فوائد من كتاب الكلام على مسألة السماع لابن القيم:1
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
وللإقبال في الصلاة ثلاث منازل: إقبال على قلبه, فيحفظه من الوساوس والخطرات المبطلة لثواب صلاته أو المُنقِصة له, وإقبال على الله بمراقبته حتى كأنه يراه, وإقبال على معاني كلامه وتفاصيل عبودية الصلاة ليعطيها حقها, فباستكمال هذه المراتب الثلاث تكون إقامة الصلاة حقاً.
- التصنيفات: طلب العلم -
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد:
فمن كتب العلامة ابن القيم رحمه الله النافعة كتابه الموسوم بـ " الكلام على مسأله السماع " عالج فيه موضوع السماع والغناء, فذكر أدلة تحريم الغناء من الكتاب, والسنة, وأقوال الصحابة, وتحذير سائر طوائف أهل العلم من الغناء والسماع, وأجاب فيه عن جميع شبه من يجعلون من الغناء والسماع قربه إلى الله.
وفي ثنايا الكتاب فوائد منثورة في مواضيع مختلفة, انتقيت منها ما يسّر الله الكريم منها, أسأل الله أن ينفع بها, ويبارك فيها, فمن تلك الفوائد:
ما من أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ومأخوذ من قوله ومتروك:
ما من أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ومأخوذ من قوله ومتروك, ولا يُقتدى بأحد في أقواله وأفعاله وأحواله كلها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فمن نزَّل غيره في هذه المنزلة فقد شرح بالضلالة والبدعة صدراً, ولا يُغنى عنه ذلك الغير من الله شيئاً, بل يتبرأ منه أحوج ما يكون إليه, قال تعالى: {إذ تبرأ الذين اتُبعُوا من الذين اتبعُوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب * وقال الذين اتبعُوا لو أن لنا كرةً فنتبرأ منهم كما تبرءوا منّا كذلك يُريهم اللهُ أعمالهم حسراتٍ عليهم} [البقرة:166-167]
ما دعا إليه الرسول هو حياة القلوب, وما يدعو إليه مخالفوه هو موت القلوب:
ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم هو حياة القلوب, ونجاة النفوس, ونور البصائر, وما يدعو إليه مخالفوه فهو موت القلوب, وهلاك النفوس, وعمى البصائر, قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون} [الأنفال:24]
وتأمل كيف أخبر عن حيلولته بين المرء وقلبه بعد أمره بالاستجابة له ولرسوله, كيف تجد في ضمن هذا الأمر والخبر أن من ترك الاستجابة له ولرسوله حال بينه وبين قلبه, عقوبةً له على ترك الاستجابة, فإنه سبحانه يُعاقب القلوب بإزاغتها عن هداها ثانياً, كما زاغت هي عنه أولاً, قال تعالى: { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف:5] وقال: {ونُقلبُ أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرةٍ } [الأنعام:110] وقال: {ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم } [التوبة:127] فصرف قلوبهم عن الهدى ثانياً, لما انصرفوا عنه بعد إذ جاءهم أولاً.
وقد حذر سبحانه من خالف أمر رسوله بإصابة الفتنة في قلبه وعقله ودينه, وإصابة العذاب الأليم له, إما في الآخرة أو في الدنيا والآخرة, فقال: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تُصيبهم أو يصيبهم عذاب أليم} [النور:63]
وأخبر سبحانه وتعالى أن من تولى عن طاعة رسوله, فإنه لا بدّ أن يُصيبه بمصيبةٍ وقارعةٍ بقدر توليه عن طاعته, فقال سبحانه وتعالى : {فإن تولوا فاعلم أنما يُريدُ الله أن يُصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون} [المائدة:49]
وجوب الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله عند التنازع:
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولى الأمر منكم فإن تنازعتم في شيءٍ فرُدوهُ إلى الله والرسول إن كنتم تُؤمنون بالله واليوم الأخر ذلك خير وأحسنُ تأويلاً } [النساء:59] وقد أجمع الناس على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه, والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته, وإلى سنته بعد مماته.فأمر سبحانه عباده المؤمنين أن يردوا ما تنازعوا فيه إليه وإلى رسوله وخاطبهم أولاٍ بلفظ الإيمان, ثم جعل آخراً الإيمان شرطاً في هذا الرد, فالإيمان يوجب عليهم هذا الرد وينتفي عند انتفائه فمن لم يردَّ ما تنازع فيه هو وغيره إلى الله ورسوله لم يكن مؤمناً
وتأمل قوله { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} كيف أعاد الفعل وهو طاعة الرسول, ليدل أنه يُطاع استقلالاً, وإن أمر بما ليس في القرآن الأمرُ به, ونهى عما ليس في القرآن النهي عنه, فإنه أوتى الكتاب ومثله معه, ولم يُعد الفعل في طاعة أولي الأمر, بل جعلها ضمناً وتبعاً لطاعة الرسول, فإنهم إنما يُطاعون تبعاً لطاعة الرسول إذا أمروا بما أمر به ونهوا عما نهى عنه لا تجب طاعتهم في كل ما يأمرون به وينهون عنه
ثم قال: { فإن تنازعتم في شيءٍ فرُدوهُ إلى الله والرسول} ولم يقل: (وإلى الرسول) إعلاماً بأن ما رُدّ إلى الله فقد رُدّ إلى رسوله, وما رُدّ إلى رسوله فقد رُدّ إليه سبحانه, وإن ما حكم به فقد حكم به رسوله, وما حكم به رسوله فهو حكمه سبحانه.
