فوائد من كتاب أعلام الموقعين (1-3)

فهد بن عبد العزيز الشويرخ

باب سدّ الذرائع أحد أرباع التكليف, فإنه أمر ونهي, والأمر نوعان: أحدهما مقصود لنفسه.والثاني: وسيلة إلى المقصود.

  • التصنيفات: طلب العلم -

فوائد من كتاب أعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فمن أهم وأشهر كتب العلامة ابن القيم رحمه الله, كتابه الموسوم بـ " أعلام الموقعين عن رب العالمين " وقد أثنى عليه أهل العلم كثيراً, قال سماحة الإمام عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله: من أفضل كتب ابن القيم رحمه الله : له شأن عظيم ولا سيما في حق القضاة والمفتين, وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ذلك الكتاب الذي قلَّ أن يوجد في كتب الإسلام مثله,وقال السيد رشيد رضا رحمه الله: لم يؤلف مثله أحد من المسلمين في حكمة التشريع ومسائل الاجتهاد والتقليد والفتوى وما يتعلق بذلك.

وقد سال قلم العلامة ابن القيم فزخر الكتاب بالكثير من الفوائد, وقد يسّر الله الكريم فاخترتُ شيئاً منها, أسأل الله أن ينفع بها, ويبارك فيها. 

الحذر من تقديم الآراء والعقول على سنة الرسول عليه الصلاة والسلام:

قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}[سورة الحجرات/2] فإذا كان رفعُ أصواتهم فوق صوته سبباً لحبط أعمالهم, فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياساتهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه ؟ أو ليس هذا أولى أن يكون مُحبطاً لأعمالهم ؟

السعادة في العلم النافع والعمل الصالح:

العلم النافع والعمل الصالح اللذان لا سعادة للعبد إلا بهما, ولا نجاة له إلا بالتعلق بسبهما, فمن رُزِقهما فقد فاز وغنَِم, ومن حُرمهما فالخير كلَّه حُرِمَ, وهما مورد انقسام العباد إلى مرحوم ومحروم, وبهما يتميز البرُّ من الفاجر, والتقيُّ من الغوي, والظالم من المظلوم.

التنازع في بعض مسائل الإحكام لا يُخرج من الإيمان:

أهل الإيمان لا يُخرجهم تنازعهم في بعض مسائل الأحكام عن حقيقة الإيمان, إذا ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله, كما شرطهم الله عليهم بقوله: { فرُدُوهُ إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } [النساء:59] ولا ريب أن الحكم المعلق على شرط ينتقى عند انتفائه.

الردُّ في كل تنازعٍ في مسائل الدين إلى كتاب الله وسنة رسوله:

قوله تعالى:   {فإن تنازعتم في شيءٍ}  نكرة في سياق الشرط تعُمُ كلَّ ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين: دِقَّه وجلَّه, جليَّه وحفيَّه, ولو لم يكن في كتاب الله وسنة رسوله بيان حكم ما تنازعوا فيه ولم يكن كافياً لم يأمر بالرِّد عليه, إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالرَّدِّ عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فصل النزاع.

صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

عِصابة الإيمان, وعسكر القرآن, وجند الرحمن, أولئك أصحابه صلى الله عليه وسلم, أبرُّ الأمة قلوباً, وأعمقها علماً, وأقلها تكلفاً, وأحسنها بياناً, وأصدقها إيماناً, وأعمُّها نصيحةً, وأقربها إلى الله وسيلة.

حازوا قصبات السباق, واستولوا على الأمد, فلا مطمع لأحد من الأمة بعدهم في اللحاق, ولكن المبرز من اتبع صراطهم المستقيم, واقتفى منهاجهم القويم, والمتخلف من عدل عن طريقهم ذات اليمين وذات الشمال, فذلك المنقطع التائه في بيداء المهالك والضلال.

فأيُّ خصلةِ خيرٍ لم يسبقوا إليها ؟ وأيُّ خُطةِ رشدٍ لم يستولوا عليها ؟

تا لله لقد..أطَّدوا قواعد الإسلام, فلم يدعوا لأحد بعدهم مقالاً, فتحوا القلوب بالقرآن والإيمان, والقرى بالجهاد بالسيف والسنان.وألقوا إلى التابعين ما تلقوه من مشكاة النبوة خالصاً صافياً.

صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله على العبد:

صحةُ الفهم وحسنُ القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده, بل ما أُعطي عبد عطاءً بعد الإسلام أفضل ولا أجلَّ منهما, بل هما ساقا الإسلام, فقيامه عليهما.وبهما باين العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدُهم, وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم, ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم, وهم أهل الصراط المستقيم.   

صحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد, يميز به بين الصحيح والفاسد, والحق والباطل,..ويُمده حسن القصد, وتحرى الحق, وتقوى الرب في السرِّ والعلانية. ويقطع مادته اتباعُ الهوى, وايثار الدنيا, وطلبُ محمدة الخلق, وترك التقوى

صفات من يقوم بالتبليغ والفتيا:

لا تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق, فيكون عالماً بما يبلغ, صادقاً فيه. ويكون مع ذلك حسن الطريقة, مرضيَّ السيرة, عدلاً في أقواله وأفعاله, متشابه السرِّ والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله. وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا يُنكر فضله, ولا يُجهل قدره, وهو من أعلى المراتب السنيَّات, فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات ؟

فحقيق بمن أُقيم في هذا المنصب أن يُعدَّ له عُدته, وأن يتأهب له أهبته, وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه. ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به, فإن الله ناصره وهاديه.كيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه ربُّ الأرباب, فقال تعالى:   {ويستفتونك في النساء قُل الله يُفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب } [النساء:127] وكفى بمن تولاه الله بنفسه تعالى شرفاً وجلالةً, إذ يقول في كتابه :   {ويستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} [النساء:176] وليعلم المفتى عمن ينوب في فتواه, وليوقن أنه مسؤول غداً وموقوف بين يدي الله.

