دور العلماء والدعاة في الشدائد والفتن (1-2)
الخطاب الوعظي المحض هو أمر محمود، ولكن عند النوازل والشدائد لا يكون مجدياً، فحينها نكون بحاجة إلى خطاب يعالج المتغير الحاصل
- التصنيفات: قضايا إسلامية -
{بسم الله الرحمن الرحيم }
د.أمير بن محمد المدري
الحمد لله الجواد الكريم الشكور الحليم، أسبغ على عباده النعم ودفع عنهم شدائد النقم وهو البر الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الفضل العظيم، والخير العميم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى الكريم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيراً، وبعد ..
فإن الدعاة إلى الله هم طليعة صلاح الأمة، ومبتدأ هدايتها، ودليلها إلى طريق الله الذي هو طريق العز والنصر والتمكين، وطريق الفوز في الدنيا والآخرة. وهم للناس كما الشمس للأرض يذكّرونهم حين ينسون، وينبهونهم حين يغفلون، ويقوّمون مسيرتهم حين ينحرفون. يوجهونهم، ينصحونهم، يُبصّرونهم بشتى الوسائل والأساليب المشروعة السمعية والمرئية والمكتوبة.
ودور العلماء والدعاة يزداد أهميةً وأثراً في حياة الناس وقت الأزمات والشدائد والفتن، إذ حينها يلتمس الحيارى ما يُثبّتهم، ويبحث الخائفون والقلقون عمّن يذكّرهم بمعية الله تعالى والثقة به سبحانه، فما موقع العلماء والدعاة والمصلحون في الأحداث، وما جهودهم في دفع البلاء، كيف يكون خطابهم الدعوي، وما إسهاماتهم الإيجابية حين تقع الفتن والشدائد؟
واعتقد أنه يتمثل دورهم في التالي:
أول: تأكيد سُنة الابتلاء:
فهي سنةٌ ماضية في الأولين والآخرين، قال تعالى: ﴿ {ألم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} ﴾ [العنكبوت: 1-3]. وكلما عظُم الإيمان عظُمت الفتنة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أشدُّ الناسِ بلاءً الأنبياءُ، ثم الصالحون، ثم الأمثلُ فالأمثلُ، يُبتلى الرجلُ على حسب إيمانه، فإن كان في دينه صلابةً زِيد له في البلاء» [أخرجه أحمد والبخاري وغيرهما، صحيح الجامع: [1/333]].
ثاني: التخفيف عن الناس:
على الداعية أن يخفف عن الناس ويشد من أزرهم، فليس من المحبب أن يأتي أحدنا ليتحدث لهم طوال خُطبته أو محاضرته عن الوضع السياسي ويقوم بتحويل الخطبة والمحاضرة إلى نشرة سياسية ونحن ندرك بأنهم ينامون وهم مشبعون من السياسة وكأن الواحد منهم يجثم على صدره جبل من الهموم، فيزداد بذلك حُزناً وهماً، فلابد لنا من أن نلتفت لهذه الأمور ونتلمس مواطن الشدة والبأس التي تحل بهم، وكثيرة هي الشائعات التي تشيع وقت الأزمات فتفتك بالناس، خاصة إن لم يكن هناك دور بارز للدعاة لدحضها وتفنيدها وتقوية رباطة جأش الناس، وتثبيتهم.
ثالث: فقه الواقع:
الخطاب الوعظي المحض هو أمر محمود، ولكن عند النوازل والشدائد لا يكون مجدياً، فحينها نكون بحاجة إلى خطاب يعالج المتغير الحاصل، وأذكر هنا من الواقع مثالاً، فقد قام أحد الدعاة يخطب الجمعة في ذروة تأثر الناس باغتيال العدو الصهيوني للشيخ/ أحمد ياسين شيخ المقاومة في فلسطين ، فأخذ يبيّن للناس بعض الأحكام الفقهية الطهارة وغيرها، مما جعل غالب الحضور يمتعض منه ومن خُطبته، فلكل مقامٍ مقال. فعلى العلماء والدعاة أن يعوا أن خطبة الجمعة فرصة عظيمة لهم لتربية الناس وحثهم على مواجهة الأزمات بالثبات واليقين، ويكونوا عوناً لهم على مواجهة الحزن والشدائد والخروج منهما أشداء.
رابع: خطاب يجمع الشمل:
من الملاحظ أن حزبية بعض الدعاة والعلماء باتت تُلقي بظلالها على فاعلية الخطاب الديني في وقت الأزمة، وهذا خطأ، فبدلاً من أن تخفف من حدة هذه الأزمة أصبحت تؤججها، فبدلاً من أن يكون الداعية سبباً للتألف والوحدة يكون سبباً للفُرقة والتنازع وتوسيع شرخ الخلاف في المجتمع، ولذا على الداعية العمل على جمع الشمل ورأب الصدع بإصلاح ذات البين، مهما افترق الناس، فيجمع بينهم، وهذا ما أمره الله به.
