استشعار معنى الإخلاص
سوزان بنت مصطفى بخيت
ألا يكفي هذا النعيم لتسبقنا قلوبنا قبل جوارحنا، وتشتاق للقرب منه سبحانه؟
- التصنيفات: التربية والأسرة المسلمة -
بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم علمنا كما علمتَ داود، وفهِّمنا كما فهمتَ سليمان، وأدِّبنا وهذِّبنا كما أدبتَ وهذبتَ نبيَّك محمدًا صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة، ولوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئًا.
بناتي الحبيبات، هل مرَّ عليكن هذا الدعاء سابقًا، ورغبتنَّ باستشعار معانيه والتلذذ به؟
هل رغبتِ أن تتذوقي معنى الإخلاص، وكيف تكون روحكِ معلقة بالله، فلا تبتغين سواه، ولا تتوجهين لغيره؛ ليكون عملكِ خالصًا لوجهه الكريم؟
أجابت جمانة: نعم معلمتي، حاولتُ كثيرًا أن أستشعر هذه المعاني بقلبي قبل عقلي، وبحثت ووجدت أجوبة متنوعة، لكن مع الأسف لم ينبض قلبي بها، ولم يستشعر معناها حتى الآن.
المعلمة: وماذا وجدتِ أثناء بحثكِ جمانتي الحبيبة؟
أخذت جمانة نفسًا عميقًا، ثم سردت ما حفظته من تعريف الإخلاص:
الإخلاص هو "تصفية الأقوال والأعمال مما يشوبها من الشرك والرياء، والمباهاة، والسمعة"، ثم أكملت: لكنني ما زلتُ أشعر أنه غامض وغير مفهوم، أشعر أن هناك شيئًا ينقصني حتى يصل لأعماقي وجوارحي، فأطبِّقه بوعيٍ وإحساس.
المعلمة هامسة: أتعلمين يا جمانة أني كنت مثلكِ يومًا ما، حتى أنار الله بصيرتي، وفهِمتُ معنى الإخلاص واستشعرتُه.
نظرت جمانة بذهول، ثم ما لبثت أن تهللت أساريرها وقالت: حقًّا معلمتي أرحتِ قلبي بكلامِكِ، شعورٌ جميلٌ أن تجدي من سبقكِ ومرَّ بإحساسكِ، ونجح في التغلب عليه.
أومأت المعلمة برأسها وأكملت بابتسامتها الجذابة: نعم يا حبيباتي؛ لذلك سوف نبحر معًا في رحلة عبر الكون؛ لنستشعر معنى الإخلاص.
تحمست جمانة كثيرًا، وشعرت بسعادة بالغة، وكأنها تحلق في السماء من شدة فرحتها.
بدأت المعلمة كلامها: تأملي هذه الصورة يا حبيبتي، ماذا تعرفين عنها؟
جمانة: هذه صورة الشمس معلمتي الحبيبة، ومعها بعض الكواكب التي تسبح حولها، وقد أبهرتني كثيرًا، سبحان الله! خاصة الفرق الشاسع بين حجمهما؛ فالشمس ضخمة جدًّا ومهولة، والأرض صغيرة جدًّا نكاد لا نشعر بوجودها.
المعلمة: أحسنتِ يا جمانتي، وهذا الجمال الرباني والعظمة الإلهية ليسا محصورين في هذه الكواكب فقط، بل هناك ما هو أكثر روعة، ويجعلكِ تسبحين الله من عظيم قدرته ودقة تفاصيل خلقه لهذا الكون البديع، وكل هذا لا يساوي شيئًا مقارنة به سبحانه، فالله أكبر من كل هذا وأعظم منه، بشكل لا يستوعبه العقل ولا يتحمله القلب.
جمانة: سبحانك ربي ما أعظمك!
أكملت المعلمة: والآن يا غاليتي، انظري لهذه الأرض الصغيرة، هل تستطيعين معرفة أين أنتِ منها؟
ضحكت جمانة قائلة: لا معلمتي، لا أشعر بوجودي عليها مطلقًا؛ فهي صغيرة جدًّا، وأنا أصغر منها بمراحل كثيرة جدًّا، سبحان الله! لم أتخيل نفسي يومًا أن أكون صغيرة بهذا الشكل.
ضحكت المعلمة: أنتِ فقط يا جمانة؟ بل جميعنا يا حبيبتي، أنا وأنتِ وزميلاتكِ، وكل من خلقه الله عز وجل من المخلوقات.
جمانة في انبهار: فعلًا سبحان الله! لا أستطيع تخيل حجم ضآلتنا في هذا الكون المهيب.
المعلمة: والآن نأتي لموضوعنا عن الإخلاص، تخيلي لو أتت لكِ شخصية تحبينها، وطلبت منكِ أن توديها وتتواصلي معها، وتنفذي ما تطلبه منكِ، فهل يعقل أنه بدلًا من أن تستجيبي لندائها، وتهتمي بأداء طلبها بإتقان في سبيل توطيد علاقتكِ بها، وتواصل روحكِ مع روحها - هل يعقل أن تتواصلي معها بجوارحكِ فقط، ولكن قلبكِ وروحكِ تكون مع الناس رغبة في ثنائهم ورضاهم بما تفعلينه؟
استنكرت جمانة الموقف وقالت: طبعًا لا؛ فبهذه الطريقة لن يكون قلبي معها وإنما مع الناس.
المعلمة: أحسنتِ يا عزيزتي، فحتى يكون قلبكِ معها، لا بد أن يتخلص قلبكِ من الانشغال بكل إنسان آخر، ويكون صافيًا وخالصًا لمن ترغبين بالتواصل معها، ولله المثل الأعلى.
