فوائد من إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان لابن القيم (4-4)

فهد بن عبد العزيز الشويرخ

والحلاوة التي يجدها المؤمن في قلبه بذلك فوق كل حلاوة, والنعيم الذي يحصل له بذلك أتمّ من كل نعيم, واللذة التي تناله أعلى من كل لذة.

  • التصنيفات: طلب العلم -

 

ومن أعظم مكايده التي كاد بها أكثر الناس, وما نجا منها إلا من لم يرد الله فتنته: ما أوحاه قديماً وحديثاً إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور, حتى آل الأمر فيها أن عبد أربابها من دون الله, وعُبدت قبورهم, واتخذت أوثاناً, وبُنيا عليها الهياكل, وصُورت صور أربابها فيها, ثم جعلت تلك الصور أجساداً لها ظل, ثم جُعلت أصناماً, وعبدت مع الله.

والصلاة عند القبور منهي عنها...فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك: الصلاة عندها, واتخاذها مساجد, وبناء المساجد عليها, فقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهى عن ذلك, والتغليظ فيه.

قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: « لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أبيائهم مساجد» ولولا ذلك لأُبرز قبره, غير أنه خُشي أن يُتخذ مسجداً.[متفق عليه]

وقولها: " خُشي " هو بضم الخاء, تعليلاً لمنع إبراز قبره.

ومن ذلك اتخاذها عيداً...قال شيخ الإسلام قدس الله روحه: قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض, وقد نهى عن اتخاذه عيداً, فقبر غيره أولى بالنهى, كائناً من كان.

في اتخاذ القبور أعياداً من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله ما يغضب لأجله كلُّ من في قلبه وقار لله, وغَيرة على التوحيد, وتهجين وتقبيح للشرك.

فمن مفاسد اتخاذها أعياداً: الصلاة إليها, والطواف بها, وتقبيلها واستلامها, وتعفير الخدود على ترابها, وعبادة أصحابها, والاستعانة بهم, وسؤالهم النصر والرزق والعافية, وقضاء الديون, وتفريج الكربات, وإغاثة اللهفات, وغير ذلك من أنواع الطلبات, التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم.

فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور, وهؤلاء يصلون عندها

ونهى عن اتخاذها مساجد, وهؤلاء يبنون عليها المساجد, ويسمونها مشاهد, مضاهاةً لبيوت الله.

ونهى عن إيقاد السرج عليها, وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل.

ونهى أن تتخذ عيداً, وهؤلاء يتخذونها أعياداً ومناسك, ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر.

وأمر بتسويتها, كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي, قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا أدع تمثالاً إلا طمسته, ولا قبراً مشرفاً إلا سويته» .

وفي صحيحه أيضاً عن ثمامة بن شُفيٍّ قال: كنا مع فضالة بن عُبيد بأرض الروم بردوس, فتوفي صاحب لنا, فأمر فضالة بقبره فسوي, ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها.

وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين ويرفعونها من الأرض ويعقدون عليها القباب

ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه كما روى مسلم في صحيحه عن جابر قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر وأن يقعد عليه و يبنى عليه» .

ونهى عن الكتابة عليها, كما روى أبو داود في سننه, عن جابر رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تجصص القبور, وأن يكتب عليها» .

قال الترمذي: " حديث حسن صحيح "

وهؤلاء يتخذون عليها الألواح, ويكتبون عليها القرآن.

ونهى أن يزاد عليها غير ترابها, كما روى أبو داود من حديث جابر أيضاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يُجصص القبر, أو يكتب عليه, أو يزاد عليه.

وهؤلاء يزيدون عليه – سوى التراب – الآجُر والأحجار والجصّ.

والمقصود أن هؤلاء المعظمين للقبور, والمتخذينها أعياداً, الموقدين عليها السرج, الذين يبنون عليها المساجد والقباب مناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم محادُّون لما جاء به.

وأعظم ذلك اتخاذها مساجد, وإيقاد السرج عليها, وهو من الكبائر, وقد صرح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه.

ومن مكايد عدو الله ومصايده التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين, وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين: سماع المكاء والتصدية, والغناء بالآلات المحرمة, الذي يصد القلوب عن القرآن, ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان, فهو قرآن الشيطان, والحجاب الكثيف عن الرحمن, وهو رقية اللواط والزنى, وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقه غاية المنى, كاد به الشيطان النفوس المبطلة, وحسنه لها مكراً منه وغروراً, وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه, فقلبت وحيه واتخذت لأجله القرآن مهجوراً.

ومن مكايده التي كاد بها الإسلام وأهله: الحيل, والمكر, والخداع, الذي يتضمن تحليل ما حرمه الله, وإسقاط ما فرضه, ومضادته في أمره ونهيه, وهي من الرأي الباطل الذي اتفق السلف على ذمه.

