فوائد كتاب من حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم:2
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
ومن عرف الله سبحانه, وشهد مشهد حقه عليه, ومشهد تقصيره وذنوبه, وأبصر هذين المشهدين بقلبه عرف ذلك وجزم به, والله سبحانه وتعالى المستعان.
- التصنيفات: طلب العلم -
السياحة:
{السائحون} وفُسرت السياحة: بالصيام, وفُسرت: بالسفر في طلب العلم, وفسرت: بالجهاد, وفُسرت بدوام الطاعة.
والتحقيق فيها: أنها سياحة القلب في ذكر الله ومحبته والإنابة إليه والشوق إليه, ويترتب عليها كل ما ذكر من الأفعال.
الجنة تُدخل برحمة الله, واقتسام المنازل والدرجات بالأعمال:
ها هنا أمر يجب التنبيه عليه وهو : أن الجنة إنما تُدخل برحمة الله, وليس عمل العبد مستقلاً بدخولها وإن كان سبباً, ولهذا أثبت الله تعالى دخولها بالأعمال في قوله: {ِبما كنتم تعملون } [العنكبوت:8] ونفى رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلوها بالأعمال في قوله: ( « لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله» )
ولا تنافى بين الأمرين لوجهين:
أحدهما: ما ذكره سفيان قال: كانوا يقولون النجاة من النار بعفو الله ودخول الجنة برحمته واقتسام المنازل والدرجات بالأعمال ويدل على هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( «أن أهل الجنة إذا دخلوها, نزلوا فيها بفضل أعمالهم» ) رواه الترمذي
والثاني: أن الباء التي نفت: باء المعاوضة التي يكون فيها أحد العِوضين مقابلاً للآخر, والباء التي أثبت الدخول هي: باء السببية التي تقتضي سببية ما دخلت عليه لغيره, وإن لم يكن مستقلاً بحصوله, وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الأمرين في قوله: «( سددوا وقاربوا وابشروا, واعلموا أن أحداً منكم لن ينجو بعمله) قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: ( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته )»
ومن عرف الله سبحانه, وشهد مشهد حقه عليه, ومشهد تقصيره وذنوبه, وأبصر هذين المشهدين بقلبه عرف ذلك وجزم به, والله سبحانه وتعالى المستعان.
درج الجنة أكثر من مائة درجة:
في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( « يُقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة اقرأ واصعد, فيقرأ ويصعد بكل آية درجة حتى يقرأ آخر شيءٍ معه» )وهذا صريح في أن درج الجنة تزيد على مائة درجة.
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( « إن في الجنة مائة درجة أعدَّها اللهُ للمجاهدين في سبيله بين كل درجتين كما بين السماء والأرض, فإذا سألتم الله فأسالوه الفردوس, فإنه وسط الجنة, وأعلى الجنة, وفوقه عرش الرحمن, ومنه تفجر أنهار الجنة» ) فإما أن تكون هذه المائة درجة من جملة الدرج, وإما أن تكون نهايتها هذه المائة, وفي ضمن كل درجة درج دونها.
دعاء من أهم الأدعية وأنفعها:
قال الله تعالى حكاية عن أولى الألباب من عباده قولهم: {ربنا إننا سمعنا مُنادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذُنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار *ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخُلفُ الميعاد } [آل عمران:193-194]
والمعنى: وآتنا ما وعدتنا على ألسنة رُسُلك من دخول الجنة.
فإذا سألوه سبحانه أن ينجز لهم ما وعدهم تضمن ذلك توفيقهم وتثبيتهم وإعانتهم على الأسباب التي ينجز لهم بها وعده, وكان هذا الدعاء من أهم الأدعية وأنفعها, وهم أحوج إليه من كثير من الأدعية.
وأحب خلقه إليه أكثرهم وأفضلهم له سؤالاً, وهو يحب المُلحين في الدعاء, وكلَّما ألحَّ العبد عليه في السؤال أحبهُ وأعطاه.
السابقون في الدنيا إلى الخيرات هم السابقون يوم القيامة إلى الجنات:
لما ذكر الله تعالى أصناف بني آدم سعيدهم وشقيهم, قسم سعداءهم إلى قسمين: سابقين وأصحاب يمين, فقال: {والسابقون السابقون} [الواقعة:10]
واختلف في تقديرها على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه من باب التوكيد اللفظي, ويكون خبره قوله تعالى: { أولئك المقربون}
والثاني: أن يكون السابقون مبتدأ, والثاني خبراً له, على حد قولك: زيد زيد
والثالث: أن يكون السبق الأول غير الثاني.
ويكون المعنى: السابقون في الدنيا إلى الخيرات هم السابقون يوم القيامة إلى الجنات, والسابقون إلى الإيمان هم السابقون إلى الجنان, وهذا أظهر, والله أعلم.
