جمال الظاهر وجمال الباطن
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
وفي الختام فالمرأة المسلمة عليها بالتقوى وصيانة جمالها، فلا تعصي الله بهذه النعمة، فلا يكون هذا الجمال بوابة ولوجِها إلى خُلق العُجب والغرور المكروهَيْنِ من الله ومن خَلْقه.
- التصنيفات: قضايا المرأة المسلمة -
الحمد لله رب العالمين، لا نظير ولا شبيه ولا مثيل له، منزه عن الآفات والعيوب، له الصفات العلى والأسماء الحسنى، سبحانه وتعالى، والصلاة والسلام على أشرف الخلق الذي أكرَمه الله بأفضل وأجمل الصفات الخَلقيَّة والخُلُقية، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فقد ثبَت في الحديث الصحيح الذي رواه ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( «إن الله جميل يُحبُّ الجمال» )[أخرجه مسلم]، فله جلَّ جلاله جمالُ الذات، وجمالُ الصفات، وجمال الأفعال، وجمال الأسماء، فله الجمال التام الكامل من جميع الوجوه.
إن القلوب مفطورة على حبِّ الجمال، ولكن إذا ذُكِرَ الجمالُ انصرفت الأذهانُ إلى جمال الصورة الظاهر، ولهذا نبَّه الشارع أن من الخير ظفرُ المسلم بالجميلة في باطنها، وهي: ذات الدين، فقال علية الصلاة والسلام: ( «تُنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين ترِبت يداك» ) [متفق عليه].
ومَن قدَّم جميلة الدين على جميلة الشكل، فليبشر بكل خير، يقول العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: اعلم أنك اخترت ذات الدين استرشادًا بإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم، واخترتها من أجل ذلك، والله عز وجل قد يقلِب الجميل قبيحًا، والقبيح جميلًا، حتى فيما يتصوره الإنسان أمامه، فقد يرى مثلًا زوجةً له غير جميلة، ولكن يُبَهِّيها الله عز وجل في عين زوجها ويُجمِّلها، حتى يرى أنها أجمل نساء العالمين، والله سبحانه وتعالى سيجعل في قلبك لها مودة ومحبة تُنسيك جمال الأخرى؛ لأنك فعلت ذلك امتثالًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل شيء تفعله لله عز وجل، فإن العاقبة فيه حميدة، وكم من امرأة جميلة يتزوجها الإنسان رغبة في جمالها، ثم تكون نكبة، تدل عليه بالجمال وتفخر عليه، وتعلو عليه، وتكون الحياة بعد ذلك نكدًا وتنغيصًا، لكن امرأة ديِّنة - أضِف إلى ذلك أن تكون ودودًا - فلا تسأل عن حياتهما الزوجية، فالمرأة الديِّنة تُعينه على طاعة الله، وتقوم بحق الزوج على الوجه الأكمل، وتسايره في أموره، فإذا أخذت بهذه الوصية فالعاقبة بلا شك حميدة؛ لأنك كأنك تستشير الرسول علية الصلاة والسلام، فيشير عليك بأن تتزوج امرأة ذات دين".
لقد غاب عن كثيرين أن الجمال الحقيقي هو: الجمال المعنوي، فالجمال الحسي طال الزمان أو قصر، فمآله إلى الزوال، والجمال المعنوي دائم ما بقِي صاحبه متمسكًا به، والجمال الحسي وإن كسا صاحبه منظرًا جميلًا، فإنه لا يجعله محبوبًا في قلوب ناظريه، بخلاف الجمال المعنوي الذي يُرزَقُ صاحبُه محبةً في أعين الناس جميعًا، وجمال الظاهر قد يجعل صاحبه يغتر به ويزهو به، وجمال الباطن يقود إلى التواضع، والناس مع ذلك أصناف:
فمنهم: من أُعطي جمال الظاهر مع جمال الباطن، فنبي الله يوسف عليه السلام كان له الجمال الظاهر والباطن؛ قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء عن جماله الظاهر: ( «فإذا أنا بيوسف صلى الله عليه وسلم، إذا هو قد أُعطي شطر الحسن» ) [أخرجه مسلم].
أما جماله الباطن، فهو العفة العظيمة عن المعصية، مع وجود الدواعي الكثيرة لوقوعها.
ومنهم: من أُعطي جمال الظاهر، بدون جمال الباطن، فصورته جميلة، وباطنه فاسد لا جمال فيه، فجماله غير نافع له، ولذا ذمَّ الله عز وجل جمال الظاهر إذا كان بدون عقيدة وإيمان، فقال في المنافقين: ﴿ { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} ﴾ [المنافقون: 4]، قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: يقول جل ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإذا رأيت هؤلاء المنافقين يا محمد، تُعجبك أجسامهم لاستواءِ خلقها، وحُسن صورها.
