نشأة الشعر

عبد الرحمن بن معاضة الشهري

لم تكن الجاهليةُ التي سبقت الإسلام مباشرة البدايةَ الأولى لتاريخِ العرب عند كثير من الباحثين، فقد سبقتها جاهلية أو جاهليات قديمةٌ سَمَّاها الله {الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33]، وليس هناك تَحديدٌ لزمن تلك الجاهلية أو الجاهليات، وإِنْ كان المفسرون ذهبوا في تَحديدِ زمنها مذاهبَ كثيرةٍ.

  • التصنيفات: الشعر والأدب -

لم تكن الجاهليةُ التي سبقت الإسلام مباشرة البدايةَ الأولى لتاريخِ العرب عند كثير من الباحثين، فقد سبقتها جاهلية أو جاهليات قديمةٌ سَمَّاها الله {الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33]، وليس هناك تَحديدٌ لزمن تلك الجاهلية أو الجاهليات، وإِنْ كان المفسرون ذهبوا في تَحديدِ زمنها مذاهبَ كثيرةٍ.

ومع الخلاف في تحديد زمنها، فظاهر الآيات يدل على أَنَّها ليست القرون القليلة التي سبقت الإسلام؛ لأَنَّ الله وصفها بالجاهلية الأولى، والله قد ذكر الجاهلية دون وصف في ثلاث آيات، وهي قوله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154] ، وقوله تعالى: { {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، وقوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 26]، فيستدل من ذلك ومن سياق هذه الآيات أَنَّ المقصود بالجاهلية الأخرى الجاهلية القريبة من الإسلام.

ووصفُ الزَّمنِ بالجاهلية بِهذا المعنى من الألفاظِ الإسلامية الحادثة التي طرأت بعد الإسلام للدلالة على زمن الشرك قبل الإسلام. قال الطاهر بن عاشور: «وأحسبُ أَنَّ لفظَ الجاهليةِ من مبتكراتِ القرآن، وصفَ به أهلَ الشركِ تَنفِيْرًا من الجهل، وترغيبًا في العلم، ولذلك يذكرهُ القرآنُ في مقاماتِ الذمِّ ... وقالوا: شعر الجاهلية، وأيَّامُ الجاهلية، ولم يُسْمَعْ ذلكَ كُلُّه إلَّا بعد نزولِ القرآن وفي كلام المسلمين».


والقبائل العربية التي عاشت في الجزيرة امتدادٌ تاريخي لقبائل سبقتها، ذُكِرت في القرآن الكريمِ كعاد وثَمود، وذكرهم المؤرخون مثل قبائل طَسْم، وجَدِيس. ووصفهم بالعَربِ البائدةِ، لا يعني الفناء الكاملَ للأفراد، وإِنَّما يعني زوال كيان القبيلة واندثار اسْمها، مع بقاء آحادِ أو {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38)} [الفرقان: 38] مَجموعات دخلت في القبائل الأخرى الباقية.


والله عزَّ وجلَّ وصف عادًا بـ {الْأُولَى} في آيةٍ واحدةٍ في سورة النجم فقال: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى(50)} [النجم: 50]  وذكرها في ثلاث وعشرين سورة أخرى دون وصف. وأشار سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلى قبائل أخرى غيرها فقال: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان: 38].


وهذه القبائلُ سكنت جزيرةَ العرب، فقد أخبر الله تعالى عن موطن قوم هود عليه السلام فقال: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} [الأحقاف: 21] ، وأشار إلى قوم صالح عليه السلام، وهم ثَمود، الذين يَقطنون الحِجْر، فسمَّاهم الله أصحابَ الحِجْرِ في قوله: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} [الحجر: 80]، وسُمِّيت سورتان في القرآن الكريمِ بالحِجْرِ والأحقافِ، إشارةً إلى هذين الموضعين. وقال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِين}  [آل عمران: 96]. وذكرت كتب التاريخ أَنَّ طَسْمًا وجَديسًا وسواهُما كانت في اليمامةِ وفي مواضعَ أُخرى من الجزيرة.

