(37) زعيم إمبراطورية المرابطين (يوسف بن تاشفين)

"واللَّه لئن لم ترجع لأروحنّ لك بمروحة من المرابطين"
(المعتمد بن عبّاد)

  • التصنيفات: التاريخ الإسلامي -
(37) زعيم إمبراطورية المرابطين (يوسف بن تاشفين)

كنت أتمشى في شوارع مدينة "إشبيلية" الساحرة في ليلةٍ من ليالي صيف عام 2009 م، وقتها كنت أستحضر في مخيلتي حصار (ألفونسو السادس) لهذه المدينة الحصينة، والحقيقة أنني كنت فيما سبق أتساءل كيف وصل المسلمون في عهد ملوك الطوائف إلى تلك الحالة المزرية التي وصلوا إليها، وأستهجن ما كان يفعله أمراء الطوائف، ولكنني حينما رأيت أشجار البرتقال الممتدة على شوارع إشبيلية، ورأيت بعدها حدائق قرطبة الغّناء، ومشيت في طرقات غرناطة الموصلة لقصر الحمراء، طرحت علي نفسي سؤالًا صريحًا: ماذا لو كنت أنا أميرًا على مدينة من مدن الأندلس في عهد ملوك الطوائف، هل كنت سأقبل التنازل عن كرسي الحكم؟ ولو كنت مكان (المعتمد بن عبّاد) هل كنت سأجازف بقتال (ألفونسو السادس)؟ أم كنت سأدفع له الجزية مقابل أن أبقى بجانب (اعتماد الرميكية) وهي تنشد لي الألحان الشجية تحت أشجار البرتقال تلك؟!


الحقيقة أنني وإن كنت لا أجد عذرًا لتلك الحالة المهينة التي وصل إليها ملوك الطوائف، إلّا أنني أدركت بالفعل عظم تلك الفتنة التي تعرضوا لها في تلك البلاد الساحرة، ومما زاد من إدراكي هذا هو ملاحظة مهمة لاحظتها خلال زيارتي لإسبانيا. . . فلقد رأيت هناك أن لكل مدينة حدودًا طبيعية تحيط بها من جميع الاتجاهات ما بين جبالٍ وأنهارٍ وبحار، مما يدفع كل مدينة أندلسية لتشكل دويلة مستقلة في حد ذاتها، ولا شك أن هذا يزيد من رغبة الفرد بالاستقلال، ولعل ما تشهده إسبانيا الآن من تفرق بين مدنها ما بين حكم ذاتي في "كاتالونيا" ومطالبةٍ بالاستقلال من إقليم "الباسك" لهو خير دليل على حال تلك البلاد!

بعد هذه المقدمة التي أحسب أنها من الأهمية بمكان، نعود إلى إشبيلة مرةً أخرى، فبعد أن بعث ألفونسو السادس تلك الرسالة التي يهزأ بها من ابن عباد ويطلب منه أن يبعث له بمروحة يروح بها عن نفسه لكي يطيل أمد الحصار، قلب ابن عباد الرسالة وكتب على ظهرها: "واللَّه لئن لم ترجع لأروحنّ لك بمروحة من المرابطين! "،

فما إن قرأها ألفونسو حتى ولى الأدبار ورجع إلى دياره مخافة أن يستنجد المسلمون بالمرابطين الذين ذاع صيتهم في مختلف أرجاء العالم في ذلك الوقت، وبعد أن رأى ابن عباد ردة فعل ألفونسو السادس لمجرد سماعه باسم المرابطين، أرسل إلى ملوك الطوائف لكي يتم اجتماع القمة الأول لـ 22 دويلة من دويلات الطوائف، وفعلًا تم عقد اجتماع القمة الطارئ لملوك الطوائف! فروى ابن عباد حكايته مع ألفونسو، وما فعله عند سماعه باسم المرابطين، ثم أخبرهم أن ألفونسو لن يستسلم بهذه البساطة، وأنه حتمًا سيكرر فعلته مع جميع الدويلات حتى ينهي الوجود الإسلامي كما وعد أباه وهو على فراش الموت، فاقترح ابن عباد أن يبعث برسالة إلى المرابطين يطلب منهم أن يأتوا لإنقاذ المسلمين في الأندلس!

عند ذلك عمَّ الهرج قاعة الاجتماع رفضًا لهذا الاقتراح من ابن عباد، فصاح أحدهم بابن عباد: "هل تريد أن تجلب لنا هؤلاء البدو من رعاة الإبل لكي يحاربوا ألفونسو، ثم إذا ما انتصروا عليه مكثوا في ديارنا الخضراء وسلبونا الحكم وجعلونا رعاةً لإبلهم؟! عند ذلك وقف المعتمد ابن عباد ملك إشبيلية بين الحضور وقال قولة حفظتها كتب التاريخ لنا:
واللَّه لأن أرعى الإبل في صحراء المغرب ... خيرٌ لي من أن أرعى الخنازير في أوروبا!
عندها وقف عظيمنا السابق ملك "بطليوس" (المتوكل بن الأفطس) وأعلن تأييده لذلك الاقتراح، ثم قام (عبد اللَّه بن بلقين) ملك "غرناطة" ووافق أيضًا، فبعث ابن عباد برسالة الاستغاثة العاجلة إلى المغرب!


