فوائد من كتاب الداء والدواء لابن القيم (1-2)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
دفع الهموم والغموم بالإقبال على الله وإيثار مرضاته على كل شيء
- التصنيفات: طلب العلم -
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله أصحابه أجمعين...أما بعد: فكتاب العلامة ابن القيم رحمه الله " الداء والدواء " والذي اشتهر باسم " الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي " من أنفع وأفضل وأجود الكتب في تزكية النفوس وتهذيبها, ولأهمية الكتاب قد انتقيتُ فوائد منه, لا تغني عن أصله, أسأل الله الكريم أن تكون نافعة للجميع.
الذنب لا يخلو من عقوبة البتة:
الذنب لا يخلو من عقوبة البتة, ولكن لجهل العبد لا يشعر بما هو فيه من العقوبة, لأنه بمنزلة السكران والمخدر والنائم الذي لا يشعر بالألم, فإذا استيقظ وصحا أحسَّ بالمؤلم.
وقد تقارن المضرة للذنب, وقد تتأخر عنه يسيراً وإما مدة, كما يتأخر المرض عن سببه أو يقارنه, وكثيراً ما يقع الغلط للعبد في هذا المقام, ويذنب الذنب فلا يرى أثره عقيبه, ولا يدري أنه يعمل عمله على التدرج شيئاً فشيئاً, كما تعمل السموم والأشياء الضارة حذو القُذة بالقذة, فإن تدارك العبد بالأدوية والاستفراغ والحمية وإلا فهو صائر إلى الهلاك, هذا إذا كان ذنباً واحداً لم يتداركه بما يزيل أثره, فكيف بالذنب على الذنب كل يوم وكل ساعة ؟ والله المستعان.
حسن الظن بالله يكون بطاعته
لا ريب أن حسن الظن إنما يكون مع الإحسان, فإن المحسن حسن الظن بربه أنه يجازيه على إحسانه, ولا يخلف وعده, ويقبل توبته, وأما المسيء المصر على الكبائر والظلم والمخالفات, فإن وحشة المعاصي والظلم والإجرام تمنعه من حسن الظن بربه,...وأحسن الناس الظن ظناً بربه أطوعهم له....وكلما حسن ظنه حسن عمله.
حسن الظن ينفع من تاب, وندم, وأقلع, وبدل السيئة الحسنة, واستقبل بقية عمره بالخير والطاعة,....فحسن الظن إن حمل على العمل, وحثَّ عليه, وساق إليه, فهو صحيح, وإن دعا إلى البطالة والانهماك في المعاصي فهو غرور.
الجاهل من اعتمد على رحمة الله مع تضييعه لأمره ونهيه
كثير من الجهال اعتمدوا على رحمة الله وعفوه وكرمه, وضيعوا أمره ونهيه, ونسوا أنه شديد العقاب, وأنه لا يرد بأسه عن القوم المجرمين.
قيل للحسن: نراك طويل البكاء ! فقال: أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي.
قال أبو الوفاء بن عقيل: احذره ولا تغتر, فإنه قطع اليد في ثلاثة دراهم, وجلد الحد في مثل رأس الإبرة من الخمر, وقد دخلت امرأة النار في هرة, واشتعلت الشملة ناراً على من غلها وقد قتل شهيداً.
وربما اتكل بعض المغترين على ما يرى من نعم الله عليه في الدنيا, وأنه لا يغير به, ويظن أن ذلك من محبة الله له,...وهذا من الغرور, فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيت الله عز وجل يعطى العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب, فإنما هو استدراج, ثم تلا» : {فَلَمّا نَسوا ما ذُكِّروا بِهِ فَتَحنا عَلَيهِم أَبوابَ كُلِّ شَيءٍ حَتّى إِذا فَرِحوا بِما أوتوا أَخَذناهُم بَغتَةً فَإِذا هُم مُبلِسونَ} [[الأنعام:44]
الصحابة رضي الله عنهم جمعوا بين العمل والخوف
من تأمل أحوال الصحابة رضي الله عنهم وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف, ونحن جمعنا بين التقصير – بل التفريط- والأمن.
فهذا الصديق كان يمسك بلسانه ويقول: هذا أوردني الموارد.
وكان يبكي كثيراًَ, ويقول: ابكوا, فإن لم تبكوا فتباكوا.