وكان رأس المنافقين: عبدالله بن أُبي، من أبهى المنافقين وأطولهم؛ كما ذكر ذلك الإمام ابن عطية رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية، ومع ذلك فجمالهم لم ينفعهم، فقد ختَم الله عز وجل الآية بقوله: ﴿ {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } ﴾[التوبة: 30]، قال الإمام البغوي رحمه الله: ﴿ {قاتلهم الله} ﴾: لعنهم الله.
وقد أهلك الله جل جلاله أممًا لَمَّا كفروا، ولم ينفعهم ما كانوا عليه من مناظر حسنة جميلة؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا } ﴾ [مريم: 74]، قال الشيخ أبو بكر الجزائري رحمه الله: فكم من أهل قرون أهلكناهم لما ظلموا، وكانوا أحسن من هؤلاء مالًا ومتاعًا، ومناظر حسنة جميلة.
وجمال الظاهر إذا كان صاحبه ممن يفعل القبائح، فإن هذه القبائح تغطي كل جمال في البدن، وهذا القبائح إذا لم يتُب الإنسان منها، فإن هذا الجمال ينقلب حال كبره إلى قبح يعلو وجهه.
ومنهم: من يُجاهدُ نفسه أن يكون جميلًا في الباطن، وجمال الباطن يكون بالعلم، والتقوى، والعبادة، والأخلاق الكريمة؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والله ذكر في القرآن (الهجر الجميل)، و(الصفح الجميل)، و(الصبر الجميل)، وقد قيل: إن (الهجر الجميل)، هو هجر بلا أذى، و(الصفح الجميل) صفح بلا معاتبة، و(الصبر الجميل) صبر بغير شكوى إلى المخلوق.
وجمال الباطن يزيِّن الصورة الظاهرة، وصاحبه محبوب من الله عز وجل، ومن الخلق؛ يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: الجمال ينقسم قسمين ظاهرًا وباطنًا، فالجمال الباطن هو المحبوب لذاته، وهو جمال العلم والعقل، والجود، والعفة، والشجاعة، وهذا الجمال الباطن هو محل نظر الله تعالى من عبده وموضع محبته، وهذا الجمال يزيِّن الصورة الظاهرة وإن لم تكن ذات جمالٍ، فيكسو صاحبها من الجمال والمهابة والحلاة بحسب ما اكتسبتْ رُوحُه من تلك الصفات، فإن المؤمن يُعطى مهابةً وحلاوة بحسب إيمانه، فمن رآه هابَه، ومن خالطه أحبَّه.
إن الموفَّق مَن اشتغل واهتمَّ بالحرص على جمال الأقوال، والأفعال، مع العناية بجمال اللباس والهيئة، فالله عز وجل: ( «جميل يحبُّ الجمال» ) [أخرجه مسلم]، و( «يُحبُّ أن يرى أثرَ نعمته على عبده» )[أخرجه الترمذي].
كما أن الموفق من تجنَّب القبيح من الأقوال والأفعال والثياب والهيئة، فهو سبحانه يُبغضُ القبيح من الأقوال والأفعال والثياب والهيئة، وبعض المسلمين لا يهتم بما يصدر منه من أقوال وأفعال، أهي جميلة يحبها الله جل جلاله، أم قبيحة يبغضها سبحانه وتعالى؟
وفي الختام فالمرأة المسلمة عليها بالتقوى وصيانة جمالها، فلا تعصي الله بهذه النعمة، فلا يكون هذا الجمال بوابة ولوجِها إلى خُلق العُجب والغرور المكروهَيْنِ من الله ومن خَلْقه.
ولا تظهر ولا تُبدي زينتها إلا لمن يجوز أن ينظروا إليها، ولا تَغتر بكثرة من يخالفن في ذلك، فلا تنظر إلى من هلك كيف هلَك، بل تنظر إلى من نجا كيف نجا، ولتعلم أن الله جل جلاله لا ينظر إلى الصور والأموال، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال؛ كما ثبت ذلك في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم، وهي إن لم تشكُر الله وبذلت الجمال في المعاصي، عاد ذلك عليها وحشة في صدرها، وضيقًا في نفسها، وانقلب ذلك الجمال قبحًا وشَينًا، وإن بقِي ذلك الجمال على هيئته لنهاية عمرها، فمصيره إلى الزوال والتراب، ولا يبقى إلا الجمال الحقيقي الذي ينفع صاحبه يوم الجزاء والحساب.
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