إِنَّ عرب الجاهلية الأخيرة هم امتداد لمن سبقهم، ومرحلة حديثة من مراحلهم، والقبائل العربية القديمة كانت لها لغتها أو لغاتها ولهجاتها التي لا يعرفُ الكثير عنها، وتلك اللغة تدرجت في مراحل حتى وصلت إلى المرحلة الأخيرة من اللغة العربية التي نُظِمت بِها قصائدُ الشعر الجاهلي، ثُمَّ نزل بِها القرآن الكريم. ولذلك فالعرب قَديِمو الوجود في الجزيرة العربية، وقد سبقوا عرب الجاهليةِ الأَخيرةِ بقرون لا يعرفُ عددُها.


فالبحث في نشأة الشعر العربي أو أوليته - كالبحث في نشأة العرب أنفسهم، ولغتهم العربية - يعتمد على الظنِّ والتقريبِ، والأدلة الظنيَّة، ولا يوجد لِمَن كتب في هذا الأمر دليلٌ قاطعٌ يُحدِّدُ أولية الشعر العربي، والسبب أَنَّ البحث في أوليات الأمور يَحتاجُ إلى نصوصٍ موثقةٍ يعتمدُ عليها الباحث، ويُمحِّصها، ويُفاضل بينها، ويستخلص منها نتائجهُ، وإذا لم تتوفر هذه النصوص والأدلة - وهو الحاصل في هذه القضية - فإِنَّ البحث يصبح نوعًا من التيه.

أَضِفْ إلى ذلك أَنَّ أكثرَ من عُنِيَ بالآثارِ، وقراءة النقوش هم من المستشرقينَ الغربيين، وهم مَحلُّ شَكٍّ كبيرٍ في البحث في تاريخ العرب، حيث يَحرصُ أغلبهم على طمس فضائل العرب، وإنكار تاريخهم وحضارتهم، لا نطلاقهم في بُحوثِهم تلك من منطلقاتٍ عَقَديَّةٍ معاديةٍ للعَربِ. والذين حاولوا معرفة أولية الشعر الجاهلي ربطوه بِحَربِ البَسُوسِ.

التي دارت رحاها بَين بكرٍ ، وتغلبَ منذ أوائل القرن الخامس الميلادي، حيث ترجعُ إليها أقدمُ مجموعة من الشعر العربي التي تستند إلى مصادر صحيحة نسبيًا، لشعراء مشهورين في تاريخ العرب الأدبي، ومن هؤلاء الشعراء المهلهل بن ربيعة (530 م)،
والمرقش ... الأكبر (552 م)، والمرقش الأصغر، وسعد بن مالك البكري (530 م)، والحارث بن عُباد البكري (550 م)، وغيرهم .

وأما قبل هذا التاريخ فإنه من الصعوبة تحديد تاريخ دقيق للزمن الذي بدأَ فيه العربُ بقول الشعر؛ لأن الأدلة لا تساعد على الجزم برأيٍ قاطع، ولم يعثر العلماءُ على شعرٍ مُدوَّنٍ بقلمٍ جاهليٍّ، وكل ما يُعرفُ عن هذا الشعرِ مستمدٌّ من مواردَ إسلامية، أَخَذتْ من أفواه الرواة، وكل المحاولات التي بذلت في ذلك من باب المقاربة لا القطع.
يقول الرافعي: «وقد تصفحنا التواريخ العربية، وأرجعنا ما نقلوه عن أهل الرواية - وهم مصدر آداب الجاهلية وأخبارها - فرأينا أن ما كتبوه من ذلك إذا صلحَ أَن يُنقل، فهو لا يصلحُ أَنْ يُعقَل».

