(46) المسيرة الدعوية لا ترتبط بأحد

علي بن محمد الصلابي

وفي قضية إنفاذ أبي بكر الصديق جيش أسامة -رضي الله عنهما- نجد أن الصديق رضى الله عنه بين بقوله وعمله أن مسيرة الدعوة لم ولن تتوقف حتى بموت سيد الخلق وإمام الأنبياء وقائد المرسلين صلى اله عليه وسلم..

  • التصنيفات: التاريخ الإسلامي - سير الصحابة -
(46) المسيرة الدعوية لا ترتبط بأحد

وفي قضية إنفاذ أبي بكر الصديق جيش أسامة -رضي الله عنهما- نجد أن الصديق رضى الله عنه بين بقوله وعمله أن مسيرة الدعوة لم ولن تتوقف حتى بموت سيد الخلق وإمام الأنبياء وقائد المرسلين صلى اله عليه وسلم، وأثبت مواصلة العمل الدعوي بالمبادرة إلى إنفاذ هذا الجيش حيث نادى مناديه في اليوم الثالث من وفاة رسول الله صلى اله عليه وسلم بخروج جند أسامة رضى الله عنه إلى عسكره بالجرف، وقد كان الصديق رضى الله عنه قبل ذلك قد بين في خطبته التي ألقاها إثر بيعته عن عزمه على مواصلة بذل الجهود لخدمة هذا الدين.

وقد جاء في رواية قوله: فاتقوا الله أيها الناس، واعتصموا بدينكم وتوكلوا على ربكم؛ فإن دين الله قائم وإن كلمة الله تامة، وإن الله ناصر من نصره ومعز دينه. والله, لا نبالي من أجلب علينا من خلق الله، إن سيوف الله لمسلولة ما وضعناها بعد، ولنجاهدن من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله صلى اله عليه وسلم فلا يبغين أحد إلا على نفسه.

ومن الدروس المستفادة من قصة إنفاذ الصديق جيش أسامة -رضي الله عنهما-: أنه يجب على المسلمين اتباع أمر النبي صلى اله عليه وسلم في السراء والضراء، فقد بين الصديق من فعله أنه عاض على أوامر النبي صلى اله عليه وسلم بالنواجذ ومنفذها مهما كثرت المخاوف واشتدت المخاطر، وقد تجلى هذا أثناء هذه القصة عدة مرات، منها:

أ- لما طلب المسلمون إيقاف جيش أسامة رضى الله عنه نظرًا لتغير الأحوال وتدهورها أجاب رضى الله عنه بمقولته الخالدة: والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أن السباع تخطفتني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلى اله عليه وسلم، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته.

ب- ولما استأذنه أسامة -رضي الله عنهما- في الرجوع بجيشه من الجرف إلى المدينة خوفا على الصديق وأهل المدينة لم يأذن له، بل أبدى عزمه وتصميمه على تنفيذ قضاء النبي الكريم صلى اله عليه وسلم بقوله: لو خطفتني الكلاب والذئاب لم أرد قضاء قضى به رسول الله،
وقد
َّم رضى الله عنه بموقفه هذا صورة تطبيقية لقول الله -عز وجل-:
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِينًا} [الأحزاب: 36].

ج- وعندما طُلب منه تعيين رجل أقدم سنا من أسامة رضى الله عنه أبدى غضبه الشديد على الفاروق رضى الله عنه بسبب جرأته على نقل مثل هذا الاقتراح، وقال له: ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب! استعمله رسول الله صلى اله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه.

د- وتجلى اهتمام أبي بكر الصديق رضى الله عنه باتباع النبي الكريم صلى اله عليه وسلم وكذلك في خروجه لتشييع الجيش ومشيه مع أسامة رضى الله عنه الذي كان راكبا، ولقد كان الصديق رضى الله عنه في عمله هذا مقتديا بما فعله سيد الأولين والآخرين رسولنا الكريم صلوات ربي وسلامه عليه مع معاذ ابن جبل رضى الله عنه لما بعثه رسول الله صلى اله عليه وسلم إلى اليمن، فقد روى الإمام أحمد عن معاذ بن جبل رضى الله عنه قال: لما بعثه رسول الله صلى اله عليه وسلم إلى اليمن خرج معه رسول الله صلى اله عليه وسلم يوصيه ومعاذ رضى الله عنه راكب، ورسول الله صلى اله عليه وسلم يمشي تحت راحلته.

