مشاهد العصاة في قبورهم (2-2)

أبو حاتم سعيد القاضي

قالوا: والحديث يدل على التنزه من البولِ؛ فإنَّ الظاهرَ أنهم استنكروا بولَه  صلى الله عليه وسلم  قاعدًا، فأخبرهم أنه لأجل التَّنزُّه عن البولِ، فإنَّ البائلَ قائمًا قد لا يَسلَمُ من رشاشِ بولِه.

  • التصنيفات: الدار الآخرة -

6، 7- مشهد الذي لا يتنزه من البول، والنمام:

عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: «مرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم  على قبرَين، فقال: "إنهما ليُعذَّبان، وما يُعذَّبان في كبيرٍ، أما هذا فكان لا يستَتِرُ من بوله، وأما هذا فكان يمشِي بالنَّميمة". ثم دعا بعَسِيبٍ رطْبٍ فشقَّه باثنين، فغرَس على هذا واحدا، وعلى هذا واحدا، ثم قال: "لعلَّه يُخفَّفُ عنهما ما لم ييْبَسا» " ([1]).

وفي لفظ للبخاري ([2]): " «يُعذَّبان، وما يُعذَّبان في كبيرٍ، وإنه لكبيرٌ .. وفي لفظ لمسلم: "قال: وكان الآخر لا يستنْزه عن البولِ أو من البولِ» ".

وفي لفظ ([3]): " «كان أحدهما لا يستبرِئُ من بولِه» ".

قال العلماء ([4]): قولُه صلى الله عليه وسلم : " «وما يُعذَّبان في كبيرٍ» ":  فيه احتمالاتٌ: أحدهما: أنه ليس بكبيرٍ في زعمِهما، والثاني: أنه ليس بكبيرٍ عليهما تركُه، والثالث: ليس بأكبرِ الكبائرِ. والمرادُ بهذا الزجرُ والتحذيرُ لغيرِهما، أي: لا يتوهَّمُ أحدٌ أنَّ التعذيبَ لا يكون إلا في أكبر الكبائرِ الموبقات، فإنَّه يكونُ في غيرِها.

وسببٌ كونِهما كبِيرين أنَّ عدمَ التنزُّهِ من البولِ يلزَمُ منه بطلانُ الصلاةِ، فتركُه كبيرةٌ بلا شك. والمشيُ بالنميمةِ والسعيُ بالفسادِ من أقبحِ القبائحِ. ووضعُه صلى الله عليه وسلم الجَريدتين على القبرِ محمولٌ على أنَّه صلى الله عليه وسلم  سألَ الشفاعةَ لهما فأُجِيبتْ شفاعتُه صلى الله عليه وسلم بالتخفيفِ عنهما إلى أن يَيْبسَا".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: " «أكثرُ عذابِ القبرِ في البولِ» " ([5]).

وعن عبد الرحمن بن حسَنَةٍ رضي الله عنه  قال: «خرج علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم  وفي يده كهيئةِ الدَّرقَةِ، قال: فوضَعها، ثم جلسَ، فبالَ إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضُ القوم: انظروا إليه يبولُ كما تبولُ المرأةُ. قال: فسمِعَه النبي صلى الله عليه وسلم  فقال: "ويحكَ أما علمْتَ ما أصابَ صاحب بني إسرائيلَ؟ كانوا إذا أصابَهم شيءٌ من البولِ، قرَضوه بالمقاريضِ فنهاهم؛ فعُذِّب في قبرِه» " ([6]).

قال العلماء ([7]): كان من شأنِ العربِ البولُ قائمًا، فلمَّا قامَ النبيُّ فبالَ جالسًا، واستترَ إلى الدرَقةِ؛ كرِهوا ذلك، وزعموا أنَّ شهامة الرجلِ لا تقتضي السِّتْرَ، ولا أن يبُولَ جالسًا، فوبَّخهم صلى الله عليه وسلم وهدَّدهم، وذكَّرهم بأنَّ بني إسرائيل كانوا يقطَعون الموضعَ الذي يُصيبُه البولُ؛ لأنه يظهر والله أعلم ما كان يجوزُ لهم أن يُطَهِّروا موضعَ النجاسةِ بالماءِ، وإنما التطهيرُ في دينِهم كان بقطْعِ المتنجس، فنهاهم رجلٌ منهم عن هذا، وقال: إنَّ هذا تكلُّفٌ شديدٌ فاتركوه؛ فعُذِّبَ في قبرِه بسبب هذا.

فحذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم  أصحابَه من هذا، وكأنه صلى الله عليه وسلم  قال: لا تستثقِلوا ما أبيُّنه لكم من الأحكامِ فعلًا أو قولًا، ولو كان على خلافِ عاداتِكم في الجاهليةِ، كما استثقل صاحبُ بني إسرائيل، وإلا فيُخْشَى أن يُصيبَكم مثل ما أصابه.

وقال بعض العلماء: كان هذا المتكلمُ منافقًا، وقال بعضهم: بل النظرُ في الرواياتِ يُرجِّحُ أنه كان مؤمنًا، إلا أنه قال ذلك تعجُّبًا لِمَا رآه مخالفًا لما عليه عادتُهم في الجاهلية، وكانوا قريبَ العهد بها. قلت: وهو الأصح؛ فقد حاء في رواية أبي داود: "انطلقْتُ أنا وعمرو بن العاص إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم  فخرَجَ ومعه درَقَةٌ ثم استترَ بها، ثم بالَ، فقلنا: انظرُوا إليه يبولُ كما تبولُ المرأةُ؟" وفي رواية الحاكم: "انطلقتُ أنا وعمرو بن العاص، فخرج علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم  وبيدِه درَقةٌ أو شبيهٌ بالدرقة، فاستترَ بها، فبالَ وهو جالسٌ، فقلت لصاحبي: ألا ترى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم  كيف يبولُ كما تبولُ المرأةُ؟".

قالوا: والحديث يدل على التنزه من البولِ؛ فإنَّ الظاهرَ أنهم استنكروا بولَه  صلى الله عليه وسلم  قاعدًا، فأخبرهم أنه لأجل التَّنزُّه عن البولِ، فإنَّ البائلَ قائمًا قد لا يَسلَمُ من رشاشِ بولِه.

واعلم أنَّه لا يجوزُ لك أن تبالِغ في التنزُّه من البولِ حتى تكونَ موسوسًا، فإن بعضَ الناسِ قد يصِلُ به الوسواسُ إلى أن يظَلَّ ساعةً في الحمامِ يبولُ، ولو تخلَّصَ من الوسواسِ ما أخذَ بولُه من وقتِه أكثر من بضعَ دقائقَ، فاعلم أنَّ خيرَ الأمورِ الوسط، فلا تفريطَ ولا إفراط.

8- مشهد الذي يأمرُ بالبرِّ وينسى نفسَه:

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه  قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مررْتُ ليلةَ أُسرِيَ بي على قومٍ تُقرَضُ شِفاهُهم بمقاريضَ من نارٍ. قال: قلت: من هؤلاء؟ قالوا: خطباءٌ من أهل الدنيا مِمَّن كانوا يأمُرون الناسَ بالبرِّ، ويَنسَونَ أنفسَهم، وهم يتلون الكتابَ، أفلا يَعقِلون» " ([8]).

قلت: لا يلَزمُ في المعروفِ أنْ يعملَ به العبدُ إن كان مُسْتَحبًّا، فقد آمُرُ النَّاسَ بصيامٍ مُستَحَبٍّ ولا يلزمُنِي الصَّوْمُ بذلك. وإنما يُحْمَلُ هذا الوعيد - والله أعلم - على مَنْ كان يأمُرُ بالواجبَاتِ ولا يأتِيهَا إصْرَارا وإعرَاضًا، أو كانَ ينهَى عن المُحَرَّماتِ، ويأتيها تهَاوُنًا واستخفَافًا.

