فوائد من إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان لابن القيم (3-4)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
وإن رأى الغالب عليه قوة الإقدام وعلو الهمة, أخذ يقلل عنده المأمور به, ويُوهمه أنه لا يكفيه, وأنه يحتاج معه إلى مبالغة وزيادة.
- التصنيفات: طلب العلم -
أضرار عدم محاسبة النفس:
أضر ما عليه: الإهمال, وترك المحاسبة, والاسترسال, وتسهيل الأمور, وتمشيتها, فإن هذا يؤول به إلى الهلاك, وهذا حال أهل الغرور يُغمض عينيه عن العواقب, ويمشي الحال, ويتكل على العفو, فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة, وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب, وأنِس بها, وعسر عليه فطامها, ولو حضره رشده لعلم أن الحمية أسهل من الفطام وترك المألوف والمعتاد, وقد دل على وجوب محاسبة النفس قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [ [الحشر:18]
فوائد محاسبة النفس
في محاسبة النفس عدة مصالح:
منها: الاطلاع على عيوبها, ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته, فإذا اطلع على عيبها مقتها في ذات الله.
ومن فوائد محاسبة النفس: أنه يعرف بذلك حق الله عليه, ومن لم يعرف حق الله عليه فإن عبادته لا تكاد تجدي عليه, وهي قليلة المنفعة جداً.
فمن أنفع ما للقلب: النظر في حق الله على العبد, فإن ذلك يورثه مقت نفسه, والإزراء عليها, ويخلصه من العجب ورؤية العمل, ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربه, واليأس من نفسه, وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته, فإن من حقه أن يُطاع ولا يُعصى, وأن يُذكر فلا ينسى, وأن يُشكر فلا يكفر.
فمن نظر في هذا الحق الذي لربه عليه عَلِم عِلمَ اليقين أنه غير مودٍّ له كما ينبغي, وأنه لا يسعه إلا العفو والمغفرة, وأنه إن أُحيل على علمه هلك.
علاج مرض القلب:
هذا الباب من أهم أبواب الكتاب وأعظمها نفعاً, والمتأخرون من أرباب السلوك لم يعتنوا به اعتناءهم بذكر النفس وعيوبها وآفاتها, فإنهم توسعوا في ذلك, وقصروا في هذا الباب, ومن تأمل القرآن والسنة وجد اعتناءهما بذكر الشيطان وكيده ومحاربته أكثر من ذكر النفس, فإن النفس المذمومة ذُكرت في قوله: { إِنَّ النَّفسَ لَأَمّارَةٌ بِالسّوءِ} [يوسف:53]واللوامة في قوله {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } [القيامة:2] وذكرت النفس المذمومة في قوله:{ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [ [النازعات:40] وأما الشيطان فذُكر في عدة مواضع..فتحذير الرب تعالى لعباده منه جاء أكثر من تحذيره من النفس, وهذا هو الذي لا ينبغي غيره, فإن شر النفس وفسادها ينشأ من وسوسته فهي مركبه, وموضع سره, ومحل طاعته,وقد أمر الله سبحانه بالاستعاذة منه عند قراءة القرآن وغير ذلك, وهذا لشدة الحاجة إلى التعوذ منه, ولم يأمر بالاستعاذة من النفس في موضع واحد, وإنما جاءت الاستعاذة من شرها في خطبة الحاجة في قوله: «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا » وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الاستعاذة من الأمرين, في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه, قال: يا رسول الله علمني شيئاً أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت؟ قال: قل: اللهم عالم الغيب والشهادة! فاطر السماوات والأرض! رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت, أعوذ من شر نفسي وشر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوءاً أو أُجرّه إلى مسلم, قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك.
في مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم:
قال تعالى إخباراً عن عدوه إبليس, لما سأله عن امتناعه عن السجود لآدم, واحتجاجه بأنه خير منه, وإخراجه من الجنة, أنه سأله أن ينظره, فأنظره, ثم قال عدو الله: {فَبِما أَغوَيتَني لَأَقعُدَنَّ لَهُم صِراطَكَ المُستَقيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِن بَينِ أَيديهِم وَمِن خَلفِهِم وَعَن أَيمانِهِم وَعَن شَمائِلِهِم وَلا تَجِدُ أَكثَرَهُم شاكِرينَ } [ [الأعراف:16-17] فما من طريق خير إلا والشيطان قاعد عليه, يقطعه على السالك.قال قتادة: أتاك الشيطان يا ابن آدم من كل وجه, غير أنه لم يأتك من فوقك, لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله.
وقال تعالى: {يعدهم ويُمنيهم } فوعده ما يصل إلى قلب الإنسان, نحو: سيطول عمرك, وتنال من الدنيا لذتك, وستعلو على أقرانك, وتظفر بأعدائك, والدنيا دول, ستكون لك كما كانت لغيرك, ويُطوِّل أمله, ويعده بالحُسنى على شركه ومعاصيه, ويمنيه الأماني الكاذبة على اختلاف وجوهها.
