فوائد من بدائع الفوائد لابن القيم (4-4)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
وأما فضول المخالطة, فهي الداء العُضالُ الجالب لكل شر, وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة, وكم زرعت من عداوة
- التصنيفات: طلب العلم -
{بسم الله الرحمن الرحيم }
ما قيل في سبب تكفير صيام عاشورا لسنة, وصيام عرفة لسنتين:
* إن قيل: لِمَ كان عاشوراءُ يكفر سنةً, ويوم عرفة يكفر سنتين ؟
قيل: فيه وجهان:أحدهما: أن يوم عرفة في شهر حرام وقبله شهر حرام وبعده شهر حرام, بخلاف عاشوراء.الثاني: أن صوم يوم عرفه من خصائص شرعنا, بخلاف عاشوراء, فضُوعف ببركات المصطفى, والله أعلم.
فضول المخالطة:
وأما فضول المخالطة, فهي الداء العُضالُ الجالب لكل شر, وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة, وكم زرعت من عداوة, وكم غرست في القلب من حزازات, تزول الجبالُ الراسيات وهي في القلوب لا تزول, ففضول المخالطة فيه خسارة الدنيا والآخرة, وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة, ويجعل الناس فيها أربعة أقسام, متى خلط أحد الأقسام بالآخر, ولم يميز بينهما دخل عليه الشر:
أحدها: من مخالطته كالغذاء لا يُستغنى عنه في اليوم والليلة, فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة, ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الدوام, وهذا الضربُ أعزُّ من الكبريت الأحمر, وهم العلماء بالله وأمره ومكايد عدوه, وأمراض القلوب وأدويتها الناصحون لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولخلقه فهذا الضرب في مخالطتهم الربح كلُّه.
القسم الثاني: من مخالطته كالدواء يُحتاجُ إليه عند المرض, فما دمت صحيحاً فلا حاجة لك في خلطته, وهم من لا يُستغنى عن مخالطتهم في مصلحة المعاش..فإذا قضيت حاجتك من مخالطة هذا الضرب بقيت مخالطتهم من:
القسم الثالث: وهم من مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه, وقوته وضعفه, فمنهم من مخالطته كالداء العُضال, والمرض المزمن, وهو من لا تربح عليه في دين ولا دنيا, ومع ذلك فلا بد أن تخسر عليه الدين أو الدنيا أو أحدهما, فهذا إذا تمكنت مخالطته واتصلت فهي مرض الموت المخوف.
ومنهم: من مخالطته كوجع الضرس يشتد ضرباته عليك, فإذا فارقك سكن الألم.
ومنهم: من مخالطته حُمى الروح وهو الثقيل البغيض.., الذي لا يُحسن أن يتكلم فيفيدك ولا يُحسن أن ينصت فيستفيد منك ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها.
القسم الرابع: من مخالطته الهلك كله, ومخالطته بمنزلة أكل السُّم, فإن اتفق لآكله ترياق, وإلا فأحسن الله فيه العزاء, وما أكثر هذا الضرب في الناس- لا كثرهم الله- وهم أهل البدع والضلالة الصادون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, الداعون إلى خلافها, الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً, فيجعلون البدعة سُنة, والسنة بعدة, والمعروف منكراً, والمنكر معروفاً.
كل من عارض نصوص الأنبياء بقياسه ورأيه, فهو من أتباع الشيطان:
اللعين...الحكمة كانت توجب عليه خضوعه لآدم فعارض حكمة الله وأمره برأيه الباطل ونظره الفاسد, فقياسه باطل نصاً وعقلاً, وكل من عارض نصوص الأنبياء بقياسه ورأيه, فهو من خلفائه وأتباعه, نعوذ بالله من الخذلان, ونسأله التوفيق والعصمة من هذا البلاء الذي ما رُمي العبد بشر منه, ولأن يلقى الله بذنوب الخلائق كلها ما خلا الإشراك به أسلم له من أن يلقى الله وقد عارض نصوص أنبيائه برأيه ورأي بني جنسه.
احذر دعوة المظلوم:
سبحان الله كم بكت في تنعم الظالم عين أرملة, واحترقت كبد يتيم, وجردت دمعة مسكين {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ} [المرسلات:46] {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ } [ص:88] لا تحتقر دعاء المظلوم فشرر قلبه محمول بعجيج صوته إلى سقف بيتك, ويحَك نبال أدعيته مُصيبة وإن تأخر الوقتُ, قوسه قلبُهُ المقروحُ, ووترُهُ سواد الليل, احذر عداوة من ينام وطرفه باك, يقلب وجهه نحو السماء, يرمى سهاماً ما لها غرض سوى الأحشاء منك.
الحذر من أمرين لهما عواقب سوءٍ:
حذار حذار من أمرين لهما عواقب سوءٍ:
أحدهما: ردُّ الحقِّ لمخالفته هواك, فإنك تعاقبُ بتقليب القلب, وردّ ما يرد عليك من الحق رأساً, ولا تقبله إلا إذا برز في قالب هواك, قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفئِدَتَهُم وَأَبصارَهُم كَما لَم يُؤمِنوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [الأنعام:110] فعاقبهم على ردِّ الحق أول مرة بأن قلَّب أفئدتهم وأبصارهم بعد ذلك.