وإنما كان عذابُ هؤلاءِ بتقطيعِ شفاههم لأنهم عصَوا الله بها؛ فخطبُوا في الناسِ يدعونهم إلى طاعةِ الله تعالى، وينهونهم عن معصيةِ الله، ولم يفعلُوا بما قالوا استخفافًا واستهزاءً. فأما من كان يأمر الناسَ بالمعروفِ ويجتهدُ في فعلِه، لكن همتَه تقصُرُ به فيضعفُ عن فعلِ بعض ما أمرَ الناسَ به، أو كان ينهى الناسَ عن معصيةِ الله تعالى، ويبذل وُسعَه في البعد عما حرَّم الله وسوله صلى الله عليه وسلم ، لكنَّ قدمَه تزِلُّ، فتضعُفُ نفسُه، ويقَعُ في بعضِ ما نهى الناسَ عنه، وهو نادمٌ على ذنبه، مستغفِر ربَّه، تائبٌ إليه؛ فهذا لا يدخلُ في هذا الوعيدِ، والله أعلم.

9- مشهد المُفطِرُ في رمضان من غيرِ عذرٍ:

عن أبي أمامة الباهليّ رضي الله عنه  قالَ: سمعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم  يقولُ: " «بينا أنا نائمٌ إذ أتاني رجلانِ، فأخذا بضَبْعِي، فأتَيَا بي جبَلًا وعْرَا، فقالَا: اصعَدْ. فقلت: إني لا أطيقُه. فقالا: إنَّا سنُسَهِّلُه لك. فصعَدْتُ حتى إذا كنت في سَواء الجبلِ إذا بأصواتٍ شديدةٍ، قلت: ما هذه الأصواتُ؟ قالوا: هذا عُوَاءُ أهلِ النارِ. ثم انطلقَ بي، فإذا أنا بقومٍ مُعَلَّقِين بعَراقِيبِهم، مُشَقَّقةٍ أشداقُهم، تسِيلُ أشداقُهم دمًا، قال: قلت: من هؤلاءِ؟ قال: هؤلاءِ الذين يُفطِرونَ قبل تَحِلَّةِ صومِهم. ثم انطلقَ فإذا بقومٍ أشدِّ شيءٍ انتفاخًا، وأنتنِه ريحًا، وأسوأِه منظرًا، فقلت: من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء قتْلى الكفارِ. ثم انطلقَ بي فإذا بقومٍ أشدِّ انتفاخًا وأنتنِه ريحًا، كأنَّ ريحَهُمُ المراحِيض، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزَّانون والزَّواني. ثم انطلقَ بي، فإذا أنا بنساءٍ تنهَشُ ثديَهُنَّ الحيَّاتُ، قلت: ما بالُ هؤلاءِ؟ قال: هؤلاءِ يمنعْنَ أولادَهن ألبانَهن. ثم انطلقَ بي، فإذا أنا بغِلمان يلعبَونَ بين نهرين، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذرارِي المؤمنين. ثم شرَفَ شرَفًا، فإذا أنا بنفرٍ ثلاثةٍ يشربون من خمرٍ لهم، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء جعفرٌ، وزيدٌ، وابنُ رواحة. ثم شرَفني شرفًا آخر، فإذا أنا بنفرٍ ثلاثةٍ، قلت: من هؤلاء؟ قال: هذا إبراهيمُ، وموسى، وعيسى، وهم ينظُرونِي» " ([9]).

فهذه عقوبةُ الذي يُفطِرُ في رمضان، يُعَلَّقُ من عُرقوبة، وهو وتَرٌ في القدمِ، قد تقطَّعَ فمُه، وهو يسيلُ دمًا، جزاءً وفاقًا. وكما أنهم أفطَروا قبل تحلَّةِ صومِهم في الغالبِ بالأكلِ والشُّربِ بأفواهِهم، فإنهم يُعَذَّبون في تلك الأفواه التي عصَوا الله بها.

