فوائد من طريق الهجرتين (1-3)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
فوائد من طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم
- التصنيفات: طلب العلم -
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فمن كتب العلامة ابن القيم رحمه الله المهمة: كتاب " طريق الهجرتين وباب السعادتين " فهو يتكلم عن قواعد السلوك والسير إلى الله عز وجل, والمقصود بالهجرتين: هجرة العبد إلى الله سبحانه بالمحبة والعبودية والتوكل والإنابة والخوف والرجاء, وهجرته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمتابعته والتأسي به في كل شؤونه, والاقتداء به والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه.
والمقصود بالسعادتين: سعادة العبد في الدارين: الدنيا والآخرة.
وقد اشتمل الكتاب على فوائد, انتقيت شيئاً منها, أسأل أن ينفع بها ويبارك بها
كلَّ من تعلق بشيء غير الله انقطع به أحوج ما كان إليه:
كلَّ من تعلق بشيء غير الله انقطع به أحوج ما كان إليه كما قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}[البقرة:166] فالأسباب التي تقطعت بهم هي العلائق التي كانت بغير الله ولغير الله..فكلَّ عمل باطل إلا ما أريد به وجهه وكل سعي لغيره فباطل
وهذا كما يشاهده الناس في الدنيا من اضمحلال السعي والعمل والكدّ والخدمة التي يفعلها العبد لمتولٍّ أو أمير أو صاحب منصب, فإذا زال ذلك الذي عمل له وعُدِمَ ضلّ ذلك العمل, وبطل ذلك السعي, ولم يبق في يده سوى الحرمان.ولهذا كان المشرك من أخسر الناس صفقةً وأغبنهم يوم معاده, فإنه يحال على مفلس كلَّ الإفلاس بل على عدم, والموحّد حوالته على المليء الكريم, فيا بُعد ما بين الحوالتين.
من ملك المال فعوفي من رؤية الملكة لم يتلوث بأوساخ المال:
وجود المال في يد الفقير لا يقدح في فقره, إنما يقدح في فقره رؤيته لملكته, فمن عوفي من رؤية الملكة لم يتلوث باطنه بأوساخ المال وتعبه وتدبيره واختياره, وكان كالخازن لسيده الذي ينفذ أوامره في ماله, فهذا لو كان بيده من المال مثل جبال الدنيا لم يضره.
ومن لم يُعافَ من ذك ادعت نفسه الملكة, فتعلقت به النفس تعلقها بالشيء المحبوب المعشوق, فهو أكبر همّه ومبلغ علمه, إن أعطى رضي, وإن منع سخط, فهو عبد الدينار والدرهم, يصبح مهموماً به, ويمسي كذلك, فيبيت مضاجعاً له, تفرح نفسه إذا ازداد, وتحزن وتأسف إذا فات منه شيء, بل يكاد يتلف إذا توهمت نفسه الفقر, وقد يؤثر الموت على الفقر.
والأول مستغن بمولاه المالك الحي الذي بيده خزائن السموات والأرض, وإذا أصاب المال الذي في يده نائبة رأى أن المالك الحق هو الذي أصاب مال نفسه, فما للعبد وما للجزع والهلع؟ فله الحكم في ماله: إن شاء أبقاه وإن شاء ذهب به وأفناه فلا يتهم مولاه في تصرفه في ملكه, ويرى تدبيره هو موجب الحكمة, فليس لقلبه بالمال تعلق, ولا له به اكتراث, لصعوده عنه وارتفاع همته إلى المالك الحق, فهو غني به وبحبه ومعرفته وقربه منه عن كل ما سواه, وهو فقير إليه دون ما سواه, فهذا البريء عن رؤية الملكة الموجبة للطغيان, كما قال تعالى: { كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى }[العلق:6-7] ولم يقل: ( إن استغنى ) بل جعل الطغيان ناشئاً عن رؤيته غنى نفسه...والمقصود أن الاستغناء عن الله سببُ هلاك العبد وتيسيره لكل عسرى, ورؤيته غنى نفسه سببُ طغيانه, وكلاهما منافٍ للفقر والعبودية.
الغني العالي:
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( «ليس الغنى عن كثرة العرض, ولكن الغنى غنى النفس» ) ومتى استغنت النفس استغنى القلب..وفي القلب فاقة عظيمة وضرورة تامة وحاجة شديدة لا يسدها إلا فوزه بحصول الغني الحميد الذي إن حصل للعبد حصل له كل شيء, وإن فاته فاته كل شيء, فكما أنه سبحانه الغنيُّ على الحقيقة ولا غنيَّ سواه, فالغنى به هو الغنى في الحقيقة ولا غنى بغيره ألبتة, فمن لم يستغن به عمَّا سواه تقطعت نفسه على السوى حسرات, ومن استغنى به زالت عنه كلُّ حسرة, وحضره كل سرور وفرح, والله المستعان.