الغرف المبنية وسلام الملائكة جزاء لمن صبر على سوء خطاب الجاهلين:
قال الله تعالى: { لكن الذين اتقوا ربهم لهم غُرف من فوقها غُرف مبنية} [الزمر:20] فأخبر تعالى أنها غرف فوق غرف, وأنها مبنية بناء حقيقة, لئلا تتوهم النفوس أن ذلك تمثيل, وأنه ليس هناك بناء, بل تتصور النفوس غرفاً مبنية كالعلالي بعضها فوق بعض, حتى كأنها تنظر إليها عياناً, و {مبنية} صفة للغرف الأولى والثانية, أي لهم منازل مرتفعة, وفوقها منازل أرفع منها.
وقال تعالى: { أولئك يُجزون الغرفة بما صبروا }
والغرفة جنس كالجنة, وتأمل كيف جعل جزاءهم على هذه الأفعال المتضمنة للخضوع, والذل والاستكانة لله الغرفة, والتحية والسلام في مقابل صبرهم على سوء خطاب الجاهلين لهم, فبُدَّلوا بذلك سلام الله وملائكته عليهم.
أنهار الجنة فيها أفضل أشربة الناس:
وقد تكرر في القرآن في عدة مواضع قوله تعالى: {جناتٍ تجري من تحتها الأنهار} [ البقرة: 25] وفي موضع: {جناتٍ تجرى تحتها} [ التوبة: 100]
وفي موضع: { تجرى من تحتهم الأنهار} [ يونس:6]
وهذا يدلُّ على أمور:
أحدها: وجود الأنهار فيها حقيقة.
الثاني: أنها جارية لا واقفة.
الثالث: أنها تحت غرفهم وقصورهم وبساتينهم, كما هو المعهود في أنهار الدنيا.
وقال تعالى: : {مثلُ الجنة التي وُعد المُتقون فيها أنهار من ماءٍ غير أسن وأنهار من لبنٍ لم يتغير طعمُهُ وأنهار من خمرٍ لذةٍ للشاربين وأنهار من عسلٍ مُصفى ولهم فيها من كل الثمراتِ ومغفرة من ربهم} [ محمد:15 ]
فذكر سبحانه هذه الأجناس الأربعة, ونفى عن كل واحدٍ منها الآفة التي تعرض له في الدنيا, فآفة الماء أن يأسن ويأجن من طول مكثه, وآفة اللبن أن يتغير طعمه إلى الحموضة, وأن يصير قارصاً, وآفة الخمر كراهة مذاقها المنافي للذة شربها, وآفة العسل عدم تصفيته.
وهذا من آيات الرب تعالى أن يُجري أنهاراً من أجناس لم تجر العادة في الدنيا بإجرائها, ويُجريها في غير أخدود, وينفي عنها الآفات التي تمنع كمال اللذة بها, كما نفى عن خمر الجنة جميع آفات خمر الدنيا من الصداع والغول واللغو والإنزاف وعدم اللذة, وتأمل اجتماع هذه الأنهار الأربعة, التي هي أفضل أشربة الناس, فهذا لريهم وطهورهم, وهذا لقوتهم وغذائهم, وهذا للذاتهم وسرورهم, وهذا لشفائهم ومنفعتهم
العين التي يشرب بها المقربون صرفاً, وشراب الأبرار يمزج منها:
قال تعالى: ] {ويُسقون فيها كأساً كان مزاجُها زنجبيلاً *عيناً فيها تسمى سلسبيلا} [الإنسان:17-18 ] فأخبر سبحانه عن العين التي يشرب بها المقربون صرفاً, وأن شراب الأبرار يمزج منها, لأن أولئك أخلصوا الأعمال كلها لله فأخلص شرابهم, وهؤلاء مزجوا فمزج شرابهم.
آنية أهل الجنة التي يشربون فيها على قدر ريَّهم:
قال تعالى: { ويُطاف عليهم بآنية من فضةٍ وأكوابٍ كانت قواريرا * قواريرا من فضةٍ قدروها تقديراً} [الإنسان:15-16]
وقوله: {قدروها تقديراً} التقدير: جعل الشيء بقدر مخصوص, فقدرت الصُّناع هذه الآنية على قدر ريِّهم, لا يزيد عليه ولا ينقص منه, وهذا أبلغ في لذة الشارب, فلو نقص عن ريِّه لنقص التذاذه, ولو زاد حتى يُسئر منه حصل له ملالة وسآمة من الباقي.
لباس أهل الجنة جمع بين حسن اللون ونعومته والتذاذ العين والجسم به:
وقال الله تعالى { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً * أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يُحلون فيها من أساور من ذهبٍ ويلبسون ثياباً خُضراً من سُندُسٍ وإستبرق مُتكئين فيها على الأرائك } [الكهف:30-31]
وأحسن الألوان الخضر, وألين الملابس الحرير, فجمع لهم بين حسن منظر اللباس, والتذاذ العين به, وبين نعومته والتذاذ الجسم به.