من المعلوم أن الربا لم يُحرم لمجرد صورته ولفظه, وإنما حُرَّم لحقيقته ومعناه ومقصوده...فتغيير صور المحرمات وأسمائها مع بقاء مقاصدها وحقائقها زيادة في المفسدة التي حُرمت لأجلها, مع تضمنه لمخادعة الله تعالى ورسوله, ونسبة المكر والخداع والغش والنفاق إلى شرعه ودينه وأنه يحرم الشيء لمفسدةٍ ويبيحه لأعظم منها, ولهذا قال أيوب السختياني: يخادعون الله كما يخادعون الصبيان, لو أتوا الأمر على وجهه كان أهون. 

ومن مكايده ومصايده: ما فتن به عُشَّاق الصور:

وتلك لعمر الله الفتنة الكبرى, والبلية العظمى, التي استبعدت النفوس لغير خلاقها, وملكت القلوب لمن يسومها الهوان من عشاقها, وألقت الحرب بين العشق والتوحيد, ودعت إلى موالاة كل شيطان مريد, فصيرت القلب للهوى أسيراً, وجعلته حاكماً وأميراً, فأوسعت القلوب محنة, وملأتها فتنة, وحالت بينها وبين رُشدها, وصرفتها عن طريق قصدها.

فيا حسرة المحب الذي باع نفسه لغير الحبيب الأول بثمن بخس, وشهوة عاجلة, ذهبت لذتها, وبقيت تبعتها, وانقضت منفعتها وبقيت مضرتها, فذهبت الشهوة وبقيت الشقوة, وزالت المسرة وبقيت الحسرة

فالمحب بمن أحبه قتيل, وهو له عبد خاضع ذليل, وإن دعاه لباه, وإن قيل له: ما تتمنى ؟ فهو غاية ما يتمناه, ولا يأنس بغيره ولا يسكن إلى سواه.

محبة الله جل جلاله أصل الدين

محبة الله سبحانه والأُنس به, والشوق إلى لقائه, والرضا به وعنه, أصل الدين.

وهو سبحانه لم يخلق الجن والإنس إلا لعبادته, التي تتضمن كمال محبته, وكمال تعظيمه, والذلّ له, ولأجل ذلك أرسل رسله, وأنزل كتبه, وشرع شرائعه, وعلى ذلك وضع الثواب والعقاب وأُسّست الجنةُ والنار وانقسم الناس إلى شقيٍّ وسعيد.

فلا شيء أحبُّ إلى القلوب من خالقها وفاطرها, فهو إلهها ومعبودها, ووليها ومولاها, وربها ومدبرها ورازقها, ومميتها ومحييها, فمحبته نعيم النفوس, وحياة الأرواح وسرور النفس وقوت القلوب ونور العقول وقرة العيون, وعمارة الباطن.

فليس عند القلوب السليمة والأرواح الطيبة والعقول الزكية أحلى ولا ألذَ ولا أطيب ولا أسرُّ ولا أنهم من محبته والأنس به والشوق إلى لقائه.

والحلاوة التي يجدها المؤمن في قلبه بذلك فوق كل حلاوة, والنعيم الذي يحصل له بذلك أتمّ من كل نعيم, واللذة التي تناله أعلى من كل لذة.

فمن كان بالله سبحانه وأسمائه وصفاته أعرف, وفيه أرغب, وله أحب, وإليه أقرب, وجد من هذه الحلاوة في قلبه ما لا يمكن التعبير عنه, ولا يُعرفُ إلا بالذوق والوجد, ومتى ذاق القلب ذلك لم يمكنه أن يقدم عليه حبّاً لغيره, ولا أُنساً به, وكلما ازداد له حباً ازداد له عبودية وذلاً وخضوعاً ورقاً له, وحرية عن رقِّ غيره.

فالقلب لا يفلح ولا يصلح ولا يتنعم ولا يبتهج ولا يلتذُّ ولا يطمئنُّ ولا يسكن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه ولو حصل له جميع ما يلتذُّ به من المخلوقات لم يطمئن إليها ولم يسكن إليها بل لا تزيده إلا فاقة وقلقاً حتى يظفر بما خُلق له, وهُيّئ له, من كون الله وحده نهاية مراده وغاية مطالبه.

وما مؤمن إلا وفي قلبه محبة الله تعالى, وطمأنينة بذكره, وتنعم بمعرفته, ولذة وسرور بذكره, وشوق على لقائه, وأُنس بقربه, وإن لم يحُسّ به لاشتغال قلبه بغيره, وانصرافه على ما هو مشغول به, فوجود الشيء غير الإحساس والشعور به, وقوة ذلك وضعفه وزيادته ونقصانه هو بحسب قوة الإيمان وضعفه وزيادته ونقصانه.

فإذا عُرف  هذا فالعبد في حال معصيته واشتغاله عنه بشهوته ولذته تكون تلك اللذة والحلاوة الإيمانية قد استترت عنه وتوارت أو نقصت أو ذهبت فإنها لو كانت موجودة كاملة لما قدم عليها لذة وشهوة لا نسبة بينها بوجه ما بل هي أدنى من حبة خردل بالنسبة إلى الدنيا وما فيها..ولهذا تجد العبد إذا كان مخلصاً لله, منيباً إليه, مطمئناً بذكره, مشتاقاً إلى لقائه..منصرفاً عن هذه المحرمات, لا يلتفت إليها.