غنى النفس:
قال رحمه الله: غنى النفس...استقامتها على الأمر الديني الذي يحبه الله ويرضاه, وتجنبها لمناهيه التي يسخطها ويُبغضها, وأن تكون هذه الاستقامة على الفعل والترك تعظيماً لله وأمره, وإيماناً به, واحتساباً لثوابه, وخشية من عقابه, لا طلباً لتعظيم المخلوقين له ومدحهم, وهرباً من ذمهم وازدرائهم, وطلباً للجاه والمنزلة عندهم, فإن هذا دليل على غاية الفقر من الله, والبعد منه, وأنه أفقر شيء إلى المخلوق.
فسلامة النفس من ذك واتصافها بضده دليل غناها, لأنها إذا أذعنت منقادةً لأمر الله طوعاً واختياراً ومحبةً وإيماناً واحتساباً, بحيث تصير لذتها وراحتها ونعيمها وسرورها في القيام بعبوديته, كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( يا بلال أرحنا بالصلاة ) وقال صلى الله عليه وسلم: ( «حُبِّب إلى من دنياكم النساءُ والطيبُ, وجعلت قُرَّةُ عيني في الصلاة» )
الفقير المتخلى عن الدنيا تعففاً:
الفقير حقاً..المتخلى من الدنيا تظرفاً, والمتجافى عنها تعففاً, لا يستغنى بها تكثراً, ولا يستكثر منها تملكاً, وإن كان مالكاً بهذا الشرط لم تضره, بل هو فقير غناه في فقره, وغنى فقره في غناه.
ومن نعته أنه يعمل على موافقة الله في الصبر والرضى والتوكل والإنابة, فهو عامل على مراد الله منه لا على موافقة هواه.
خاضع, متواضع, سليم القلب, سلِس القيادة للحق, سريع القلب إلى ذكر الله, بريء من الدعاوى لا يدعى بلسانه ولا بقلبه ولا بحاله, زاهد في كل ما سوى الله, راغب في كلِّ ما يقرب إلى الله, قريب من الناس, أبعد شيءٍ منهم, يأنس بما يستوحشون منه, ويستوحش مما يأنسون به, متفرد في طريق طلبه, لا تقيده الرسوم, ولا تملكه العوائد, ولا يفرح بموجود, ولا يأسف على مفقود.
من جالسه قرت عينه به, ومن رآه ذكرته رؤيته بالله, قد حمل كلَّه ومؤنته عن الناس, واحتمل أذاهم, وكف أذاه عنهم, وبذل لهم نصيحته, وسبَّل لهم عرضة ونفسه لا معاوضة ولا لذلة وعجز, لا يدخل فيما لا يعنيه, ولا يبخل بما لا ينقصه.
وصفه الصدق والعفة والإيثار والتواضع والحلم والوقار والاحتمال.
لا يتوقع لما يبذله للناس منهم عوضاً, ولا مدحه, لا يعاتب, ولا يخاصم, ولا يطالب, ولا يرى له على أحدٍ حقاً, ولا يرى له على أحدٍ فضلاً.
مقبل على شأنه, مكرم لإخوانه, بخيل بزمانه, حافظ للسانه, مسافر في ليله ونهاره, ويقظته ومنامه, لا يضع عصا السير عن عاتقه حتى يصل إلى مطلبه.
قاعدة شريفة عظيمة القدر: حاجة العبد إليها أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب والنفس بل وإلى الروح التي بين جنبيه:
الله سبحانه وتعالى هو المطلوب المعبود المحبوب وحده لا شريك له, وهو وحده المعين للعبد على حصول مطلوبه, فلا معبود سواه, ولا معين على المطلوب غيره, وما سواه هو المكروه المطلوبُ بُعدُه, وهو المعينُ على دفعه.
الله سبحانه خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه ومحبته والإخلاص له, فبذكره تطمئن قلوبهم, وبرؤيته في الآخرة تقرُّ عيونهم, ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحبَّ إليهم من النظر إليه, ولا شيء يعطيهم في الدنيا أحبَّ إليهم من الإيمان به, ومحبتهم له, ومعرفتهم به.
العبد لا فرح له أعظم من فرحه بوجود ربه, وأنسِه به, وطاعته له, وإقباله عليه, وطمأنينته بذكره, وعمارة قلبه بمعرفته, والشوق إلى لقائه, فليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه, ويطمئن به, ويتنعم بالتوجه إليه إلا الله سبحانه, ومن عبد غيره وأحبه – وإن حصل له نوع من اللذة والمودة والسكون إليه والفرح والسرور بوجوده- ففساده به ومضرته وعطبه أعظم من فساد أكل الطعام المسموم اللذيذ الشهي الذي هو عذب في مبدئه, وعذاب في نهايته.
فحاجة العبد إلى أن يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً في محبته, ولا في خوفه, ولا في رجائه, ولا في التوكل عليه, ولا في العمل له, ولا في الحلف به, ولا في النذر له, ولا في الخضوع له, ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب أعظم من حاجة الجسد إلى روحه, والعين إلى نورها, بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به.