فما أن وصلت رسالة الاستغاثة من المسلمين في الأندلس، حتى قرأها زعيم المرابطين القائد المجاهد (يوسف بن تاشفين اللنتوني) ابن عم الشيخ المجاهد (أبي بكر ابن عمر اللنتوني)، فركب سفينةً هو وبعض جنده متجهًا إلى ضفة المتوسط الشمالية في الأندلس، وعندما بلغ ابن تاشفين منتصف مضيق جبل طارق، هبت عاصفة قوية كادت أن تغرق المركب، لولا أن القائد الرباني يوسف بن تاشفين والذي تربّى على يدي الشيخ (عبد اللَّه بن ياسين) رفع يديه إلى السماء في منتصف البحر وقال: "اللهم إن كنت تعلم في عبورنا هذا البحر خيرًا لنا وللمسلمين فسهّل علينا عبوره، وإن كنت تعلم غير ذلك فصعبه علينا حتى لا نعبره"

وما إن فرغ من دعائه حتى سكنت الريح، فما إن وصل الشيخ ابن تاشفين إلى سواحل الأندلس حتى قامت شعوب الأندلس تستقبله فرحة بقدوم هذا البطل الأسطورة والذي لطالما سمعوا عن قصص بطولاته مع بقية جموع المرابطين المجاهدين، واستقبله ابن عباد بالترحاب، فتقدم جيش المسلمين المتكون من 30 ألف مقاتل إلى الشمال لمكان يقال له "الزلاقة"، فسمع (ألفونسو السادس) بالخبر، فأعلن "الفاتيكان" حالة الطوارئ القصوى في أوروبا بأسرها، فأرسل بابا الفاتيكان رسالة إلى الكاثوليك في مختلف أرجاء أوروبا يضمن فيها الغفران لكل من يشارك في هذه المعركة، ووعد كل من يحارب بمفتاحٍ يحصل على من البابا شخصيًا، هذا المفتاح هو مفتاح قصره في الجنة! عند ذلك تجمع الفرسان من فرنسا وإيطاليا وألمانيا وإنجلترا (وقد كانت كاثوليكية آنذاك)، فتجمع لألفونسو السادس ضعف عدد المسلمين، مدججين بآخر ما توصلت إليه مصانع أوروبا الحربية، هدفهم جميعًا تدمير الوجود الإسلامي في الأندلس إلى الأبد في تلك الموقعة الفاصلة، موقعة "الزلاقة"، فوقف ألفونسو السادس متبجحًا بهذا الجيش الجرار وقال: "بهذا الجيش أقاتل الجن والأنس، وأقاتل ملائكة السماء، وأقاتل محمدًا وصحبه".

فعسكر الفريقان قبالة الزلاقة في يوم الخميس، وفي ذلك الوقت صنع الأمير البطل يوسف بن تاشفين شيئًا عجيبًا كان ملوك الطوائف قد نسوه منذ زمن بعيد، فلقد أرسل ابن تاشفين رسالةً إلى ألفونسو يدعوه فيها للإسلام أو دفع الجزية! ويقول فيها: "من أمير المسلمين يوسف ابن تاشفين إلى ملك الروم ألفونسو السادس، سلام على اتبع الهدى وبعد، بلغنا أنك دعوت أن يكون لك سفنًا تعبر بها إلينا، فقد عبرنا إليك، وستعلم عاقبة دعائك، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال، وإني أعرض عليك الإسلام، أو الجزية عن يد وأنت صاغر، أو الحرب، ولا أؤجلك إلا لثلاث".

عند ذلك استشاط ألفونسو السادس غضبًا من هذا القائد المسلم الذي يمتلئ عزة وكرامة، بعد أن كان هو من يأمر ملوك الطوائف بدفع الجزية، عندها أراد ألفونسو أن يخدع المسلمين فكتب ليوسف بن تاشفين: "غدًا هو الجمعة، وهو عيد للمسلمين ونحن لا نقاتل في أعياد المسلمين، وأن السبت عيد اليهود، وفي جيشنا كثير منهم، وأما الأحد فهو عيدنا، فلنؤجل القتال حتى يوم الإثنين" ولكن يوسف ابن تاشفين كان يعلم أن الصليبيين قومٌ لا يوفون بعهودهم أبدًا، فطلب من جنوده أن يظلوا على استعداد ويقظة.