قال الشيخ أحمد البنا تعليقا على هذا الحديث: وقد فعل ذلك أبو بكر رضى الله عنه بأسامة بن زيد -رضي الله عنهما- مع صغر سنه، فقد عقد له النبي صلى اله عليه وسلم قبل وفاته لواء على جيش ولم يسافر إلا بعد وفاة النبي صلى اله عليه وسلم، فشيعه أبو بكر رضى الله عنه ماشياً وأسامة رضى الله عنه راكباً، اقتداء بما فعله النبي صلى اله عليه وسلم بمعاذ رضى الله عنه.

هـ- وظهرت عناية أبي بكر الصديق رضى الله عنه بالاقتداء بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أيضا في قيامه بتوصية الجيش عند توديعهم؛ حيث كان رسول الله صلى اله عليه وسلم يوصي الجيوش عند توديعهم، ولم يقتصر الصديق على هذا؛ بل إن معظم ما جاء في وصيته لجيش أسامة كان مقتبسا من وصايا النبي صلى اله عليه وسلم للجيوش.

ولم يقف أبو بكر الصديق رضى الله عنه في الاقتداء بالرسول الكريم صلى اله عليه وسلم فيما قاله وفعله فحسب، بل أمر أمير الجيوش أسامة رضى الله عنه بتنفيذ أمره صلى اله عليه وسلم، ونهاه عن التقصير فيه، فقد قال له -رضي الله عنهما-: اصنع ما أمرك به نبي الله صلى اله عليه وسلم، ابدأ ببلاد قضاعة ثم إيت آبل، ولا تقصرن شيئاً من أمر رسول الله صلى اله عليه وسلم، وفي رواية أخرى أنه قال: امض يا أسامة للوجه الذي أُمرت به، ثم اغز حيث أمرك رسول الله صلى اله عليه وسلم من ناحية فلسطين وعلى أهل مؤتة، فإن الله سيكفي ما تركت. وفي رواية عند ابن الأثير: وأوصى أسامة رضى الله عنه أن يفعل ما أمر به رسول الله صلى اله عليه وسلم.

لقد انقاد الصحابة -رضي الله عنهم- لرأي الصديق وشرح الله صدورهم لذلك، وتمسكوا بأمر الرسول الكريم صلى اله عليه وسلم، وبذلوا المستطاع لتحقيقه، فنصرهم الله تعالى ورزقهم الغنائم وألقى في قلوب الناس هيبتهم، وكف عنهم كيد الأعداء وشرهم.

وقد تحدث (توماس آرنولد) عن بعث جيش أسامة فقال: بعد وفاة محمد صلى اله عليه وسلم أرسل أبو بكر رضى الله عنه الجيش الذي كان النبي صلى اله عليه وسلم قد عزم على إرساله إلى مشارف الشام، على الرغم من معارضة بعض المسلمين، بسبب الحالة المضطربة في بلاد العرب إذ ذاك، فأسكت احتجاجهم بقوله: قضاء قضى به رسول الله، ولو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت جيش أسامة رضى الله عنه كما أمر النبي صلى اله عليه وسلم... ثم قال: وكانت هذه هي أولى تلك السلسلة الرائعة من الحملات التي اجتاح العرب فيها سوريا وفارس وإفريقيا الشمالية، فقوضوا دولة فارس القديمة، وجردوا الإمبراطورية الرومانية من أجمل ولاياتها.

وهكذا نرى الله تعالى قد ربط نصر الأمة وعزها باتباع النبي الكريم صلى اله عليه وسلم، فمن أطاعه فله النصر والتمكين ومن عصاه فله الذل والهوان، فسر حياة الأمة في طاعتها لربها واقتدائها بسنة نبيها صلى اله عليه وسلم.