وهذا عمر بن الخطاب قرأ سورة الطور حتى بلغ: {إن عذاب ربك لواقع} فبكى, واشتد بكاؤه, حتى مرض وعادوه.
وكان في وجهه رضي الله عنه خطان أسودان من البكاء.
وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه كان إذا وقف على القبر يبكي حتى يبل لحيته.
وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه...كان يشتد خوفه من اثنتين: طول الأمل, واتباع الهوى, قال: فأما طول الأمل فينسي الآخرة, وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق.
وهذا أبو الدرداء كان يقول: إن أشد ما أخاف على نفسي يوم القيامة أن يقال لي: يا أبا الدرداء قد علمت, فكيف عملت فيما علمت ؟
وكان عبدالله بن عباس أسفل عينيه مثل الشرك البالي من الدموع.
وكان أبو ذر يقول: يا ليتني كنت شجرة تعضد, ووددت أني لم أخلق.
وقرأ تميم الداري ليلة سورة الجاثية, فلما أتى على هذه الآية:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [ الجاثية: 21] جعل يرددها ويبكى حتى أصبح.
وهذا باب يطول تتبعه.
أسباب سوء الخاتمة
إذا نظرت إلى كثير من المحتضرين وجدتهم يحال بينهم وبين حسن الخاتمة, عقوبة لهم على أعمالهم السيئة, قال الحافظ أبو محمد عبدالحق بن عبدالرحمن الأشبيلي رحمه الله: واعلم أن لسوء الخاتمة – أعاذنا الله منها – أسباباً, ولها طرق وأبواب, أعظمها: الاكباب على الدنيا, والإعراض عن الأخرى, والإقدام والجرأة على معاصي الله عز وجل, وربما غلب على الإنسان ضرب من الخطيئة, ونوع من المعصية, وجانب من الإعراض, ونصيب من الجرأة والإقدام, فملك قلبه, وسبي عقله, وأطفأ نوره, وأرسل عليه حجبه, فلم تنفع فيه تذكرة, ولا نجعت فيه موعظة, فربما جاءه الموت على ذلك.
ولقد بكى سفيان الثوري ليلة إلى الصباح, فلما أصبح قيل له: كل هذا خوفاً من الذنوب ؟ فأخذ تبنة من الأرض, وقال: الذنوب أهون من هذا, ولكن أبكي من خوف الخاتمة.
وهذا من أعظم الفقه, أن يخاف الرجل أن تخذله ذنوبه عند الموت, فتحول بينه وبين الخاتمة الحسنى.
قال: واعلم أن سوء الخاتمة – أعاذنا الله منها – لا تكون لمن استقام ظاهره, وصلح باطنه, ما سمع بهذا ولا علم به, ولله الحمد, وإنما تكون لمن له فساد في العقيدة, أو إصرار على الكبائر, وإقدام على العظائم, فربما غلب ذلك عليه, حتى ينزل به الموت قبل التوبة, فيأخذه قبل إصلاح الطوية, ويُصطلم قبل الإنابة, فيظفر به الشيطان عند تلك الصدمة, ويختطفه عند تلك الدهشة, والعياذ بالله.
دفع الهموم والغموم بالإقبال على الله وإيثار مرضاته على كل شيء
أعقل الناس من آثر لذته وراحته الآجلة الدائمة على العاجلة المنقضية الزائلة, وأسفه الخلق من باع نعيم الأبد وطيب الحياة الدائمة واللذة العظمى التي لا تنغيص فيها ولا نقص بوجه ما, بلذة منغصة مشوبة بالآلام والمخاوف, وهي سريعة الزوال وشيكة الانقضاء.
قال بعض العلماء: فكرت فيما يسعى فيه العقلاء, فرأيت سعيهم كله في مطلوب واحد, وإن اختلفت طرقهم في تحصيله, رأيتهم جميعهم إنما يسعون في دفع الهم والغم عن نفوسهم, فهذا بالأكل والشرب, وهذا بالتجارة والكسب, وهذا بالنكاح, وهذا بسماع الغناء والأصوات المطربة, وهذا باللهو واللعب, فقلت: هذا مطلوب العقلاء, ولكن الطرق كلها غير موصلة إليه, بل لعل أكثرها إنما يوصل إلى ضده, ولم أر في جميع هذه الطرق طريقاً موصلةً إلا الإقبال على الله ومعاملته وحده, وإيثار مرضاته على كل شيء.