والتين والزيتون

خالد سعد النجار

أخرج الخطيب عن البراء بن عازب قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب فقرأ{والتين والزيتون}.

  • التصنيفات: التفسير -

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ

 

{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}

التين: الفاكهة المعروفة وهي من أقرب ثمار الجنة كما الموز

الزيتون: الثمرة المشهورة وهي تنبت من شجرة مباركة، قال تعالى: { {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ} } [المؤمنون]

من قواعد التفسير أن من أنواع البيان إذا اختلف في المعنى المراد، وكان مجيء أحد المعنيين أو المعاني المحتملة أكثر في القرآن فإنه يكون أولى بحمل اللفظ عليه... وقد جاء ذكر الزيتون في القرآن عدة مرات مقصودا به تلك الشجرة المباركة، فذكر في ضمن الأشجار خاصة في قوله تعالى من سورة الأنعام: { {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمانَ} }، وقوله تعالى: { {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً} } [عبس]

{ {وَطُورِ سِينِينَ} } وهو الجبل الذي ناجى موسى عليه السلام ربَّه عليه .. أضيف جبل الطور إلى «سينين» وهو البقعة، ويُقال له: سينين وسيناء

وذُكر الطور في القرآن للتكريم وللقسم فمن ذكره للتكريم قوله تعالى: { {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} } [مريم] ومن ذكره للقسم به قوله تعالى: { {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} } [الطور].

{ {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} } جاء بمكة أيضا ولكن بوصف مناسب فقال { {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} } فالأمين بمعنى الأمن أي من الأعداء أن يحاربوا أهله أو يغزوهم، كما قال تعالى: { {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67]

ولكن مناسبة ذكر التين والزيتون مع { {طُورِ سِينِينَ} } ومع { {الْبَلَدِ الأَمِينِ} } تقتضي أن يكون لهما محمل أوفق بالمناسبة، فروي أن التين بلاد الشام، والزيتون بيت المقدس ولذلك لكثرة هذه الثمار بتلك البقاع، كما يقال أرض الفيروز .. روي هذا عن بعض السلف.

فكأنه سبحانه يقول: إن من أنعم على تلك البقاع بالخير والبركة والقداسة، أنعم على الإنسان بنعمة حسن خلقته وحسن تقويمه وفضله على سائر مخلوقاته والله تعالى أعلم.

المقسم به عرضا للنعم وتعددها من التين والزيتون سواء كان المراد بهما الفاكهة المذكورة -وهو الأرجح- أو أماكنها وهو بيت المقدس مع طور سينين.

فالمقسم عليه وإن كان هو خلق الإنسان، إلا أنه في أحسن تقويم وهي أعظم نعمة عليه.

يقول أهل العلم: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ خَيِّرًا سَالِمًا مِنَ الشُّرُورِ وَالْخَوَاطِرِ الشِّرِّيرَةِ عَلَى صِفَةٍ مَلَكِيَّةٍ وَهُوَ مَعْنَى { {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} } [التِّين:4] ثُمَّ جَعَلَهُ أَطْوَارًا فَأَوَّلُهَا طَوْرُ تَعْلِيمِهِ النُّطْقَ وَوَضْعِ الْأَسْمَاءِ لِلْمُسَمَّيَاتِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَبْدَأُ الْمَعْرِفَةِ، وَبِهِ يَكُونُ التَّعْلِيمُ، أَيْ يُعَلِّمُ بَعْضُ أَفْرَادِهِ بَعْضًا مَا عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ الْآخَرُ، فَكَانَ إِلْهَامُهُ اللُّغَةَ مَبْدَأَ حَرَكَةِ الْفِكْرِ الْإِنْسَانِيِّ، وَهُوَ مَبْدَأٌ صَالِحٌ لِلْخَيْرِ وَمُعِينٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ بِهِ عَلَّمَ النَّاسُ بَعْضَهُمْ بَعْضًا، وَلِذَلِكَ تَرَى الصَّبِيَّ يَرَى الشَّيْءَ فَيُسْرِعُ إِلَى قُرَنَائِهِ يُنَادِيهِمْ لِيَرَوْهُ مَعَهُ حِرْصًا عَلَى إِفَادَتِهِمْ، فَكَانَ الْإِنْسَانُ مُعَلِّمًا بِالطَّبْعِ، وَكَانَ ذَلِكَ مُعِينًا عَلَى خَيْرِيَّتِهِ .. إِلَّا أَنَّهُ صَالِحٌ أَيْضًا لِاسْتِعْمَالِ النُّطْقِ فِي التَّمْوِيهِ وَالْكَذِبِ وسائر الشرور.

والمعنى:

القول الأول: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم روحاً وعقلاً، ثم رددنا أسفل سافلين نفساً وهوى.

