تأملات : في سورة هود

هناك تسلسلٌ منطقي في عرض الأفكار التي وردت في السورة؛ فقد مهَّدَ الله سبحانه  للسورة ببيان استحقاق الله بالعبادة ،و عاقبة كل من الشقى والسعيد ، ثم إيراد  بعض القصص النبوي  ، مشفوعًا ببيانٍ بعقاب المسيء ، وبيان خواتيمهم

  • التصنيفات: التفسير -

 

د.إيمان أنور

            نزلت سورة هود لكي تخوض معترك أشد فترات نشر الدعوة الإسلامية ضراوة ، ولكي تواجه عنفوان صعاب وتحديات نفسية وشعورية عاشها الرسول في تلك الآونة على أَثَر  إيذاء قريشِ للرسول ومن تابعه ، واشتدادِ الحصار على من آمن ، ووفاة كلٍ من السيدةِ خديجة  زوجةِ الرسول ، وظهيرِه في نشر الدعوة ، ثم وفاة عمه أبي طالب : داعمِه ومؤازرِه ، ثم  توقف دخول أناسٍ جددٍ في الدعوة  ، حتى اضطر الرسولُ إلى الخروج إلى الطائف ؛ بُغيةَ رفْد الدعوة وإمدادها بدماءٍ جديدة ، والتي لم تسفر أيضا إلا عن مزيد من الألم ، وغير قليل من الانكسار..

            إذن سورة هود هي سورةُ  المعاضدة في وقت الشدة ، والمساندة والتأييد في وقت المحن ، ورسم الطريق لبلوغ الأهداف ، والتحدي لتجاوز الصعاب، هي سورة  التثبيت ، والإصرار على المضي ، مع تيسير  وسائل الوصول ، وبيان طرق النجاح التي ينبغي لكل مجتهد أن يسلكها .

           وقد نزلت سورة هود - والتي بلغت 123 آية ،( باستثناء الأيات 12-17- 114) في مكة ؛ لتعبر عن فكرة واحدة  من خلال  تلوينات فكرية تعاونت جميعًا على تحقيق هدف واحد تمثل في الآيات (112- 113 ) داعيًا الله فيها إلى:  الاستقامة /عدم اللجوء إلى العنف/عدم اليأس أوالتساهل أوالركون إلى القوى المناوئة مما يؤدي إلى تميُّع الأهداف ، و ضياع الرسالة .

            وقد أسند الله تعالى خطابه  من خلال هذه السورة –بمجموعة من الحقائق  والأسانيد  والمرتكزات تهدف إلى دعم الرسول فكريًا ونفسيًا ، وإمداده بما يعينه على متابعة دربه ، وتجاوز صعابه ، فكان خطابة كالتالي  :

- القرآن حق لا شك فيه " { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} ، و لم يَخلق اللهُ الناس إلا للعبادة ( {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)} " ولن يكون الرجوع في النهاية إلا إلى الله  .... ( {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)} ؛ فإن كنتَ تجد مشقة في التبليغ ، وتعاني صعابًا فهذا أمر طبعي ، لأنها  رسالة عظيمة . أفلا  يستحق هذا منك بعدُ أن تتقوى ، وأن تحتمل ، وأن تكابد أنت أيضًا من أجلها ؟

- ما من مخلوق إلا وهو في قبضة الرحمن ، يعطيه ويمنعه ، ويميته ويحييه ، فلماذا لا تمضي أنت في رسالتك ، وتترك الهداية لله ، فإن استجابوا فبها ونِعْم ، و إن لم يهتدوا فما تلك بمشيئتك . ( {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}

- جُبِل كثير من الناس على التمرد  ، وضيقِ الأفق ، والمحدوديةِ ، والقصور ِالفكري ؛ فإن فَرِح  مرة  ، اغتر  و ظنه الأبد ، وإن  حزن حينًا ، كفر بما هو آت . والحقيقة أنه لا حياة حقيقية إلا بالصبر على كليهما ؛ فالفرح والحزن كلاهما بلاء من الله ، وهما وجهان لشيءٍ واحد ، فلا تقوم الحياة إلا بهما . ولا تستمر إلا  بتوازيهما  .

- منحكَ الله معجزةً  لم يمنحها الله أحدًا من قبل ، فقد أعطاك القرآن - كلام الله المتين-  ولو اَخْتبرت أحدَهم بطلب كتابة ولو عشر آيات منه ، فلن يكون نتيجة ذلك  إلا الفشل الذريع ، هذا على معرفتهم العربية ، وإتقانهم لدروبها  .

-  نزل القرآن على قريش  والرسول بين ظَهْرانيهم ؛ فهم يعرفون الدعوة جيدًا ، بل و تابعوها ، كما أن ثَمةَ إشارة إلى  رسالة سيدنا محمد والدعوة الإسلامية  وردت في   كتاب التوراة ، والذي نزل على سيدنا موسى ، فلمَ الإنكار ، وفيمَ التجاهل ؟

- حفلت قصصُ الرسل والأنبياء السابقين عليكَ بالأمثلة على ما كابده هؤلاء في سبيل نشر دعواتهم من ألم وكمد ، كما أشارت القصص جميعها إلى ما تعرضوا له من إخفاقات وإحباطات حتىى بلَّغوا رسالاتهم ، فلمْ تكن طرقهم أبدًا معبدة ، أو مفروشة بالورود ، فعليكَ الاعتبار  !