وهذه من أكبر المشكلات التي تواجه الباحث في الشعر الجاهلي، لأَنَّ ما وصل من شعر الجاهلية منسوبًا لشعراء معروفين كأصحاب المُعلَّقاتِ يُعدُّ شعرًا متكاملَ النضجِ، تامَّ البناءِ، ولا بد أَن يكون قد سُبِقَ بمرحلةٍ بدأ فيها الشعرُ بدايةً ضعيفةً، ثُمَّ تكاملَ وقوي نسجهُ بعد ذلك، حتى استتمَّ على هيئته القائمة.


ولذلك فقد اختلف الباحثون في تحديد تاريخ بداية الشعر الجاهلي تحديدًا دقيقًا، فمنهم من ذهب بعيدًا في أعماق التاريخ وزعم أنَّ الشعر العربيَّ سبق الإسلام بألفي سنة، وبعضهم ذهب إلى أَنَّهُ سبقهُ بألفِ سنة، وبعضهم ذهب إلى أَنَّه سبقه بأكثر من سبعة قرونٍ، وحدد تلك البداية بِحادثةِ سيلِ العَرِمِ، وتَفرُّقِ أبناءِ سبأ اليمنيين في الجزيرة العربية. ومنهم من ذهب به إلى القرن الثالث الميلادي.


وجُلُّ مَن كتب في نشأةِ الشعر العربيِّ يدور حولَ ما قاله الجاحظ (255 هـ): «وأَمَّا الشعرُ فحديث الميلادِ، صغيرُ السَّنِّ، أَولُ من نَهَجَ سبيلَه، وسهَّلَ الطريقَ إليه امرؤ القيس بن حُجْر، ومهلهل بن ربيعة. وكتبُ أرسطا طاليس، ومعلمه أفلاطون، ثم بطليموس ، وديمقراطس، وفلان وفلان، قبل بدء الشعر بالدهور قبل الدهور، والأحقاب قبل الأحقاب ... فإذا استظهرنا الشِّعرَ، وجدنا له إلى أن جاء الله بالإسلام خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام». وقد شرح محقق الكتاب معنى كلام الجاحظ هذا، وشرحه غيره محاولًا الوصول إلى الطريقة التي قدَّر الجاحظُ بِها عُمُرَ الشعرِ الجاهلي، وتوصل إلى أن مقالة الجاحظ «أَنَّ الشعرَ حديثُ الميلاد، صغيْرُ السِّنِّ» قضيةٌ باطلةٌ، لا برهان عليها، وليس لها دليل، وأَنَّ غاية ما يبقى من استظهار الجاحظ هذا هو أَنَّ شعر مهلهل، وابن اخته امرئ القيس مِن أقدمِ ما بقي من شعر الجاهلية.

ويقول الجاحظ في موضع آخر من كتابه: «وقد قيلَ: الشعرُ قبل الإسلام في مقدارٍ أطولَ مِمَّا بيننا اليوم وبين أول الإسلام» ، والجاحظ قد توفي سنة 255 هـ.
والجاحظ وغيره من العلماء الذين قالوا بمدة مائة وخمسين سنة تقريبًا أو أكثر للشعر الجاهلي لم يبعدوا عن الصواب إذا فُرِضَ أَنَّهم إِنَّما أرادوا بذلك ما وصل من الأشعارِ القديمةِ الموثوق بِها، بِحيثُ لا يَرتابُ الرواة الثقاتُ في صحة هذه الأشعار ونسبتها لأولئك الشعراء، وأما عُمْرُ الشعر نفسه فهو أقدم من ذلك بكثير، ولا يستطيع أحدٌ أن يزعم معرفة ذلك التاريخ بدقة، فالأبيات المفردة، والمقطعات عمرها أطول من ذلك بكثير، ولم يقف أحد على أولها، ولذلك يقول السيوطي: «وقال عُمَرُ بنُ شَبَّةَ  في «طبقات الشعراء»: للشعرِ والشعراءِ أَوَّلٌ لا يُوقَفُ عليه، وقد اختلف في ذلك العلماءُ، وادَّعت القبائلُ كلُّ قبيلةٍ لشاعرها أَنَّهُ الأولُ، ولم يدَّعوا ذلك لقائل البيتين والثلاثة؛ لأَنَّهم لا يُسمُّون ذلك شعرًا، فادعت اليمانيةُ لامرئ القيس، وبنو أسد لعَبيدِ بن الأبرص، وتغلبُ لمهلهل، وبكر لعمرو بن قميئة  والمرقش الأكبر، وإياد لأبي دؤاد.