خامس: الربط بين المصائب والمعاصي:
وهي سُنة وقدَر حكم الله به وهو خير الحاكمين، ذلك هو الصلة بين المصائب والمحن والمعاصي والذنوب وعقوباتها وآثارها، والتقصير في طاعة الله وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولو كان ذلك في خير القرون الذين قيل هم في (مصاب أُحد): ﴿ {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} ﴾ [آل عمران من الآية: 165]، وفي الآية الأخرى: ﴿ {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} ﴾ [الشورى من الآية: 36].
فحين تحلّ المصائبُ تدعونا بالقوة إلى أن نفتشَ في أحوالنا، ونتهمَ أنفسَنا اتهاماً لا يحبطُ ولا يقعدُ بها عن العمل، لكنه يصحح ويرشد المسيرةَ، وفي صحيح البخاري عن أنس -رضي الله عنه-: «"إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا، هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ المُوبِقَاتِ» " [أخرجه البخاري؛ ح: [6492]].
سادس: عدم القعود والعزلة:
من الناس من يتخذ من (الفتنة) وسيلةً للغياب عن المشهد حين تقع النوازل، ويُعفي نفسه من جهادِ الكلمة، وقولِ الحق، ودفعِ الباطل، فإذا ما بان للمسلم وجه الحق فلا يجوز له أن يتخلف عن البيان وفي وقت حاجته، وبما يقتضيه البيان (من حكمة، ومراعاة للمصالح والمفاسد، ولا شك أن هناك عُزلةٌ مشروعةٌ أخبر عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكن لمن؟ ومتى تكون؟ وكيف؟ هذا هو المهمُ، إذ قد يتصور عالم، أو داعية، أو قادرٌ على المساهمة في دفع الشر وإقرار الحق. . أنه معذورٌ باعتزالِ الفتنة، والغياب عن الأحداث. . وتلك قضيةٌ بين العبد وربه، فإذا ما اشتبهت على الإنسان الأمورُ إلى درجةٍ لا يعرف فيها أين يكون الحق؟ وأين يوجد الباطلُ؟ وأشهدَ اللهَ على ذلك، بعد تحري الأسباب الممكنة؛ فهنا قد يسوغ للإنسان أن يعتزل، كما فعل بعض الصحابة حين الفتنة الواقعة بين المسلمين. لكن الأصل الاختلاط بالناس، والمساهمة بالدعوة والإصلاح، ودفع المنكرات، قال جل شأنه: ﴿ {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} ﴾ [النساء من الآية: 11]، و قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» [(صحيح الجامع: [6651]].
سابع: العناية بمحكمات الدين وأصوله:
محكمات الدين لا يسع المسلم إلا التسليم لها، والعمل بها، وعلى المصلحين والدعاة أن يُعنوا بها ويرسخوها لعامة الأمة وخاصتها، ويجعلوا منها ميداناً رحباً للحديث والتأليف، والشرح والبيان؛ إذ هي أقصر الطرق وأنفعها للبلاغ والإقناع، وهي أعظم حجة لقطع الطريق على أهل الريب؛ "فتوحيدُ الله بالعبادة، والتسليمُ لشرعه، وتحريمُ الشرك، ومحبةُ الرسول -صلى الله عليه وسلم- وطاعتُه، وتثبيتُ أركان الإسلام والإيمان والإحسان، وحفظُ الضرورات الخمس (الدين، النفس، المال، العرض، العقل)، والولاءُ للمؤمنين والبراءةُ من المشركين، وإحقاقُ الحق، وزهوقُ الباطل، وتحريمُ الظلمِ والإثمِ والزنا والخمر والربا وسائرِ الفواحش، والأمرُ بالأخلاق الفاضلة من العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى. ونحو ذلك من محكمات في الدين لا تقبل المساومة والجدل، وتمثل (أم الكتاب) كما قال تعالى: ﴿ {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} ﴾ [آل عمران من الآية: 7]، والأمُ هو الأكثر والأصل". [انظر؛ أصول الجصاص: [1/373]، أصول السرخسي: [1/165]، عن عابد السفياني في المحكمات؛ ص: [16]]. هذه المحكمات تتأكد الحاجة لبيانها وتعميمها كلما كانت الظروف داعيةً لها في أزمان الشدائد والفتن.
ثامن: تعميق الوعي بالحق:
فتلك مهمةٌ كبرى لأهل الإيمان، سلكها المرسلون وأتباعُهم، وأعلنوها لقومهم عبر (مصطلحات، وقيم، ونداءات، وتحذيرات متكررة) تملأُ آياتِ القرآن الكريم، وحين يختلط على الناس الحقُ أو شيءٌ منه، فلا بد للعلماء والدعاة من البيان والبلاغ، ولا يجوز كتمانُه: ﴿ {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ﴾ [آل عمران: 71]. إنه ميثاقٌ عظيمٌ أخذه الله على أهل الكتاب: ﴿ {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} ﴾ [آل عمران من الآية: 178].
