الحكمة صبغة

فريد الأنصاري

وهو صمام الأمان لسير العمل الدعوي. وقد كان غياب الحكمة سببا رئيسا في هلاك كثير من الدعوات واندثارها، أو انحرافها. والحكمة في العمل الدعوي هي: "اتخاذ الإجراء المناسب، في الوقت المناسب، بالقَدْرِ المناسب". فهي إذن راجعة - في النهاية - إلى كلمة واحدة جامعة هي: حُسْنُ التَّقْدِيرِ والتدبير.

  • التصنيفات: الدعوة إلى الله -

وهو صمام الأمان لسير العمل الدعوي. وقد كان غياب الحكمة سببا رئيسا في هلاك كثير من الدعوات واندثارها، أو انحرافها. والحكمة في العمل الدعوي هي: "اتخاذ الإجراء المناسب، في الوقت المناسب، بالقَدْرِ المناسب". فهي إذن راجعة - في النهاية - إلى كلمة واحدة جامعة هي: حُسْنُ التَّقْدِيرِ والتدبير.

ويُتَحَقَّقُ منها بأمرين، أحدهما كسبي والآخر وهبي. فأما الكسبي فهو: الفقه في الدين بمعناه المنهجي، وخاصة منه ما يسمى عند الأصوليين بفقه "تحقيق المناط" عَامِّهِ وخاصِّه (1)، ويدخل فيه فقه الأولويات وفقه الموازنات، وما يندرج فيهما من قواعد التدرج والتلطف والتترس.

وأما الوهبي فهو: راجع إلى التخلق بمقامات التقوى والورع، إذ هي سبب وضع المؤمن في منـزلة التعرض لنفحات الله، التي تفتح البصائر وتنير السرائر. وهو معنى الفرقان في

قوله تعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}(الأنفال: 29).

وكذا قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282]. وفي هذا السياق أسند الله تعالى فعل إتيان الحكمة لنفسه تعالى؛ لنفي مطلقِ كسبيتها عن الإنسان، وهو قوله تعالى: «يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ» [البقرة: 269].

وقد كان شيخ المقاصد أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله -بما فتح الله له من العلم والحكمة- من أمهر العلماء الربانيين فقهاً لهذه الحقائق وتعبيرا عنها، بشقيها الكسبي والوهبي. وقد وردت عنه في ذلك إشراقات عجيبة، في نصوص شتى من كتابه الرائد الموافقات. ولنا أن نختار منها هذا النص الفريد، قال - رحمه الله - في وصف العالم الرباني الحكيم أنه: (لاَ يَذْكُرَ للمبتدئ من العلم ما هو حظ المنتهي! بل يربي بصغار العلم قبل كباره. وقد فرض العلماء مسائل، مما لا يجوز الفتيا بها، وإن كانت صحيحة فى نظر الفقه! (...) وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت فى ميزانها؛ فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله! فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة؛ فاعرضها فى ذهنك على العقول، فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها، إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم. وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ؛ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية! (2).

وهذه منـزلة من العلم الرباني، وجب على الداخل في مدرسة الفطرية أن يحرص على التحقق بأسبابها، والتخلق بشروطها؛ عسى أن يكون من أهلها، ولو على مستوى المنهج في المجال الدعوي، إن لم يكن من أهل الاختصاص الشرعي والاجتهاد الفقهي. ومدرسة القرآن بما هي مَشْرَبٌ رباني صاف، كفيلة بتحقيق ذلك للصادقين من طلابها، بما يجعل الحكمة – بإذن الله - صفة جوهرية في التصرفات الدعوية لأبنائها؛ ولذلك جعلنا الركن الأخير من أركانها: (الحكمة صبغةً). كذلك، والله الموفق للخير والمعين عليه.
تلك إذن هي أركان الفطرية الستة. ونحسب أن الدخول في برامجها القرآنية، من خلال مسالكها التربوية، كفيل بالتحقق التلقائي بها، ركنا ركنا. وإنما ذكرناها ههنا معزولة من باب ذكر المقاصد قبل الوسائل؛ حتى تكون تلك عونا على حسن تطبيق هذه. والله المستعان.

________________________________________________________________
(1) انظر تفصيل ذلك – إذا تشاء - في كتاب الموافقات للشاطبي: 4/97.

(2) الموافقات: 4/190-191