والثاني: التهاون بالأمر إذا حضر وقته, فإنك إن تهاونت به ثبطك الله وأقعدك عن مراضيه وأوامره عقوبةً لك, قال تعالى: {فَإِن رَجَعَكَ اللَّـهُ إِلى طائِفَةٍ مِنهُم فَاستَأذَنوكَ لِلخُروجِ فَقُل لَن تَخرُجوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقاتِلوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُم رَضيتُم بِالقُعودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقعُدوا مَعَ الخالِفينَ } [ [التوبة:83] فمن سلِم من هاتين الآفتين والبليتين العظيمتين فلتهنه السلامة.
فوائد متفرقة:
* الله تعالى يُجير ولا يُجار عليه, وهو حسب من توكل عليه, وكافي من لجأ إليه, وهو الذي يؤمن خوف الخائف, ويجير المستجير, وهو نعم المولى ونعم النصير, فمن تولاه واستنصر به وتوكل عليه وانقطع بكليته إليه تولاه وحفظه وحرسه وصانه, ومن خافه واتقاه آمنهُ من كل ما يخاف ويحذرُ, وجلب إليه كل ما يحتاج من المنافع, فلا تستبطئ نصره ورزقه وعافيه, فإن الله تعالى بالغ أمره, وقد جعل لكل شيء قدراً لا يتقدم عنه ولا يتأخر
* الموسوِسُ نوعان: إنس وجن, فإن الوسوسة هي الإلقاء الخفي في القلب, وهذا مشترك بين الجن والإنس, وإن كان إلقاء الإنسي ووسوسته إنما هي بواسطة الأُذُن, والجنِّيُّ لا يحتاج إلى تلك الواسطة, لأنه يدخل في ابن آدم ويجرى منه مجرى الدم.
* فضول الطعام داع إلى أنواع كثيرة من الشَّرِّ, فإنه يُحركُ الجوارح إلى المعاصي, ويثقلها عن الطاعات, وحسبك بهذين شراً!! فكم من معصية جلبها الشبع وفضول الطعام, وكم من طاعة حال دونها, فمن وقي شر بطنه فقد وقي شراً عظيماً.
* أكثر المعاصي إنما تولدها من فضول الكلام والنظر, وهما أوسع مداخل الشيطان, فإن جارحتيهما لا يملان ولا يسأمان,...فلو تركا لم يفترا من النظر والكلام, فجنايتهما مُتسعةُ الأطراف, كثيرة الشعب, عظيمة الآفات.
* ما أُعطي أحد النصفَ فأباه إلا أخذ أقلَّ منه.
* لما تمكن الحسد من قلوب إخوة يوسف – عليه السلام – أُرِيَ المظلومُ مآل الظالم في مرآة {إني رأيت أحد عشر كوكباً } [ [يوسف]
* متى رأيت القلب قد ترحل منه حبُّ الله والاستعداد للقائه, وحلَّ فيه حبُّ المخلوق والرضا بالحياة الدنيا والطُّمأنينةُ بها, فاعلم أنه قد خُسِفَ به.
* متى أقحطت العينُ من البكاء من خشية الله, فاعلم أن قحطها من قسوة القلب, وأبعدُ القلوب من القلب القاسي.
* لا تحتقر معصيةً فكم أحرقت شرره.
* العلم والعمل توأمان أمُّهما علو الهمة.
* الجهل والبطالة توأمان أمهما إيثار الكسل.
* تصانيف العالم أولاده المُخلدون دون أولاده.
* التأديب شيء والتعذيب شيء, التأديبُ يُرادُ به التهذيب والرحمةُ والإصلاحُ, والتعذيب للعقوبة والجزاء على القبائح, فهذا لون وهذا لون.
* قال بعض العلماء: قلَّ من حرص على الفتوى, وسابق إليها, وثابر عليها, إلا قلَّ توفيقه, واضطرب في أمره, وإن كان كارهاً لذلك غير مختار له ما وجد مندوحة عنه, وقدر أن يُحيل بالأمر فيه على غيره, كانت المعونة له من الله أكثر, والصلاح في جوابه وفتاويه أغلب.
* لو كشفت لك الدنيا ما تحت نقابها لرأيت المعشوقة عجوزاً, وما ترضى إلا بقتل عشاقها, وكم تدللت عليهم بالنشوز.
* الناقد يخاف دخول البهرج عليه واختلاطه بماله, والمبهرج آمن, هذا الصديق يُمسكُ بلسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد, وعمر يناشد حذيفة: هل أنا منهم, والمخلط على بساط الأمن.
* إذا جنَّ الليلُ وقع الحربُ بين النوم والسهر, فكان الشوقُ والخوفُ في مقدمة عسكر اليقظة, وصار الكسل والتواني في كتيبة الغفلة, فإذا حمل العزمُ حملةً صادقة هزم جنود الفتور والنوم, فحصل الظفرُ والغنيمةُ, فما يطلُعُ الفجرُ إلا وقد قُسمت السُّهمان وما عند النائمين خبر.
قام المُتهجدون على أقدام الجِد تحت ستر الدجى, يبكون على زمنٍ ضاع في غير الوصال.
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