التذكرة بأسباب حسن الخاتمة
وعن عمرو بن الحَمِق الخُزاعي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا، عَسَلَه قبل موته))، قيل: وما عَسَلَه؟ قال: ((يفتح له عملًا صالحًا بين يدي موته حتى يرضَى عنه))[4].
- التصنيفات: دعوة المسلمين -
إن الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، مَن يهدِهِ الله، فلا مضلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
أولًا: ((وإنما الأعمال بالخواتيم)):
عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحدَكم لَيَعمَلُ بعملِ أهل الجنَّة حتى ما يكونُ بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبِقُ عليه الكتابُ، فيعمَلُ بعمل أهل النار فيدخُلها، وإن أحدكم ليعملُ بعمل أهل النار، حتى ما يكونُ بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها))[1].
فالخاتمة المقصودة أن يُختم للعبد بما يُحب اللهُ عز وجل ويرضاه. فعن عبدالله، قال: حدَّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو الصادقُ المَصْدُوق - قال: ((إن أحدَكم يُجمَع في بطن أمِّه أربعين يومًا، ثم علقة مثل ذلك، ثم يكون مُضْغَة مثل ذلك، ثم يبعَثُ الله مَلَكًا فيُؤمَر بأربعٍ: برِزقه وأجَلِه، وشقي أو سعيد، فواللهِ إن أحدكم - أو الرجل - يعمَلُ بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير باعٍ أو ذراع، فيسبِقُ عليه الكتاب فيعمَل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعملُ بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراعٍ أو ذراعين، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها))، قال آدم: ((إلا ذراع))[2].
وعن سهلِ بن سعدٍ: أن رجلًا من أعظم المسلمين غَناءً عن المسلمين، في غزوةٍ غزاها مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((مَن أحَبَّ أن ينظر إلى الرجل من أهل النار، فلينظر إلى هذا))، فاتَّبعه رجلٌ من القوم، وهو على تلك الحال من أشدِّ الناس على المشركين، حتى جُرِح، فاستعجَل الموتَ، فجعل ذُبابةَ سيفِه بين ثديَيْه حتى خرج مِن بين كتفَيْه، فأقبَلَ الرجلُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسرعًا، فقال: أشهدُ أنك رسول الله! فقال: ((وما ذاك؟!))، قال: قلتَ لفلان: ((مَن أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار، فلينظر إليه))، وكان من أعظمنا غَناءً عن المسلمين، فعرَفْتُ أنه لا يموت على ذلك، فلما جُرح استعجل الموت فقَتَل نفسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: ((إن العبدَ ليعمَلُ عملَ أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عملَ أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنما الأعمال بالخواتيم))؛ رواه البخاريُّ (6607). إن حسن الخاتمة هو أن يُوفَّق العبدُ قبل موتِه للابتعاد عما يُغضِب الربَّ سبحانه، والتوبةِ مِن الذنوب والمعاصي، والإقبالِ على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موتُه بعد ذلك على هذه الحالِ الحسنة، ومما يدل على هذا المعنى ما صحَّ عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا، استعمله))، قالوا: وكيف يستعمله؟ قال: ((يُوفِّقه لعملٍ صالح قبل موته))[3].
وعن عمرو بن الحَمِق الخُزاعي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا، عَسَلَه قبل موته))، قيل: وما عَسَلَه؟ قال: ((يفتح له عملًا صالحًا بين يدي موته حتى يرضَى عنه))[4].
ثانيًا: من أسباب حسن الخاتمة:
السبب الأول: تحقيق الإيمان:
لقوله تعالى: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم: 27].
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم إذا سئل في القبر، يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فذلك قوله: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [إبراهيم: 27 ))[5].