وقال: {فإن تنازعتم في شيءٍ } وهذا يعمُّ دقيق ما تنازع فيه المسلمون وجليله, فمن ظن أن هذا في شرائع الإسلام دون حقائق الإيمان, وفي أعمال الجوارح دون أعمال القلوب..أو في فروع الدين دون أصوله وباب الأسماء والصفات والتوحيد فقد خرج عن موجب الآية علماً وعملاً وإيماناً.
أشرح الناس صدراً وأوضعهم وزراً وأرفعهم ذكراً أتبعهم لرسول الله:
أتبع الناس لرسوله صلى الله عليه وسلم أشرحُهم صدراً, وأوضعهم وزراً, وأرفعهم ذكراً, وكلما قويت متابعتُه علماً وعملاً وحالاً واجتهاداً, قويت هذه الثلاثة حتى يصير صاحبُها أشرح الناس صدراً وأرفعهم في العالمين ذكراً وأما وضع وزره فكيف لا يوضع عنه وزره ومن في السماوات والأرض ودواب البر والبحر يستغفرون له؟
وهذه الأمور الثلاثة متلازمة, كما أضدادها متلازمة, فالأوزار والخطايا تقبضُ الصدر وتُضيقه, وتُخمل الذكر وتضعُه, وكذلك ضيق الصدر يضع الذكر ويجلب الوزر, فما وقع أحد في الذنوب والأوزار إلا من ضيق صدره وعدم انشراحه, وكلما ازداد الصدر ضيقاً كان أدعى إلى الذنوب والأوزار, لأن مرتكبها إنما يقصد بها شرح صدره, ودفع ما هو فيه من الضيق والحرج, وإلا فلو اتسع بالتوحيد والإيمان ومحبة الله ومعرفته وانشرح بذلك لا ستغنى عن شرحه بالأوزار
الوضوء ظاهره طهارة البدن, وباطنه طهارة القلب من أوساخه وأدرانه بالتوبة:
الوضوء له ظاهر وباطن, فظاهره طهارة البدن وأعضاء العبادة, وباطنه وسره طهارة القلب من أوساخه وأدرانه بالتوبة. ولهذا يقرن سبحانه بين التوبة والطهارة في قوله: { إن الله يحبُّ التوابين ويُحبُّ المتطهرين} [البقرة:222] وشرع النبي صلى الله عليه وسلم للمتطهر بعد فراغه من الوضوء أن يتشهد, ثم يقول: ( « اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين» ) فكمل له مراتب الطهارة باطناً وظاهراً.
فإنه بالشهادة يتطهر من الشرك, وبالتوبة يتطهر من الذنوب, وبالماء يتطهر من الأوساخ الظاهرة, فشرع أكمل مراتب الطهارة قبل الدخول على الله والوقوف بين يديه, فلما طهر ظاهراً وباطناً أذن له بالدخول عليه بالقيام بين يديه.
سر الصلاة ولبها إقبال العبد على الله بكليته:
وسر الصلاة..ولبُّها هو إقبالُ العبد على الله بكليته فكما أنه لا ينبغي له أن يصرف وجهه عن قبلة يميناً وشمالاً, فكذلك لا ينبغي له أن يصرف قلبه عن ربه إلى غيره
وللإقبال في الصلاة ثلاث منازل: إقبال على قلبه, فيحفظه من الوساوس والخطرات المبطلة لثواب صلاته أو المُنقِصة له, وإقبال على الله بمراقبته حتى كأنه يراه, وإقبال على معاني كلامه وتفاصيل عبودية الصلاة ليعطيها حقها, فباستكمال هذه المراتب الثلاث تكون إقامة الصلاة حقاً.
وكما أن الصوم ثمرته تطهير النفس, وثمرة الزكاة تطهير المال, وثمرة الحج وجوب المغفرة وثمرة الجهاد تسليم النفس التي اشتراها سبحانه من العباد وجعل الجنة ثمنها, فالصلاة ثمرتها الإقبال على الله وإقبال الله سبحانه على العبد وفي الإقبال جميع ما ذُكِرَ من ثمرات الأعمال ولذلك لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: جُعِلت قرة عيني في الصوم ولا في الحج والعمرة, وإنما قال:( «جعلت قرةُ عيني في الصلاة» ) وتأمل قوله:( جُعلت قرةُ عيني في الصلاة )ولم يقل بالصلاة, إعلاماً بأن عينه إنما تقرُّ بدخوله فيها, كما تقرُّ عين المُحب بملابسته محبوبه, وتقرُّ عين الخائف بدخوله في محل أمنِه فقرة العين بالدخول في الشيء أكملُ وأتمُّ من قرة العين به قبل الدخول. ولما جاء إلى راحة القلب من تعبه.قال: ( « يا بلالُ أرحنا بالصلاة » ) أي أقمها لنستريح بها من مقاساة الشواغل, كما يستريح التعبان إذا وصل إلى نُزله وقرّ فيه..وتأمل كيف قال: أرحنا بها, ولم يقل: أرحنا منها, كما يقوله المتكلف بها الذي يفعلها تكلفاً وغُرماً.فالفرق بين من كانت الصلاة لحوائجه قيداً ولقلبه سجناً ولنفسه عائقاً, وبين من كانت الصلاة لقلبه نعيماً, ولعينه قرة, ولحوائجه راحة, ولنفسه بستاناً ولذة.