والجرأة على الفتيا تكون من قلة العلم ومن غزارته وسعته. فإذا قلَّ علمُه أفتى عن كلِّ ما يُسألُ عنه بغير علم, وإذا اتسع علمه اتسعت فتياه.

شكر النعم المستمرة والمتجددة: 

النعم نوعان: مستمرة ومتجددة:فالمستمرة شكرها بالعبادات والطاعات, والمتجددة شُرِع لها سجود الشكر, شكراً لله عليها, وخضوعاً له وذلاً, في مقابلة فرحة النعم وانبساط النفس لها, وذلك من أكبر أدوائها فإن الله لا يحبُّ الفرحين ولا الأشرين, فكان دواء هذا الدواء الخضوع والذل والانكسار لرب العالمين, وكان في سجود الشكر من تحصيل هذا المقصود ما ليس في غيره.

الكذب له تأثير عجيب في سواد الوجه:

شرُّ ما في المرء لسان كذوب. ولهذا يجعل الله سبحانه شعار الكاذب يوم القيامة, وشعار الكاذب على رسوله سواد وجهه.

والكذب له تأثير عجيب في سواد الوجه, ويكسوه ُرقُعاً من المقت يراه كل صادق, فسيما الكذاب في وجهه ينادي عليه لمن له عينان. والصادق يرزقه الله مهابةً وحلاوةً, فمن رآه هابه وأحبَّه والكاذب يرزقه مهانةً ومقتاً, فمن رآه..احتقره.

تثبيت الله لعبده منحة كبيرة وكنز عظيم:

تحت قوله تعالى { يُثبتُ الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة }  [إبراهيم:27] كنز عظيم, من وُفِّق لمظنّته, وأحسن استخراجه واقتناه, وأنفق منه فقد غنم. ومن حُرمه فقد حُرم. وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله له طرفة عين, فإن لم يثبته وإلا زالت سماء إيمانه وأرضه عن مكانهما. وقد قال تعالى لأكرم خلقه عليه عبده ورسوله:   {ولولا أن ثبتناك لقد كدتَّ تركنُ إليهم شيئاً قليلاً} [الإسراء:74] فالخلق كلهم قسمان: موفق بالتثبيت, ومخذول بترك التثبيت, ومادة التثبيت أصله ومنشؤه من القول الثابت وفعل ما أُمر به العبد, فبهما يثبت الله عبده, فكلُّ من كان أثبت قولاً وأحسن فعلاً كان أعظم تثبيتاً. قال تعالى:  {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشدَّ تثبيتاً} [ [النساء:66] فأثبتُ الناس قلباً أثبتهم قولاً. والقول الثابت هو القول الحق والصدق.

فما مُنِح العبد منحة أفضل من منحة القول الثابت. ويجد أهل القول الثابت ثمرته أحوج ما يكونون إليه في قبورهم ويوم معادهم, كما في صحيح مسلم من حديث البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية نزلت في عذاب القبر.

التحذير من الاختلاف:

قوله صلى الله عليه وسلم:   «فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً »  هذا ذم للمختلفين, وتحذير من سلوك سبيلهم, وإنما كثر الاختلاف وتفاقم أمره بسبب التقليد, وأهلُه هم الذين فرَّقوا الدين وصيروا أهله شيعاً, كل فرقة تنصر متبوعها وتدعو إليه, وتذمُّ من خالفها ولا يرون العمل بقولهم, حتى كأنهم ملة أخرى سواهم, يدأبون ويكدحون في الرد عليهم, ويقولون: كتبُهم وكتبنا, وأئمتهم وأئمتنا, ومذهبهم ومذهبنا...هذا. والنبي واحد والقرآن واحد والدين والرب واحد, فالواجب على الجميع أن ينقادوا إلى كلمة سواء بينهم كلهم: أن لا يطيعوا إلا الرسول, ولا يجعلوا معه من تكون أقواله كنصوصه, ولا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله, فلو اتفقت كلمتهم على ذلك, وانقاد كل منهم لمن دعاه إلى الله ورسوله, وتحاكموا كلُّهم إلى السنة وآثار الصحابة لقلَّ الاختلاف, وإن لم يعدم من الأرض, ولهذا تجد أقل الناس اختلافاً أهل السنة والحديث, فليس على وجه الأرض طائفة أكثر اتفاقاً وأقل اختلافاً منهم لما بنوا على هذا الأصل, وكلما كانت الفرقةُ عن الحديث أبعد كان اختلافهم في أنفسهم أشدَّ وأكثر, فإن من ردَّ الحق مرِجَ عليه أمرهُ واختلط عليه, والتبس عليه وجه الصواب, فلم يدر أين يذهب, كما قال تعالى:   «بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمرٍ مريج»  [ق:5]

باب سدّ الذرائع أحد أرباع التكليف:

باب سدّ الذرائع أحد أرباع التكليف, فإنه أمر ونهي, والأمر نوعان: أحدهما مقصود لنفسه.والثاني: وسيلة إلى المقصود. والنهي نوعان: أحدهما: ما يكون المنهيُّ عنه مفسدة في نفسه, والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة, فصار سدُّ الذرائع المفضية إلى المحرم أحد أرباع الدين.