10- مشهد الغَالّ في الجهاد:

عن أبي هريرة رضي الله عنه  قالَ: «افتتحْنا خيبرَ، ولم نغنَمْ ذهبًا ولا فضةً، إنما غنِمْنَا البقرَ والإبلَ والمتاعَ والحَوائطَ، ثم انصرفْنَا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم  إلى وادِي القُرى، ومعه عبدٌ له يُقَالُ له مِدْعَم، أهداه له أحدُ بني الضِّبِابِ. فبينما هو يحُطُّ رَحْلَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم  إذ جاءَه سهمٌ عائِرٌ، حتى أصابَ ذلك العبدَ، فقال الناسُ: هنيئًا له الشهادةَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بل، والذي نفسي بيدِه، إنَّ الشَّمْلَةَ التي أصابَها يومَ خيبرَ من المغانمِ، لم تُصبْها المقاسِمُ، لتشتَعِلُ عليه نارًا". فجاءَ رجلٌ حين سمِعَ ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم  بشِراكٍ أو بشِرَاكَيْن، فقال: هذا شيءٌ كنتُ أصبتُه، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : "شِراكٌ - أو شِراكان - من نارٍ» " ([10]).

قلت: الغُلُولُ في أصلِ معناه أخذُ شيءٍ من الغنيمةِ في الجهادِ قبلَ القِسْمة، لكنَّه ليس قَاصِرًا على هذا فحسب، بلْ من أخذَ شيئًا مِنْ بَيْتِ مَالِ المسلمين وَمن الزَّكَاةِ فهو غالٌّ أيضًا. والهدايا التي تُهْدَى إلى العُمَّالِ والولاةِ وموظَّفِي الدَّولةِ بغرضِ التَّقَرُّبِ منهم لإحقاقِ باطلٍ أو إبطَالِ حقِّ هي من الغُلُولِ الذي يحرُمُ أخذُه، ومن الرِّشَى التي يحْرُمُ إعطَاؤُها. لكنَّ يظهر لي والله أعلم أنَّ الذي يُتوَعَّد فاعلُه بالعذابِ في القبرِ هو الغلولُ من الغنيمةِ في الجهادِ؛ لأنَّ العذابَ ورد فيمن غلَّ في الجهاد كما ترى.


([1]) أخرجه البخاري (6052)، ومسلم (292). قال النووي رحمه الله (3/ 201): وأما قول النبي r: "لا يستتِرُ من بولِه": فروي ثلاث روايات؛ "يستتر"، و "يستَنْزِه"، و "يستبرِئ"، وكلها صحيحةٌ، ومعناها لا يتجنَّبُه، ولا يتحرَّزُ منه.

([2]) البخاري (6055).

([3]) إسناده صحيح: أخرجه النسائي، (2068، 2069).

([4]) "شرح النووي على مسلم" (3/ 201).

([5]) إسناده صحيح: إسناده صحيح: أخرجه أحمد (2/ 326)، وابن ماجه (348). وقد صححه بعض أهل العلم، وأعله آخرون، والظاهر لي صحته، والله أعلم.

([6]) صحيح: أخرجه أبو داود (22)، والنسائي (30)، وابن ماجه (346)، وأحمد (4/ 196)، والحاكم (1/ 184). "الدَّرقَة": التُّرسُ إذا كان من جلودٍ ليس فيه خشبٌ ولا عصَبٌ. "فوضَعها": جعلها حائلًا بينه وبين الناس. "ويحك": كلمة ترحم وتهديد. "قرَضوه": قطعوه. "المقَاريض": آلةُ القطع.

([7]) "شرح المشكاة" للطيبي (3/ 783)، "حاشية السندي على ابن ماجه" (1/ 144)، "حاشية السيوطي على النسائي" (1/ 27، 28)، "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (1/ 393)، "التحبير لإيضاح معاني التيسير" (7/ 123)، "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" (1/ 493)

([8]) صحيح بطرقه: أخرجه أحمد (3/ 120،180، 231)، وابن حبان (53)، وأبو يعلى (4069)، وفي طرق فيها مقال يسير، يصح بمجموعها إن شاء الله. "تُقرَضُ": تقطع

([9]) إسناده صحيح: أخرجه ابن حبان (7491) وابن خزيمة (1986)، والحاكم (1/ 430). "عُواء": صياح. "العُرقوب": من الإنسان وتَرٌ غليظٌ فوق العَقِب، والعَقِبُ: عظمٌ مُؤخَّرَ القدمِ. "أشداقُهم": الشِّدق": جانبُ الفمِ.

([10]) أخرجه البخاري (4234)، ومسلم (115).