وعن قتادةَ رضي الله عنه عن أنسِ بن مالك رضي الله عنه أنه حدَّثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن العبد إذا وُضِع في قبره، وتولَّى عنه أصحابه، إنه لَيسمَعُ قرعَ نعالِهم، أتاه ملَكانِ فيُقعِدانه، فيقولانِ: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجل، لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم؟ فأما المؤمن، فيقول: أشهد أنه عبدُ الله ورسولُه، فيقال له: انظر إلى مقعدِك من النار، قد أبدَلَك الله به مقعدًا من الجنة، فيراهما جميعًا)) - قال قتادة: وذكر لنا أنه يُفسَح له في قبره - قال: ((وأما المنافق والكافر، فيُقال له: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنتُ أقول ما يقولُ الناسُ، فيقال له: لا دريتَ ولا تليتَ، ويُضرَبُ بمطارقَ من حديدٍ ضربةً، فيصيح صيحةً يسمعها من يليه غيرَ الثقلين))[6].
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قبر الميتُ أتاه مَلَكانِ أسْودانِ أزرقانِ، يقال لأحدهما: المنكر، وللآخر: النَّكير، فيقولان: ما كنتَ تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبد الله ورسوله، فيقولان له: قد كنا نعلَمُ أنك تقول هذا، ثم يُفسَح له في قبره سبعون ذراعًا في سبعين، ثم ينوَّر له فيه، ثم يقال: نَمْ كنومةِ العروس الذي لا يُوقِظه إلا أحَبُّ أهله إليه، حتى يبعثَه الله تعالى، وإن كان منافقًا أو كافرًا، قال: سمعتُ الناس يقولون قولًا، فقلتُ مثله، لا أدري، فيقولان: قد كنا نعلَمُ أنك تقول ذلك، فيقال للأرض: التَئِمِي عليه، فتلتَئِمُ عليه، فتختلف أضلاعُه، فلا يزال فيها معذَّبًا حتى يبعَثَه الله من مضجعه ذلك))[7].
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: خرَجْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازةِ رجلٍ من الأنصار، فانتهَيْنا إلى القبر ولمَّا يُلحَد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأنما على رؤوسِنا الطير، وفي يده عودٌ ينكُتُ به في الأرض، فرفع رأسه، فقال: ((استعيذوا بالله من عذاب القبر)) مرتين أو ثلاثًا. زاد في حديث جريرٍ ((هاهنا)). وقال: ((وإنه ليسمَعُ خفقَ نعالِهم إذا ولَّوا مُدبِرينَ، حين يقال له: يا هذا، مَن ربُّك؟ وما دينك؟ ومَن نبيُّك؟)). قال هنَّاد: قال: ((ويأتيه ملكانِ فيُجلِسانه، فيقولان له: مَن ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولانِ له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعِث فيكم؟))، قال: ((فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان: وما يُدرِيك؟ فيقول: قرأتُ كتاب الله، فآمنتُ به وصدَّقت)). زاد في حديث جرير: ((فذلك قول الله عز وجل: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ الآية [إبراهيم: 27])). ثم اتفقا، قال: ((فيُنادِي منادٍ من السماء: أَنْ قد صدق عبدي، فأفرِشوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، وألبِسوه من الجنة))، قال: ((فيأتيه مِن رُوحها وطِيبها))، قال: ((ويفتح له فيها مدَّ بصرِه))، قال: ((وإن الكافر)) - فذكر موته قال -: ((وتُعاد رُوحه في جسده، ويأتيه ملَكان فيُجلسانه فيقولان: له من ربك؟ فيقول: هاه هاه هاه، لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري، فينادي منادٍ من السماء: أن كذَب، فأفرِشوه من النار، وألبِسوه من النار، وافتَحُوا له بابًا إلى النار))، قال: ((فيأتيه مِن حرِّها وسَمُومها))، قال: ((ويضيق عليه قبره حتى تختلفَ فيه أضلاعه)). زاد في حديث جرير قال: ((ثم يُقيَّض له أعمى أبكمُ، معه مرزبَّةٌ من حديد، لو ضُرب بها جبل لصار ترابًا))، قال: ((فيضرِبُه بها ضربةً يسمَعُها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين، فيصير ترابًا))، قال: ((ثم تعاد فيه الروح))[8].
