فوائد من إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان لابن القيم (2-4)

فهد بن عبد العزيز الشويرخ

وقد يشعر بمرضه, ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها, فيُؤثر بقاء ألمه على مشقة الدواء, فإن دواءه في مخالفة الهوى, وذلك أصعب شيء على النفس, وليس لها أنفع منه.

  • التصنيفات: طلب العلم -

علامات مرض القلب وصحته:

كل عضو من أعضاء البدن خلق لفعل خاص به, كماله في حصول ذلك الفعل منه, ومرضه أن يتعذر عليه الفعل الذي خلق له, حتى لا يصدر منه, أو يصدر مع نوع من الاضطراب, فمرض اليد: أن يتعذر عليها البطش, ومرض العين: أن يتعذر عليها النظر والرؤية, ومرض اللسان: أن يتعذر عليه النطق, ومرض البدن أن يتعذر عليه حركته الطبيعية أو يضعف, ومرض القلب: أن يتعذر عليه ما خلق له من المعرفة بالله, ومحبته, والشوق إلى لقائه, والإنابة إليه, وإيثار ذلك على كل شهوة.

وقد يمرض القلب ويشتد مرضه, ولا يعرف به صاحبه لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها, بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته, وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح, ولا يُوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة, فإن القلب إذا كان فيه حياة يألم بورود القبيح عليه, ويألم بجهله بالحق بحسب حياته.

وقد يشعر بمرضه, ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها, فيُؤثر بقاء ألمه على مشقة الدواء, فإن دواءه في مخالفة الهوى, وذلك أصعب شيء على النفس, وليس لها أنفع منه.

وتارة يوطن نفسه على الصبر, ثم ينفسخ عزمه, ولا يستمر معه لضعف علمه وبصيرته وصبره...ومتى رجع من الطريق, ولم يتحمل مشقتها, ولاسيما إن عدم الرفيق, واستوحش من الوحدة, وجعل يقول: أين ذهب الناس؟ فلي بهم أسوة.

والبصير الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق ولا من فقده, إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول, { الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّـهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقًا}   [النساء:69] فتفرد العبد في طريق طلبه دليل على صدق الطلب

والمقصود أن من علامات أمراض القلوب عدولها عن الأغذية النافعة الموافقة لها إلى الأغذية الضارة, وعدولها عن دوائها النافع إلى دائها الضار, فهنا أربعة أمور: غذاء نافع, ودواء شاف, وغذاء ضار, وداء مهلك. 

فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي, والقلب المريض بضد ذلك

وأنفع الأغذية غذاء الإيمان وأنفع الأدوية دواء القرآن.

من علامات صحة القلب أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة, ويحل فيها, حتى يبقى كأنه من أهلها وأبنائها, جاء إلى هذه الدار غريباً, يأخذ منها حاجته, ويعود إلى وطنه, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عمر:  «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل, وعُدَّ نفسك من أهل القبور » 

وكلما صح القلب من مرضه ترحل إلى الآخرة, وقرب منها, حتى يصير من أهلها, وكلما مرض القلب واعتل آثر الدنيا واستوطنها, حتى يصير من أهلها.

ومن علامات صحة القلب: أن لا يفتر عن ذكر ربه, ولا يسأم من خدمته, ولا يأنس بغيره, إلا بمن يدله عليه, ويُذكر به, ويذاكره بهذا الأمر...وإذا فاته ورده وجد لفواته ألماً أعظم من تألم الحريص بفوات ماله وفقده.

ومن علامات صحة القلب: أنه لا يزال يضرب على صاحبه, حتى ينيب إلى الله ويخبت إليه, ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه, الذي لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأنس به, فبه يطمئن وإليه يسكن, وإليه يأوي, وبه يفرح, وعليه يتوكل, وبه يثق, وإياه يرجو, وله يخاف, فذكره: قُوتُه وغذاؤه, ومحبته والشوق إليه: حياته ونعيمه ولذته وسروره, والالتفات إلى غيره والتعلق بسواه: داؤه, والرجوع إليه: دواؤه.

ومن علامات صحته: أنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همُّه وغمُّه بالدنيا, واشتد عليه خروجه منها, ووجد فيها راحته ونعيمه, وقُرة عينه وسرور قلبه.

ومنها: أن يكون أشحَّ بوقته أن يذهب ضائعاً من أشد الناس شحاً بماله

ومنها: أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل, فيحرص على الإخلاص فيه, والنصيحة, والمتابعة, والإحسان, ويشهد مع ذلك منة الله عليه فيه, وتقصيره في حق الله.

فهذه ستة مشاهد, لا يشهدها إلا القلب الحيُّ السليم.

وبالجملة فالقلب الصحيح: هو الذي همه كله في الله, حبه كله له, وقصده له, وبدنه له, وأعماله له, ونومه له, ويقظته له, وحديثه والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث, وأفكاره تحوم على مراضيه ومحابه, والخلوة به آثر عنده من الخلطة, إلا حيث تكون الخلطة أحب إليه وأرضى له, قُرةُ عينه به, وطمأنينته وسكونه إليه, فهو كلما وجد من نفسه التفاتاً إلى غيره, تلا عليها: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ *  ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } [الفجر:27-28]

محاسبة النفس:

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا, وقال ميمون بن مهران : لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشدّ محاسبة من الشريك لشريكه, وقال الحسن : إنما خفّ الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا, وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة.

وقد مُثلت النفسُ مع صاحبها بالشريك في المال, فكما أنه لا يتم مقصود الشركة من الربح إلا بالمشارطة على ما يفعل الشريك أولاً, ثم بمطالعة ما يعمل, والإشراف عليه ومراقبته ثانياً, ثم بمحاسبته ثالثاً, ثم بمنعه من الخيانة إن اطلع عليه رابعاً, فكذلك النفس يشارطها أولاً على حفظ الجوارح السبعة التي حفظها هو رأس المال, والربح بعد ذلك, فمن ليس له رأس مال, فكيف يطمع في الربح ؟

وهذه الجوارح السبعة – وهي العين, والأذن الفم, اللسان, الفرج, اليد, الرجل- وهي مركب العطب والنجاة, فمنها عطب من عطب بإهمالها وعدم حفظها, ونجا من نجا بحفظها ومراعاتها, فحفظها أساس كل خير, وإهمالها أساس كل شر,

قال تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور30]

وقال تعالى: {وَلا تَمشِ فِي الأَرضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخرِقَ الأَرضَ وَلَن تَبلُغَ الجِبالَ طولًا } [الإسراء:37] وقال تعالى:  { وَقُل لِعِبادي يَقولُوا الَّتي هِيَ أَحسَنُ} [الإسراء:53] وقال تعالى:   {وَلا تَقفُ ما لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ السَّمعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤادَ كُلُّ أُولـئِكَ كانَ عَنهُ مَسئولًا }[الإسراء:36] 

وقال:   {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب:70] وقال:  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } [الحشر:18]

فإذا شارطها على حفظ هذه الجوارح انتقل منها إلى مطالعتها والإشراف عليها ومراقبتها, فلا يُهملها, فإنه إن أهملها لحظة وقعت في الخيانة ولا بدّ, فإن تمادى على الإهمال تمادت في الخيانة, حتى يذهب رأس المال كله.

ويعينه على هذه المراقبة والمحاسبة معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غداً...وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غداً.

ويعينه عليها أيضاً معرفته أن ربح هذه التجارة سُكنى الفردوس, والنظر إلى وجه الرب سبحانه, وخسارتها دخول النار, والحجاب عن الرب تعالى, فإذا تيقن هذا هان عليه الحساب اليوم.