فوائد من بدائع الفوائد لابن القيم (1-4)

فهد بن عبد العزيز الشويرخ

وقد يسّر الله الكريم لي فانتقيتُ شيئاً من تلك الفوائد, أسأل الله أن ينفع بها, ويبارك فيها.

  • التصنيفات: طلب العلم -

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فمما يُوصى به أهل العلم أن يكون لطالب العلم سجلاً خاصاً به يسجل فيه ما يمرُّ به من فوائد ومسائل, يقول الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد رحمه الله: اجعل لك ( كناشاً ) أو ( مذكرةً), لتقييد الفوائد والفرائد والأبحاث المنثورة في غير مظانها.

لأنه إن لم يفعل اعتماداً على ذاكرته ضاعت منه, وتحسر على فقدها, يقول العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: فكم من مسألة نادرةٍ ومهمةٍٍ تمرُّ بالإنسان فلا يُقيدها اعتماداً على أنه لن ينساها فإذا به ينساها ويتمنى لو كتبها.

ومن العلماء الذين كان لهم عناية بتقيد الفوائد: العلامة ابن القيم رحمه الله, حيث له في ذلك كتابان: الأول: باسم الفوائد, والثاني: باسم بدائع الفوائد.

وكتابه بدائع الفوائد مشحون بالكثير من الفوائد في مختلف العلوم, قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: فيه من بدائع العلوم ما لا تكاد تجدُهُ في كتاب آخر في كُلِّ فنِّ, كُلُّ ما طرأ على باله قيده.

وقد يسّر الله الكريم لي فانتقيتُ شيئاً من تلك الفوائد, أسأل الله أن ينفع بها, ويبارك فيها.

 

سورة الفلق تضمنت الاستعاذة من أمور أربعة:

الشرُّ الأول: العام في قوله:   {مِن شَرِّ مَا خَلَق}..وقد دخل في قوله:   {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ} الاستعاذة من كلِّ شر في أي مخلوق قام به الشر, من حيوان أو غيره, إنسياً كان أو جنياً, أو هامة أو دابةً, أو ريحاً أو صاعقةً, أو أي نوع كان من البلاء.

الشر الثاني : شر الغاسق إذا وقب, فهذا خاص بعد عام, وقد  قال أكثر المفسرين: إنه الليل..والسبب الذي لأجله أمر الله بالاستعاذة من شر الليل..أن الليل إذا أقبل فهو محل سلطان الأرواح الشريرة الخبيثة, وفيه تنتشر الشياطين..وهو محل الظلام, وفيه تتسلط شياطين الإنس والجن ما لا تتسلط بالنهار, فإن النهر نور, والشياطين إنما سلطانهم في الظلمات, والمواضع المظلمة, والمظالم, وعلى أهل الظلمة.

ولهذا كان سلطان السحر وعظم تأثيره إنما هو بالليل دون النهار, فالسحر الليلي عندهم هو السحر القوي التأثير, ولهذا كانت القلوب المظلمة هي محال الشياطين وبيوتهم ومأواهم, والشياطين تجولُ فيها وتتحكم كما يتحكمُ ساكن البيت فيه, وكلما كان القلبُ أظلم كان للشيطان أطوع, وهو فيه أثبتُ وأمكن.

ومن هاهنا تعلم السّرّ في الاستعاذة برب الفلق في هذا الموضع, فإن الفلق الصُّبحُ الذي هو مبدأ ظهور النور, وهو الذي يطرد جيش الظلام وعسكر المفسدين في الليل, فيأوي كلُّ خبيث وكلُّ مفسدٍ وكلُّ لصٍ وكلُّ قاطع طريق إلى سربٍ أو كنٍّ أو غار وتأوى الهوام إلى جحرتها, والشياطين التي انتشرت بالليل إلى أمكنتها ومحالها.

الشر الثالث : شر النفاثات في العقد, وهذا الشَّرُّ هو شر السحر.

والجواب المحققُ: أن النفاثات هنا هنَّ الأرواحُ والأنفس النفَّاثات لا لنساء النَّفَّاثات, لأن تأثير السحر إنما هو من جهة الأنفس الخبيثة, والأرواح الشريرة, وسلطانه إنما يظهر منها, فلهذا ذكرت النفاثات هنا بلفظ التأنيث دون التذكير. والله أعلم.