فهذا هو الإخلاص أن يكون قلبكِ وروحكِ وجميع أعمالكِ وعباداتكِ صافية تمامًا، وأن تفعليها من أجله سبحانه فقط لا غير، وألَّا تهتمي بنظرات الناس ولا رأيهم، ولا أن تتباهي أمامهم بعلاقتكِ مع الله.
وهذا هو الشرط الأساسي ليقبل الله منكِ تواصلكِ معه؛ أن تكون عبادتكِ خالصة له سبحانه وحده لا شريك له؛ يقول الله تعالى: ﴿ {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ﴾ [البينة: 5]، فهل بعد كل هذا نهتم بمشاعر وكلمات خلقه، ونحن لم نستطع رؤيتهم؛ لضآلة حجمهم على تلك الأرض الصغيرة، ونترك مراقبتنا لله سبحانه وتعالى الكبير العظيم الخالق القوي الملك، الذي هو الرحمن الرحيم اللطيف؟
جمانة بتأثر: حاشا لله أن أختار سواه.
الآن فهمتُ لماذا أجاب الشيخ الشنقيطي حفظه الله على مَن كان يشتكي الرياء، وقال له: كيف لمن يعرف الله ويقدره حق قدره، ويعلم بضآلة نفسه ومن حوله - أن يدخل في قلبه الرياء، ويهتم بنظرات الناس؟
المعلمة: أحسنتِ حبيبتي، ومع ذلك تجدين الناس - سبحان الله - ينسَون عظمة الله، ويعظِّمون المخلوقات، ويعطونهم قدرًا أكبرَ مما يستحقونه، والله المستعان، حتى إنهم يهتمون برضا الناس أكثر من اهتمامهم برضا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا ما يسمى بالرياء، والذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الشرك الأصغر؛ لأنهم جعلوا مع الله شريكًا، أتعلمين ماذا سيكون حالهم؟
جمانة: ماذا سيكون حالهم يا معلمتي؟
أجابت المعلمة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل لأصحاب ذلك يوم القيامة إذا جازى الناس: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟» [السلسلة الصحيحة]، هل تستطيعين تخيل ذلك؟ أن يرفض الله كل ما فعلتِهِ؛ لأنه لم يكن خالصًا لوجهه الكريم، ويُقال لكِ: اذهبي لتلك المخلوقات، وانظري هل ستجدين عندهم الجزاء والرضا والنعيم؟
جمانة بخوف: يا ألله، اللهم إني أسألك ألَّا نكون منهم، وماذا ستنفعني تلك المخلوقات الضئيلة ولا حول ولا قوة إلا بالله؟ لكن كيف أحافظ على صفاء قلبي ونقائه من الشرك والرياء يا معلمتي؟
المعلمة: اللهم آمين، يمكنكِ المحافظة عليه من خلال المداومة على محاسبة النفس ومراجعتها.
وفي أي وقت تشعرين أن نيتكِ ليست خالصة لله، جدديها فورًا، وأنعشي روحكِ بتواصل نقي وخالص ودعاء لله عز وجل.
ومن رحمة الله بنا وكرمه ولطفه، ولأن الله يحب أن يصلَ من وصله، فقد أهدى الله عباده المخلصين نعيمًا خاصًّا بهم، فهل تتذكرين الآيات التي تتحدث عن عباد الله المخلصين يا جمانتي؟
جمانة: نعم أتذكرها معلمتي الحبيبة؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ } [الصافات: 40 - 49].
المعلمة: بارك الله فيكِ يا غاليتي، والآن تأملي معي وعد الله لعباده المخلصين، عباده الذين عرفوه حق المعرفة، وقدروه حق التقدير؛ فأخلصوا له العبادة، وتوجهوا إليه بقلوبهم وأرواحهم قبل أن يتوجهوا إليه بجوارحهم وعقولهم، توجهوا إليه بمناجاته والوقوف بين يديه، وقلوبهم مشتاقة للقائه راجين رضاه - تأملي ماذا وعدهم الله كجزاء وتكريم لهم؟
وعدهم ﴿ {فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ } ﴾؛ وهي فواكة جميلة الأشكال، ومتنوعة الألوان، ولذيذة المذاق يتذوقونها في مملكتهم الخاصة ﴿ {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } ﴾؛ حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، حيث يستلقَون ﴿ {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } ﴾؛ متكئين على فرشهم الجميلة، وهم ينظرون بعضهم إلى بعض في تناغم وانسجام وصفاء للقلوب، ويقوم على رعايتهم وخدمتهم الولدان، ﴿ {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} ﴾؛ حيث يقدمون لهم المشروبات اللذيذة في كؤوس جميلة الشكل، مشروبات من خمر الجنة ذي اللون الأبيض النقي والطعم اللذيذ، ذلك الخمر اللذيذ الذي لا يُسكر العقول ولا يُذهِبها، ولا يستنزف أموال صاحبها، وإضافة لكل هذا: ﴿ {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} ﴾؛ تحيط بهم الحور الحسان الجميلات، فهل يوجد بعد هذا نعيمٌ ولذة تشتاق إليها القلوب؟
ألا يكفي هذا النعيم لتسبقنا قلوبنا قبل جوارحنا، وتشتاق للقرب منه سبحانه؟
جمانة: فعلًا معلمتي، ما أجمله من شوق وإحساس! أسأله سبحانه أن يحبكِ ويرضى عنكِ، وأن يجعل عملكِ كله صالحًا، ولوجهه خالصًا، وألَّا يجعل لأحد فيه شيئًا.
المعلمة: ولكِ بالمثل يا حبيبتي.