- للإنسانِ الحقُ في الاختيار ، وهو أمر مكفول له طالما أنه سيحاسب عليه ، وليس في مُكنتنا أن نرغم من وهبناه عقلاَ على قبول ما يتنافى معه . فهذا  مبدأ إنساني أصيل في العقيدة . فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر . إذن فابذل قصارى جهدك ، ودع الخواتيم  لغيرك .

وبتأمل الخطاب السابق ، ومتابعة السورة  وما ورد  فيها من أفكار ، فقد أمكننا  أن نستقي منها ما يلي :

- تحلقت السورة حول فكرة مركزية واحدة ألا وهي :

أولا : ضرورة  الاستقامة عند تحقيق الأهداف.

 ثانيا : عدم التغول على الآخرين أو إجهاض حقوقهم .

ثالثا:ـ  عدم  الركون إلى  الخصوم أو التماهي معهم (إذا لم يكتب لك بلوغ هدفك ) .

أما  الأفكار  الجزئية  الأخرى  التي وردت في السورة  فقد  كانت بمثابة تلوينات لتحقيق تلك الفكرة الكلية ، وخدمتها ودعمها .

كثيرةٌ هي السورالتي بدأت بالحروف المقطعة ،على اختلاف صورِها وأشكالها ، وما ذلك إلا تعظيما للكلمة ، وبيانًا لقيمتها ، فهي التي تُعَلِّم ، وهي التي تنمي ، وبها يتحققُ الإيمان ، وبها نتجاوزُ  الكفر  ، وبفضلها  يسمو  فكر الإنسان ، وبواسطتها ينمو  ويتطور ، وبدونها يتراجع ويتقهقر . فهل نحن بحاجة في وقتنا هذا إلى مراجعة أنفسنا في إدراك قيمة الكلمة والذود عنها ،  واستيعاب دورها في بناء الحضارات وإنهاض الشعوب ؟!

- قدم الله نفسه من خلال الآيات لمخلوقاته ، مبينا دواعي استحقاقه للعبادة ، مُروِّجًا  لدواعي الإيمان به ،  مُظهرًا عظمته وأفضاله الجليلة على الكون كله , وهذا درس عظيم في ضرورة أن يتعلم الإنسان  كيف يُروِّج لأفكاره ، وكيف ينصر دعوته ويَزُود عنها ، وكيف ينبغي عليه أن يسعى لإيصالها  متى كانت في طريق الحق ، وعلى دربه وهدايته .

- قد يضيق الإنسان بالقيل والقال ، وقد يضحي برسالته  نتيجة لذلك ، وهذا من الأخطاء الجسيمة التي قد يقع فيها الإنسان . فقد جاء قوله تعالى : " {فاستقم كما أمرت} ....." (...112)" لكي يعلمنا ضرورة الاستمساك برسالتنا ، والإصرار ِعلى المضي فيها، والعملِ على تحقيقها ،مما يعني أن في ذلك دعمًا لديننا ، واستبقاءً لدنيانا .

- للنواميس الاجتماعية  سطوة وسلطان  ينبغي الانتباه إليها ؛ فقد كان لها أثر كبير في رفض الناس لكل ما هو جديد ، والتمسك بما درجوا عليه ، إيثارًا للسلامة مع المجتمع ، وتجنبًا لما يمكن أن يفقدوه لو جانبوا قيمه ، أو  حالوا دون مبادئه .  وتلك آفة المنافقين الذين  يلزمهم  مُراءاتِ من حولهم  ، وملمح الضعفاء العاجزين عن حماية حق ، أوالتصدي  لباطل .  

- الصبر صبران ، صبر عند المنع ( { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9)} ،وصبر عند المنح " { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)}   وقد عظَّم الله قيمة الصبر  في مواضع كثيرة ، كما قدمه على العمل الصالح ؛ وذلك لمشقته ، وعظيم آثاره سواء على الفرد أوالمجتمع ( {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (11)} ومن هنا نرى ضرورة أن يراجع الإنسان نفسه ، وأن يعيد جدولة قيمه بحيث يدرج  تلك القيمة في مكانها الصحيح من حياته .

- الأفكار العظيمة والرسائل الكبرى لا يؤمن بها إلا العظماء : نفسيًا وفكريًا وقيميًا وأخلاقيًا ، فإن كنتَ صاحب رسالة كبرى ، فانثر بِذْرَتك ، وتعهدها ، ولا تتوقف كثيرًا عند جَنْيها ، فقد لا يتسنى لك حصاد ما زرعتْ ، أو جني ما بذرت  " {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} " (17) .