قال - أي عمر بن شبَّة: وزعم بعضهم أَنَّ الأفوهَ الأوديَّ  أقدمُ من هؤلاءِ، وأَنَّهُ أَولُ من قَصَّدَ القصيدَ، قال: وهؤلاءِ النَّفَرُ المُدَّعى لهم التقدمُ في الشعرِ مُتقاربون، لعلَّ أقدمهم لا يسبقُ الهجرةَ بِمائةِ سنةٍ أو نحوها».
وأكثر العلماء يَخصُّون المهلهل بن ربيعة بفضل ريادةِ الشعراء أصحاب القصيد، إذ يقول ابن سلام: «وكان أول من قَصَّدَ القصائد، وذَكَر الوقائع المهلهل بن ربيعة». ويقول الأصمعي: «أول من تُروى له كلمة تبلغ ثلاثين بيتًا من الشعر مهلهل، ثم ذؤيب بن كعب بن عمرو بن تَميم، ثُم ضَمْرةُ، رجلٌ من كنانةَ، والأضبطُ بن قُريع وكانَ بينَ هؤلاء وبين الإسلام أربعمائة سنة، وكان امرؤ القيس بعد هؤلاء بكثير».


والظاهرُ أَنَّ المرحلة التي سبقت حربَ البَسوسِ كانت مرحلةَ مقطوعات وأبيات متفرقة كما وصلت وحفظها الرواة، وهو ما عَبَّرَ عنه ابن سلام الجُمحيُّ بقولهِ: «ولم يكن لأوائلِ العربِ من الشعرِ إِلاَّ الأبياتُ يقولُها الرجلُ في حاجته».
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أَنَّ أول الشعراءِ هو خُزيِمةُ بن نَهْدٍ القضاعي، واستندَ هذا الباحث في هذا التقديم إلى قول أبي عُبيد البكري: «إِنَّ شِعرَهُ -أي خزيمة- أَوَّلُ الشِّعْرِ».

وقد تدل هذه المقطعات على غَيْرِها، غير أَنَّهُ لم يُحفظ ذلك الشعرُ، والأمر في هذا قريب، وكثير من القضايا التاريخية الموغلة في القدم، يصعب الوصول فيها إلى دليل قاطع؛ لغياب الخَبَرِ الموثوق.
وكتبُ التفسير تذكرُ شواهدَ شعريةً لشعراء قبل مهلهل، فهناك شاهدٌ شعري منسوبٌ لآدم عليه السلام، .............

ولزُهَيْرِ بن جَنابٍ الكلبيِّ، وغيرهم من الشعراء الذين قيل: إِنَّهم أولُ الشعراء، ولكنَّها أبياتٌ قليلة. وأكثر الأقوال والشواهد الشعرية في كتب التفسير واللغة والنحو منسوبةٌ للشعراء المعروفين الذين حُفظت أشعارهم من المهلهل بن ربيعة وطبقته حتى آخرِ عصور الشعراءِ المُستشهدِ بشعرهم. وما سوى ذلك من الشعراء المختلف فيهم وفي زمنهم فالأبيات المنسوبة إليهم قليلةٌ لا تكاد تذكر في باب الشواهد الشعرية العلمية التي هي مَحلُّ البحث، وسيتضح هذا في موضعه.