أما ألفونسو السادس فقد رأى في نومه حلمًا غريبًا، فقد رأى وكأنه راكب على فيل يضرب نقيرة طبلٍ، فهالته رؤياه وسأل عنها القساوسة فلم يجبه أحد، فدس يهوديًا عن من يعلم تأويلها من المسلمين، فذهب ذلك اليهودي إلى شيخ من شيوخ المسلمين على دراية بتأويل الأحلام، فقصها عليه ونسبها إلى نفسه، فقال له الشيخ المسلم: كذبت أيها اليهودي! ما هذه الرؤيا لك، ولا بد أن تخبرني عن صاحبها وإلا فاغرب عن وجهي، فقال له اليهودي: اكتم ذلك، هذه الرؤيا للملك ألفونسو السادس، فقال الشيخ المسلم: قد علمت أنها رؤياه، ولا ينبغي أن تكون لغيره وهي تدل على بلاء عظيم ومصيبة فادحة تؤذن بصلبه عما قريب، أما الفيل فقد قال اللَّه تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} وأما ضرب النقيرة فقد قال اللَّه تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ}، فانصرف اليهودي إلى ألفونسو السادس ولم يفسرها له طلبًا في الحرب! وفي منتصف تلك الليلة، استيقظ عالمٌ جليلٌ من المسلمين اسمه الشيخ (ابن رميلة)، فنهض راكضًا إلى خيمة الأمير يوسف بن تاشفين يوقظه ليقول له فرحًا: "أيها الأمير لقد رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في ليلتي هذه، وقد قال لي: يا ابن رمُيْلَة، إنكم منصورون، وإنك ملاقينا"، فكبر ابن تاشفين تكبيرة أيقظت الجند، وأمر الجند أن يقرءوا سورة الأنفال، وأن يصلي الجند قيام الليل، فتعانق الجند فرحًا من تلك الرؤيا، وأجهش الجنود بالبكاء شوقًا للشهادة، وبعد صلاة الفجر من يوم الجمعة، غدر الصليبي القذر ألفونسو كما توقع ابن تاشفين، وزحف بجنده على جيش المسلمين ليباغتهم فجرًا، ولكنه وجد المسلمين في انتظاره بعد رؤية رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تلك، فدارت معركة "الزّلاقة" الباسلة، وانتصر المسلمون لأول مرة منذ عشرات السنوات تحت قيادة الأمير يوسف بن تاشفين، ولم يبقَ من بين 60000 صليبي إلا 100 مقاتل فقط من بينهم أنفونسو السادس بساقٍ واحدة، هرب بها إلى قشتالة ليموت بعدها بسنة كمدًا وغمًّا، وغنم المسلمون غنائم هائلة، لم يأخذ ابن تاشفين والمرابطون شيئًا منها، فعاد إلى المغرب بعد أن أنقذ المسلمين، وعاد أيضًا ملوك الطوائف للصراع من جديد، فبعث أهل الأندلس إلى الأمير يوسف بن تاشفين في مراكش يرجونه أن يأتي ليحررهم من ملوك الطوائف، فلم يرضَ ابن تاشفين أن يحاربهم خوفًا من معصية اللَّه في قتاله للمسلمين، فانهالت الفتاوى عليه من بلاد المسلمين تحثه على إنقاذ الأندلس، وكانت من بينها رسالة بعث بها (أبو حامد الغزالي) من بغداد يجيز له ضم الأندلس، فقام ابن تاشفين بضمِّ الأندلس للمرابطين، فأنهى بذلك مهزلة ملوك الطوائف إلى الأبد!


وبعد. . . . كانت هذه صفحةً مجيدةً في تاريخ هذه الأمة، صفحة المرابطين الأبطال، صفحة البطل عبد اللَّه بن ياسين والبطل يحيى بن إبراهيم الجدالي والبطل يحيى بن عمر اللنتوني والبطل أبي بكر اللنتوني، والبطل يوسف بن تاشفين، أولئك النفر لم يكونوا سوى رعاة إبل في جنوب موريتانيا، فتمسكوا بدين اللَّه، فأعزهم اللَّه نتيجة تمسكهم بدينه، ليغدوا أصحاب أعظم إمبراطورية عرفتها أفريقيا!
ولكن كيف كان وضع الأندلس قبل عهد ملوك الطوائف؟ ومن هو ذلك الملك الإسلامي الذي اعتبره مؤرخو الغرب أعظم ملوك أوروبا في القرون الوسطى؟ ولماذا كان (جورج الثاني) ملك إنجلترا يعتبر نفسه خادمًا له؟ وكيف كان وضع الأندلس قبله؟ وكيف أصبح وضع الأندلس بعده؟ وكيف كان عصره هو العصر الذهبي للأندلس عبر جميع عصورها الممتدة لأكثر من ثمانية قرون مستمرة؟
يتبع. . . . . .