- عقد المقارنات " {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)} و ضرب الأمثلة (عاد / هود ، ثمود / صالح ،، لوط ،  شعيب / نوح / إبراهيم .......إلخ )، و الحواريات القرآنية (مشهد وفود قوم لوط ليعتدوا على ضيوفه( الملائكة) وتصدي سيدنا لوط لهم) ، أدوات بلاغية قرآنية بيانية قادرة على التوضيح والبيان وإنارة السبيل ،ومن ثم التأثير في المتلقي ؛ لذا فهي وسائل  هامة ينبغي الرجوع إليها عند دعم قيمة ، أو الحث على هدف .

- القيم المجتمعية  قيم شكلية ، تعتد بالواجهة ، ولا تتجاوزها إلى ما هو  أعظم منها  . وقد مثلت السورة ذلك من خلال رفض قوم نوح لرسالته أولاً : لأنه من البشر ، ثانيًا : إيمان كثير من أراذل الناس وعامتهم  به" {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا } ,,,(27)  ، وهذا هو سمت الطغاة في التعامل مع ما يكرهونه . "التقزيم "  .

- لا شيء يناله الإنسان من الله عن استحقاق ، إنما هو  فضل من الله ، ورحمة منه ، وفَيء على عباده . تلك عقيدة ينبغي أن تُزرع في قلب كل مسلم ، فلم يُنجِّ الله صالحًا ومن آمن معه لأنهم مستحقون لذلك ،لكنها كانت رحمة الله به وبقومه " { فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} .... (66)، ولم يبشر  امرأة إبراهيم بإسحاق لأنها أهلٌ لذلك " { قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ} ....... (73)، كما لم يُنَجِّ شعيبا وقومه إلا برحمته تلك " {لَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا}   " 94 . تلك سنة الله في خلقه ، فاذكرها والتزم  .

-   ثمة ملاءمة - في السورة - بين سلوك الناس ، وبين ما ينُزِل الله بهم من عقاب ؛  فقد كانت الصيحةُ على قوم صالح ؛ لأنهم لم يسمعوا كلامه في ترك الناقة  ، كما كان العقاب نفسُه على قوم شعيب لأنهم لم يسمعوا لنصحه في عدم التطفيف ، أما قوم لوط فقد خرجو ا على  شرع الله بمثليتهم ؛ فكان عقابهم إبادة فوقية بسجيلٍ منضود .

- كثيرا ما يكون الغِنَى سببًا للعقاب . وقد اقترن المترفون الأغنياء في سورة هو د بالظلم لآثامهم ،  كما ورد ذلك في كثير  من السور . لقوله تعالى {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)} ، فلا تستطل .

- هناك تسلسلٌ منطقي في عرض الأفكار التي وردت في السورة؛ فقد مهَّدَ الله سبحانه  للسورة ببيان استحقاق الله بالعبادة ،و عاقبة كل من الشقى والسعيد ، ثم إيراد  بعض القصص النبوي  ، مشفوعًا ببيانٍ بعقاب المسيء ، وبيان خواتيمهم  ، ثم ذِكْر  الهدف الرئيسي من السورة  إلى الرسول - قائد السرب –  ؛لكي يقتدي به من بعده ، إلى ختام  ينتهي بأن الأمور كلها بيد الله  " {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)}

- تأتي القيمة الكبرى التي يدعمها الله - من خلال قرآنه كاملاُ - هي إقرار مبد أ احترام الإنسان ، وإقرار حقه في اختيار العقيدة التي يرتئيها ، وهو حق مكفول للجميع . لقول الله تعالى  " {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)}

            وأخيرا فقد  أثر  عن الرسول قوله : " لقد شيبتني هود" وما ذلك – كما نرى - إلا  للخطاب القوي الذي أطلقه الله في السورة ، والحمية التي أثارها في نفس رسوله ، بما بثه في الآيات من  بيان لحقائق مفصلية ، وذكر  لقصص وحكايات جمة ، إلى ذكر واضح للأهداف والمبادئ التي ينبغي أن يتمثلها ، مع إشارة إلى الوسائل التي ينبغي أن يستخدمها في سبيل بلوغ أهدافه ؛ فكان الخطاب شديد الوقع ، سريعًا ، ملحًا على الفكرة المركزية ( أكمل رسالتك ) متلاحقًا ، وكلها كانت أمورًا  ضرورية كي  يشحن بها الرسول الكريم حتى يذود  عن نفسه الحزينة المثقلة بإلإحباطات والتخاذل ، وحتى يتمكن من شخذ هممه ، وبالتالي استثارة دافعيته للمتابعة والاستمرار  ، كما وجدنا خطابًا محتدمًا بالقوة والعنفوان من سيدنا هود الداعية الذي لم يَلن مع قومه ، بل دعى قومه ، شاهرًا سلاحه في وجه الباطل ، صادحًا بالحق ماضيا  فيه ، لا يلو ي على أحد  .

ولله الفضل والمنة، والحمد لله رب العالمين

د. إيمان أنور