ولذلك فالعلماء بالشعر قد انتخبوا من الشعراء مَن يقع الاحتجاج بشعرهم في غريب اللغة، وتفسير القرآن، والنحو، والأخبار لِكثرتِهم، ولم يتعرضوا لكل الشعراء لتعذر ذلك عليهم، ولذلك يقول ابنُ سلام: «ذكرنا العربَ وأشعارها، والمشهورين المعروفين من شعرائها وفُرسانِها وأشرافها وأيامها؛ إذ كان لا يُحاطُ بشعر قبيلةٍ واحدة من قبائل العرب، وكذلك فرسانها وساداتها وأيامها، فاقتصرنا من ذلك على ما لا يَجهلهُ عالِمٌ، ولا يستغني عن علمه ناظرٌ في أمر العرب، فبدأنا بالشعر».


ويقول ابن قتيبة: «وكان أكثر قصدي للمشهورين من الشعراء، الذين يعرفُهم جُلُّ أهلِ الأدب، والذين يقعُ الاحتجاج بأشعارهم في الغريب، وفي النحو، وفي كتاب الله عَزَّوَجَلَّ، وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -».


هذا كله عن أولية الشعر من حيث الزمن، أما من الناحية الفنية فقد اختلف الباحثون حولها، فبعض العلماء يرى أن الرَّملَ هو المرحلة الفنية الأولى التي بدأ بِها الشعر، فقد رويَ أَنَّ قيس بن عاصم التميمي  قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يومًا، وهو عنده: أتدري يا رسول الله أَوَّلَ مَن رَجَزَ للإبلِ؟ قال: لا، قال: أبوك مُضَرُ، كان يسوقُ بأهلهِ ليلةً، فَضَربَ يَدَ عبدٍ له، فصاح: وا يداه، وا يداه، فاستوسقت الإبلُ، فَنَزَلَ، فرَجَزَ على ذلك. فهو أولُ مَن حَدا إن صحت هذه الرواية، وقد استعمل الناس الحداء بالشعر بعده، وتزيدوا فيه شيئًا بعد شيء.
وأما الباحثون المتأخرون فيذهبون إلى أن السجع و البداية الفنية التي عرفها العرب، ومن هؤلاء المستشرق كارل بروكلمن  الذي يقول: «ينبغي أن يكون أقدم القوالب الفنية هو السَّجعُ» ثم يقول: «والسجعُ هو القالب الذي كان يصوغ العرَّافونَ والكهنةُ فيه كلامَهم وأقوالهم كما جاء في القرآن». وذهب بعض الأدباء إلى أن السَّجعَ ترقَّى بعد ذلك إلى الرَجَزِ، أما الرافعي فيكتفي بالقولِ: إِنَّ الشعر كان قبلَ مهلهل رَجَزًا وقطعًا، وبعض الباحثين يقف من تلك المحاولات الأولى لفن الشعر موقفًا يرفض فيه تلك الفروض التي رجحها المستشرقون وغيرهم من الأدباء، ويشك في أن يكون الرَّجَزُ هو أقدم أوزان الشعر، فيقول: «وكلُّ ما يُمكنُ أَن يقالَ هو أَنَّ الرَّجزَ كان أكثر أوزان الشعر شيوعًا في الجاهلية؛ إذ كانوا يرتجلونه في كل حركةٍ من حركاتِهم، ولكنَّ شُيوعَهُ لا يعني تقدُّمهُ ولا سَبقهُ للأوزان الأخرى، إِنَّما كان يعني أَنَّهُ كان وزنًا شعبيًا لا أقلَّ ولا أكثر».


ويقترب من هذا الرأي ما ذهب إليه الدكتور إبراهيم أنيس من أَنَّ بَحرَ الرَّجَزِ مرحلةٌ متطورةٌ عن بحر الكامل؛ نظرًا لِما لا حظَهُ من أَنَّ اللغةَ العربية تتجه من المتحرك إلى الساكنِ، وليس العكس. وهناك من لا يعدُّ الرَّجَزَ من الشعرِ، فقد نقل عن الخليلِ بن أَحْمدَ أَنَّ الرَّجَزَ ليسَ بشعرٍ، وإِنَّما هو أَنصافُ أبياتٍ أو أثلاث، وهذه مسألة تعرض لها نقاد الشعر بتفصيل.