا يحسن يصلي، وزعمت بنو عبس على لسان أحد أفرادھا (أسامة بن قتادة): ً أن سعدا لا يقسم بالسوية، ولا يعد في الرعية، ولا يغزو في السرية.  فعزله عمر؛ كفا لھذه الاباطيل، ووقفا للشكايات، والمكائد، واستعانة به على الشورى.


وكذلك لم يتوان عمر بن الخطاب عن عزل عمار بن ياسر رضى الله عنه عن الكوفة سنة ٢٢ھـ بعد عام من ولايته، وذلك بسبب كراھية أھل الكوفة له، وثبوت عدم كفاءته، وجھله بالسياسة، بل جھله بجغرافية المكان الذي ولاه عمر عليه.

فلما عزله عمر رضى الله عنه، قال له: أساءك حين عزلتك؟ قال: والله ما فرحت به حين بعثتني، ولقد ساءني حين عزلتني، قال له عمر: َ لقد علمت ما أنت بصاحب عمل، ولكني تأولت الاية: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}.
وھكذا بذل ابن الخطاب رضى الله عنه كل ما يستطيع في سبيل حسن اختيار العمال والولاة، وتوجيھھم التوجيھات المثلى التي تضمن سعادة الراعي والرعية، ثم لم يقصر في المتابعة والمراقبة والمحاسبة، بل عزل بعض الولاة والعمال، سواء
كان ذلك عن تقصير وعدم كفاية، أم عن شبھات أثيرت وثبت عدم صحتھا؛ درءا للمفاسد، وجلبا للمصالح.

 


تأليف: عبد الفتاح فتحي عبد الفتاح
المصدر: الخلفاء الراشدين

عمل فريق طريق الإسلام