فيعده الباطل الذي لا حقيقة له وهو الغرور, ويمنيه المحال الذي لا حاصل له.
ومن كيده للإنسان: أنه يُورده الموارد التي يُخيل إليه أن فيها منفعته, ثم يُصدرُهُ المصادر التي فيها عطبه, ويتخلى عنه ويُسلمه ويقف يشمت به, ويضحك منه, فيأمره بالسرقة والزنى والقتل ويدل عليه ويفضحه
ومن كيد عدو الله: أنه يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه, فلا يجاهدونهم, ولا يأمرونهم بالمعروف, ولا ينهونهم عن المنكر, وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان, وقد أخبرنا سبحانه عنه بهذا, فقال: { إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }[آل عمران:175] المعنى عند جميع المفسرين: يُخوفكم بأوليائه, قال قتادة: يُعظمهم في صدوركم.
ومن مكايد الشيطان: أمره إما بتفريط وتقصير, أو مجاوزة وغلو, فإنه يُشامّ النفس, حتى يعلم أي القوتين اغلب عليها: قوة الإقدام والشجاعة, أم قوة الانكفاف والإحجام والمهانة؟ فإن رأى الغالب على النفس المهانة والإحجام, أخذ في تثبيطه وإضعاف همته وإرادته عن المأمور به , وثقله عليه, وهون عليه تركه, حتى يتركه جملة, أو يقصر فيه ويتهاون به.
وإن رأى الغالب عليه قوة الإقدام وعلو الهمة, أخذ يقلل عنده المأمور به, ويُوهمه أنه لا يكفيه, وأنه يحتاج معه إلى مبالغة وزيادة.
ومن كيده: ما ألقاه إلى جُهَّال المتصوفة من الشطح والطامَّات, وأبرزه لهم في قالب الكشف من الخيالات, فأوقعهم في أنواع الأباطيل والترهات, وفتح لهم أبواب الدعاوى الهائلات, وأوحى إليهم أن وراء العلم طريقاً إن سلكوه أفضى بهم إلى كشف العيان, وأغناهم عن التقيد بالسنة والقرآن, فحسن لهم رياضة النفوس وتهذيبها, وتصفية الأخلاق, والتجافي عما عليه أهل الدنيا, وأهل الرياسة والفقهاء, وأرباب العلوم, والعمل على تفريغ القلب وخُلُوِّه من كل شيء, حتى ينتقش فيه الحق بلا واسطة تعلم, فلما خلا من صورة العلم الذي جاء به الرسول نقش فيه الشيطان بحسب ما هو مستعد له من أنواع الباطل..فإذا أنكره عليهم ورثة الرسل قالوا: لكم العلم الظاهر ولنا الكشف الباطن, ولكم ظاهر الشريعة وعندنا باطن الحقيقة فلما تمكن هذا من قلوبهم سلخها من الكتاب والسنة والآثار, كما يسلخ الليل من النهار, ثم أحالهم في سلوكهم على تلك الخيالات, وأوهمهم أنها من الآيات البينات, وأنها من قِبَل الله سبحانه إلهامات, وتعريفات, فلا تُعرضُ على السنة والقرآن, ولا تُعامل إلا بالقبول والإذعان....وكلما ازدادوا بُعداً وإعراضاً عن القرآن وما جاء به الرسول كان هذا الفتح في قلوبهم أعظم.
ومن كيده الذي بلغ به من الجهال ما بلغ: الوسواس الذي كادهم به في أمر الطهارة والصلاة عند عقد النية, حتى ألقاهم في الآصار والأغلال, وأخرجهم عن اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , وخيل إلى أحدهم أن ما جاءت به السنة لا يكفى, حتى يضم إليه غيره, فجمع لهم بين الظن الفاسد, والتعب الحاضر, وبطلان الأجر أو تنقيصه.
ولا ريب أن الشيطان هو الداعي إلى الوسواس, فأهله قد أطاعوا الشيطان, ولبوا دعوته, واتبعوا أمره, ورغبوا عن اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وطريقته, حتى أن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أو اغتسل كاغتساله, لم يطهر ولم يرتفع حدثه.
ولولا العذر بالجهل لكان هذا مشاقَّةً للرسول, فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلكم يتوضأ بالمد...ويغتسل بالصاع.
والموسوس يرى أن ذلك القدر لا يكفيه لغسل يديه.
وصح عنه أنه توضأ مرة مرة, ولم يزد على ثلاث, بل أخبر أن: «من زاد عليها فقد أساء وتعدى وظلم » فالموسوس مسيء مُتعدٍّ ظالم بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكيف يتقرب إلى الله بما هو مسيء به, متعدٍّ فيه لحدوده ؟