المخاوف الصينية الجديدة
تشكل سياسات الصين الخارجية أكبر تهديد للمصالح الأمريكية ومن ثَمَّ تؤثر في إعادة تشكيل النظام الدولي
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
في فبراير 1947م اجتمع الرئيس الأمريكي هاري ترومان مع كبار مستشاريه في السياسة الخارجية وعدد من أعضاء الكونغرس لوضع خطة لمساعدة الحكومة اليونانية في قتالها ضد الانقلاب الشيوعي.
قدم دين آتشيسون خطة مارشال ودعمها آرثر فاندينبرغ رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ بحذر، قائلاً: «هي إلقاء خطـاب لإخافة الجحيـم خارج البلاد». فعل ترومان ما جاء في الخطة في محاولة لاختبار قدرة الولايات المتحدة على مواجهة التمدد الشيوعي والترويج لديمقراطيتها لكن الواقع كان أكثر تعقيداً مما تستطيع فعله الولايات المتحدة.
اليوم تتوافق المؤسسة العسكرية مع وسائل الإعلام على أن الصين تشكل تهديداً حيوياً للولايات المتحدة اقتصادياً وإستراتيجياً، والأخيرة لا تستطيع أن تقدم شيئاً على هذا الصعيد. لذلك تحتاج واشنطن إستراتيجية أكثر صرامة لاحتواء التغول الصيني في العالم، ووَفْقاً لاستطلاعات مركز بيو للأبحاث فإن 60% من الشعب الأمريكي يحمل الرؤية نفسها التي تحملها حكومته.
كان للولايات المتحدة تجربة سابقة تمثلت في الاتحاد السوفييتي؛ فقد دخلت بفضل القلق من تمدده في سباق تسلح نووي خطير وحرب طويلة غير مجدية في الفيتنام، وكانت تلك المواجهة غير المباشرة سبباً في عدد لا يحصى من التدخلات العسكرية في مختلف دول العالم الثالث.
لذلك يُعتقَد أن المواجهة التي يتم تأجيجها مع الصين في الوقت الحالي قد تنطوي على مخاطر؛ أبرزها تبـديد حالة التهدئة التي تحققت بشق الأنفس خلال العقود الأربعة الماضية، ودخول أكبر اقتصادين في العالم في صراع غادر في نطاق مجهول، وهو ما سيؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار وانعدام الأمن، ومن المرجح أن تكون فترة حرب باردة مع الصين أطول بكثيـر وأكثـر تكلفة من الحرب مع الاتحاد السوفييتي.
يقول هنري كيسنجر: إن الولايات المتحدة دخلت في حروب منذ عام 1945م في كوريا وفيتنام وأفغانستان والعراق بحماسة كبيرةٍ ودعمٍ من الحزبين. لكن مع تطور الحرب بدأت تخسر الجبهة الداخلية وبدأ الجميع يبحثون عن إستراتيجية للخروج.
تشكل سياسات الصين الخارجية أكبر تهديد للمصالح الأمريكية ومن ثَمَّ تؤثر في إعادة تشكيل النظام الدولي القائم على القواعد التي أنشأته عليها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية عام 1945م، لذلك هناك قلق أمريكي بأن تصنع الصين هوية جديدة للنظام العالمي ينهي الهيمنة الأمريكية.
في خطاب ألقاه عام 2019م في معهد هدسون قال وزير الخارجية مايك بومبيو: «إن الحزب الشيوعي الصيني هو حزب مركزي ويركز في تمدده على الهيمنة الدولية، وسياسة المواجهة النشطة مع الصين يجب أن يحل محلها النهج السابق الذي اتبعته واشنطن خلال العقود السابقة. خلال العقود الخمسة الماضية ومنذ عهد الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون كانت السياسية الأمريكية مع الصين مزيجاً من الارتباط والردع وفي أواخر السبعينيات خلص صانعو السياسة في الولايات المتحدة إلى أن دمج الصين في النظام الاقتصادي والسياسي العالمي أفضل من وجودها خارجه مستاءة ومنزعجة، لكن تلك الخطوة كان يقابلها من واشنطن استمرار مبيعات الأسلحة إلى تايوان في إطار سياسة التحوط الأمريكية التي تحاول إشغال الصين في قضاياها الداخلية. مع انتفاء خطر الاتحاد السوفييتي بدأت واشنطن خفض الإنفاق على الجيش وأغلقت عدة قواعد عسكرية في جميع أنحاء العالم باستثناء آسيا؛ فقد استمرت في إستراتيجيتها المتبعة في آسيا والمحيط الهادي منذ عام 1995م وأبقت على وجود 100 ألف جندي أمريكي في آسيا وواصلت دعم تايوان لردع بكين. كذلك قامت إدارة جورج بوش بالسماح للهند بالظهور كقوة نووية في سياق خطة أمريكية لخنق الصين، وكذلك وقَّعـت اتفاقات عسكرية جديدة في عهد باراك أوباما مع اليابان وأستراليا وفيتنام بشأن التسلح ونشر أنظمة دفاعية. وبدأت في عهد الرئيـس الحالي دونالد ترامب مواجهة تجارية ضخمة عبر فرض ضرائب على الواردات الصينية ضمن سياسة التحوط الأمريكية التي بدأت في عهد نيكسون الذي عايش الثوري الصيني ماوسي تونغ المهووس بفكرة قيادة حركة ثورية تدمر العالم الرأسمالي الغربي. لكن المؤشرات الأممية تؤكد أن الصين اليوم أصبحت تنفق مبالغ كبيرة على برامج الأمم المتحدة لحفظ السلام ونشرت 2500 جندي ضمن هذا البرنامج، وعلى الصعيد الاقتصادي أجبرت الصين الشركات العالمية على استخدام التكنولوجيا الصينية ودعم أسواقها الداخلية واستغلت السوق الدولي المفتوح لتعزيز قوتها التجارية؛ وهذا الأمر قلص من سطوة الشركات الأمريكية العابرة للقارات وحدَّ من سوقها على مستوى العالم. ويتفق جميع الاقتصاديين على أن الصين تدين بالكثير من نجاحها لثلاثة عوامل: أولها الانفتاح الاقتصادي، وثانيها معدل الادخار المرتفع، وثالثها زيادة الإنتاجية. وقال وزير الخـزانة الأمريكي السابق لورانس سامرز في أحد تصريحاته: إنه لا يمكن القول بأن الممارسات التجارية الصينية غير عادلة. عقب طفرة النمو الصناعي التي شهدتها اليابان في ثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرم خرج كتاب بعنوان «الحرب القادمة مع اليابان» كان يدعو الحكومة الأمريكية لمقاومة النمو الاقتصادي في اليابان لكونه يؤثر على الاقتصاد الأمريكي لكن مع تراجع هذا النمو قلَّت المخاوف الأمريكية. إن المخاوف الأمريكية لا تعدو عن كونها مخاوف اقتصادية من الصين لذلك تتأرجح حقيقة الدخول في مواجهة مباشرة مع الصين رهينة للمكاسب التي يحققها الاقتصاد الصيني على الصعيد الدولي، أما المخاطر الحقيقية التي يمكن أن تشكل صفحة سوداء في السياسة الصينية هي ما يتعلق بالمعاملة البشعة للمسلمين الأويغور في تركستان الشرقية كذلك القمع الذي يواجهه الشعب الصيني من خلال برامج للتحكم الاجتماعي تصممها الحكومة الصينية والتهديد المباشر الذي تمثله الصين لليابان وكوريا وصراعها مع فيتنام في بحر الصين.