ومع بيان الحق لا بد من كشفِ الباطل، ورفعِ التلبيس والتدليس، وكشفِ الكذب، وفضحِ الخونة، واستبانةِ سبيل المجرمين، وأشدُ ما يكون التلبيس حين تقع الشدائدُ والمحنُ، وتحل الفتنُ، فيُصوّر الباطلُ حقاً وعكسه، والمعروفُ منكراً ونقيضه. . وهكذا. . ومن هنا تتحتمُ مسؤولية كشف الباطل والمبطلين (بسيماهم) وهو الأصل، أو بأسمائهم وأفعالهم إذا لزم الأمر، وقد جاء الإنكار في القرآن الكريم صريح: ﴿ {لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ﴾ [آل عمران من الآية: 79].
تاسع: نصيحة ولاة الأمر:
من قرأ التاريخ بعمق وجد علاقةً بين صلاح الراعي وصلاح من حوله، ووجد أثرَ ذلك في العدل والاستقرار والرخاء، كما يشهد التاريخ على أثر بطانة السوء على أُولي الأمر في حصول الفتن، وانقسام الناس، ونزع الثقة، وتأرجح الطاعة المشروعة، والمصلحون أقدر الناس على قراءة التاريخ، وبيان آثار القطيعة بين العلماء والأمراء، وأحرى الناس بنصح الأمراء، وتحذيرهم من بطانة السوء، وشؤم المنتفعين لأنفسهم على حساب مصالح المجتمع والدولة.
عاشر: بين المشاغلة والدعوة:
لا بد من (مشاغلةِ أهلِ الباطل) والاستمرار في الإنكار عليهم مشاريعهم الإفساديةِ والتغريبيةِ، وفتح الملفات كلما ظنوا أنها أُغلقت واستقرت، وبأرقى الوسائل، وأنجع الطرق، فتلك مدافعةٌ مشرعةٌ ﴿ {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} ﴾ [البقرة من الآية: 251]، ومع المشاغلة لا بد من استمرار سوق الدعوة، وعدم التوقف عن مشاريع الخير، وطرح المبادرات إثر المبادرات، فتلك تعطي فرصاً لانتشار الخير، وتمنحُ فرصاً للراغبين في عمل الخير، وتؤسس لأعمال ومشاريع مستقبلية يصعب تجاهلها أو إلغاؤها، وهي في النهاية من أمضى وسائل محاربة الباطل وتحجيم المبطلين.
حادي عشر: حرب الإعلام:
معارك اليوم تعتمد الإعلام، وتتكئ على آلاته الحديثة، وقنواته واسعةُ الانتشار، بالغة الأثر. . ومن هنا فلا بد لأصحاب الحقِ أن يأخذوا بنصيبهم الوافر من هذه الآلة المؤثرة في المعركة، فيدعموا (القائم المفيد)، وينشئوا (الجديد)، ويهتموا بوسائل الاتصال المجتمعية الحديثة، حتى تكون هذه وتلك عوناً لهم على بيان الحق، وكشف الباطل، وفي النهاية سيكون لهذا الإعلام دورٌ في محاصرة ترويج الباطل عبر آليات ووسائل إعلام فاسد، يعتمد الكذب وتزوير الحقائق، وفتنة الناس.
ثاني عشر: الفأل الحسن ورفع المعنويات:
فالفألُ الحسن دائماً وفي زمن الشدائد بالذات، نهج الأنبياء عليهم السلام وأتباعِهم، وخاتم المرسلين -صلى الله عليه وسل- قال لصاحبه: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة من الآية: 40]، وأُوحِي إليه: ﴿ {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} ﴾ [الروم من الآية: 60]، وفي سيرته العملية دروسٌ في الفأل وحُسن الظن، يكفي من ذلك أنه في غزوة (الأحزاب) وزلزلة أهل الإيمان يَعِدُ أصحابَه حين الاستعداد للمعركة وهم يحفرون الخندق بفتوحات ستكون في الشام، وفارس، واليمن، وفي نهاية المعركة يبشر المسلمين ويعدهم على أثر الهجمة الشرسة للأحزاب ويقول (متفائلاً) بمستقبل زاهرٍ للإسلام والمسلمين: « «الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم» »، [فتح الباري: (7/397)].
إن على أتباع المرسلين من العلماء والدعاة أن يبعثوا هذه الروح المتفائلة دائماً، ويخبروا الناس بحقيقة الفجر السَّاطع الذي لا يأتي إلا بعد شيوع ظلمة الليل، لا سيما حينما تنقبض النفوس وتصاب بالإحباط على أثر الضربات والصدمات المتتالية، وأن يربطوا الناسَ بخالقهم، فلا يقع شيءٌ في هذا الكون إلا بإذنه.