الشر الرابع : شرُّ الحاسد إذا حسد.

فيه الاستعاذة من شر عين الحاسد, ومعلوم أن عينه لا تؤثر بمجردها, لو نظر إليه نظرة لاهٍ ساهٍ عنه...وإنما إذا نظر إليه نظر من قد تكيّفت نفسُه الخبيثةُ, وانسمَّت واحتدَّت, فصارت نفساً غضبية خبيثة حاسدة أثرت بها تلك النظرة, فأثرت في المحسود تأثيراً بحسب صفة ضعفه, وقوة نفس الحاسد, فربما أعطبهُ وأهلكهُ. 

وجاء في السورة ذكر الحاسد دون العائن لأنه أعمُّ, فكل عائن حاسد ولا بد, وليس كل حاسد عائناً, فإذا استعاذ من شرِّ الحسد دخل فيه العين, وهذا من شمول القرآن الكريم وإعجازه وبلاغته.

وأصل الحسد هو بغض نعمة الله على المحسود وتمني زوالها, فالحاسد عدوُّ النعم, وهذا الشرُّ هو من نفس الحاسد وطبعها, ليس هو شيئاً اكتسبه من غيرها, بل هو من خُبثها وشرها, بخلاف السحر, فإنه إنما يكون باكتساب أمور أخرى, واستعانة بالأرواح الشيطانية, فلهذا – والله أعلم – قرن في السورة بين شر الحاسد وشر الساحر, لأن الاستعاذة من شرِّ هذين تعمُّ كل شرٍّ يأتي من شياطين الإنس والجن, فالحسد من شياطين الإنس والجن, والسحرُ من النوعين.....فهذه السورة من أكبر أدوية المحسود فإنها تتضمن التوكُّل على الله والالتجاء إليه والاستعاذة به من شر حاسد النعمة, فهو مستعيذ بولي النعم وموليها من شر لصِّها وعدوها.

الفرق بين الحاسد والعائن:

العائن والحاسد يشتركان في شيء, ويفترقان في شيء, فيشتركان في أن كل واحد منهما تتكيف نفسه وتتوجه نحو من يريد أذاه, فالعائن تتكيف نفسه عند مقابلة المعين ومعاينته, والحاسد يحصلُ له ذلك عند غيبة المحسود وحضوره أيضاً.

ويفترقان في أن العائن قد يُصيبُ من لا يحسده من جماد أو حيوان أو زرع أو مال, وإن كان لا يكادُ ينفكُ من حسد صاحبه. وربما أصابت عينه نفسه, فإن رؤيته للشيء رؤية تعجُّب وتحديق, مع تكيف نفسه بتلك الكيفية تؤثر في المعين.

الشيطان يقارنُ الساحر والحاسد ويحادثهما ويصاحبهما:

الشيطان يقارنُ الساحر والحاسد ويحادثهما ويصاحبهما, ولكن الحاسد تُعينُهُ الشياطين بلا استدعاء منه للشيطان, لأن الحاسد شبيه بإبليس وهو في الحقيقة من أتباعه, لأنه يطلبُ ما يحبه الشيطان من فساد الناس وزوال نعم الله عنهم, كما أن إبليس حسد آدم شرفه وفضله, وأبى أن يسجد له حسداً, فالحاسد من جند إبليس, وأما الساحرُ فهو يطلب من الشيطان أن يُعينهُ ويستعينه, وربما يعبده من دون الله تعالى حتى يقضى له حاجته, وربما يسجد له.

لا يخلو أحد من حسد لكن المؤمن يخفيه ولا يؤذي غيره:

تأمل تقيده سبحانه شر الحاسد بقوله:  { إذا حسد} لأن الرجل قد يكون عنده حسد ولكن يخفيه ولا يترتب عليه أذى بوجهٍ ما, لا بقلبه ولا بلسانه ولا بيده, بل يجد في قلبه شيئاً من ذلك, ولا يعامل أخاه إلا بما يُحبُّ الله, فهذا لا يكاد يخلو منه أحد, إلا من عصمه الله.

وهو يجاهد نفسه على دفع ذلك, ويُلزمها بالدعاء للمحسود.