القول الثاني: خلقنا الإنسان في أحسن صورة بنية وهيئة وشكلا، في انتصاب لم يخلق منكبّاً على وجهه

{ {ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ} } [التِّين:5]

القول الأول: جعلناه من أهل النار الذين هم أقبح من كل قبيح، وأسفل من كل سافل، لعدم جريانه على موجب ما خَلَقَه عليه من الصفات، التي لو عمل بمقتضاها لكان في أعلى عليين.

القول الثاني:: رددناه إلى أرذل العمر، وهو الهرم بعد الشباب، والضعف بعد القدرة، كقوله تعالى: { {وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخلق} }   

{ {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} }

القول الأول: رددناه أسفل السافلين في النار إلاَّ مَن آمن ممن هَدَاهُ بِوَاسِطَةِ الشَّرَائِعِ فَصَارَ بِاتِّبَاعِهَا يَبْلُغُ إِلَى مَرَاتِبِ الْمَلَائِكَةِ وَيَرْجِعُ إِلَى تَقْوِيمِهِ الْأَوَّلِ، كما في قوله تعالى: { {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} } [البقرة]

القول الثاني: لكن الذين آمنوا وكانوا صالحين من الهرمى، فلهم ثواب غير منقطع .. فالشيخ الهرم الخرف المسلم يكتب له ما كان يفعله أيام قدرته على العمل فأجره لا ينقطع إلا بموته.

{ {فما يُكَذِّبُك بعدُ بالدين} }

القول الأول: { {الدين} } الملة أو الشريعة، كقوله تعالى: { {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} } [آل عمران] وقوله: { {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا} } [آل عمران].

القول الثاني:: { {الدين} } الجزاء، كما في سورة الفاتحة { {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} } .. أي: فما سبب تكذيبك أيها الإنسان بعد هذا البيان القاطع، والبرهان الساطع بالجزاء ..

{ {يُكَذِّبُكَ} }: ينسبك يا محمد للكذب بسبب ما جئت به من الدين أو ما أنذرت به من الجزاء، وأسلوب هذا التركيب مؤذن بأنهم لم يكونوا ينسبون النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكذب قبل أن يجيئهم بهذا الدين

والمعنى

على القول «الجزاء»: هل يترك المرء هملا لا يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وقد بين تعالى هذا المعنى في عدة مواطن كقوله تعالى: { {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} } [صّ:28] الجواب لا،، وكقوله: {أمْ { حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} } [الجاثية:21] وفي قوله: { {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} } بيان لعدم عدالتهم في الحكم وبعده عن الحكمة.

ويمكن أن يكون المعنى: إنَّ خلق الإنسان من نطفةٍ، وتسويته بشراً سويًّا، وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوي، ثمّ تنكيسه إلى أن يبلغ أرذل العمر لا ترى دليلاً أوضح منه على قدرة الخالق، وأنَّ مَن قدر على خلق الإنسان على هذا النمط العجيب لم يعجز عن إعادته، فما سبب تكذيبك بالجزاء؟!

{ {أليس الله بأحكم الحاكمين} بلى فليس هناك أعدل من الله وأحسن حكما فكيف يظن إذا أن الناس يعملون متفاوتين في أعمالهم في هذه الدنيا ثم يموتون سواء ولا جزاء بعد بالثواب ولا بالعقاب هذا ظلم وباطل ومنكر ينزه الرب عنه سبحانه وتعالى فقضية البعث الآخر لا تقبل الجدل والمماحكة بحال من الأحوال .

والسؤال كما في سورة الشرح { {أَلَمْ نَشْرَحْ} } أي للإثبات، وهو سبحانه وتعالى بلا شك أحكم الحاكمين، كما ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا قرأها قال: ( «اللهم بلى» )

وقد اتفق المفسرون على رواية الترمذي لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا "من قرأ { {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} } فقرأ { {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} } فليقل: "بلى وأنا على ذلك من الشاهدين".

ومثله عن جابر مرفوعا وعن ابن عباس قوله: "سبحانك اللهم فبلى" والعلم عند الله تعالى.

** أخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال: أنزلت سورة { {والتين } } بمكة .

** وأخرج مالك وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن البراء بن عازب قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فصلى العشاء، فقرأ في إحدى الركعتين ب { {والتين والزيتون} }، فما سمعت أحداً أحسن صوتاً أو قراءة منه.

** وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد في مسنده والطبراني عن عبد الله بن يزيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب ب { {والتين والزيتون} } .

** وأخرج الخطيب عن البراء بن عازب قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب فقرأ { {والتين والزيتون} } .

** وأخرج ابن قانع وابن السكن والشيرازي في الألقاب عن زرعة بن خليفة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم من اليمامة، فعرض علينا الإِسلام، فأسلمنا، فلما صلينا الغداة قرأ ب { {والتين والزيتون} } و { {إنا أنزلناه في ليلة القدر} }.