السبب الثاني: الاستقامة: قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ﴾ [فصلت: 30، 31]. وعن سفيان بن عبدالله الثقفي رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسول الله، قُلْ لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال: ((قُلْ: آمنتُ بالله، ثم استَقِمْ))[9]،
وذكر تمام الحديث. وقوله: (﴿ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ ﴾) : قال مجاهد والسدي، وزيد بن أسلم، وابنه: يعني عند الموت قائلين: ﴿ أَلَّا تَخَافُوا ﴾: قال مجاهد، وعكرمة، وزيد بن أسلم: أي مما تقدمون عليه من أمرِ الآخرة. ﴿ وَلَا تَحْزَنُوا ﴾؛ [أي]: على ما خلَّفتموه من أمر الدنيا، من ولد وأهل، ومال أو دَين، فإنا نخلفكم فيه. ﴿ وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾، فيُبشِّرونهم بذَهابِ الشر، وحصولِ الخير. وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن أحَبَّ لقاء الله عز وجل، أحبَّ الله لقاءه، ومَن كرِه لقاء الله عز وجل، كرِه الله لقاءه))، فقالت عائشة: يا رسول الله، كراهية لقاء الله أن يكره الموت، فواللهِ إنَّا لنكرَهُه؟ فقال: ((لا، ليس بذاك، ولكن العبد المؤمن إذا قضى اللهُ عز وجل قبضه، فرَّج له عما بين يديه من ثواب الله عز وجل وكرامته، فيموت حين يموت وهو يحبُّ لقاء الله عز وجل واللهُ يحب لقاءه، وإن الكافر والمنافق إذا قضى الله عز وجل قبضَه، فرَّج له عما بين يديه من عذاب الله عز وجل وهوانه، فيموت حين يموت، وهو يكره لقاء الله والله يكره لقاءه))[10].
السبب الثالث: فعل العبد ما يوعظ به: لقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾ [النساء: 66 - 68].
السبب الرابع: الحفاظ على الصلاة: عن عبدالله رضي الله عنه، قال: "مَن سرَّه أن يلقى اللهَ غدًا مُسلمًا، فليحافِظْ على هؤلاء الصلوات حيث يُنادى بهنَّ، فإن الله شرع لنبيِّكم صلى الله عليه وسلم سننَ الهدى، وإنهن من سننِ الهدى، ولو أنكم صلَّيتم في بيوتكم كما يصلِّي هذا المتخلِّفُ في بيته، لتركتُم سُنَّة نبيكم، ولو تركتم سنةَ نبيكم لضلَلْتُم، وما من رجلٍ يتطهَّر فيُحسِن الطهورَ، ثم يعمدُ إلى مسجدٍ من هذه المساجد، إلا كتب الله له بكلِّ خطوة يخطوها حسنةً، ويرفعه بها درجة، ويحطُّ عنه بها سيئة، ولقد رأيتُنا وما يتخلَّف عنها إلا منافقٌ معلومُ النفاق، ولقد كان الرجل يُؤتى به يُهادَى بين الرجلينِ حتى يُقامَ في الصف"[11].
الشاهد من الحديث: "مَن سرَّه أن يلقى الله غدًا مسلمًا، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث يُنادى بهن".
السبب الخامس: فعل الطاعات وترك السيئات: لقوله تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [الجاثية: 21]. عن قتادة رضي الله عنه: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ... ﴾ الآية، لَعَمْري لقد تفرَّق القوم في الدنيا، وتفرَّقوا عند الموت، فتباينوا في المصير.
السبب السادس: حسن اختيار الرفيق:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الرجلُ على دين خليلِه، فلينظُرْ أحدكم مَن يُخالِل))[12].
قوله: ((الرجل))؛ يعني الإنسان. ((على دين خليله))؛ أي: على عادة صاحبه وطريقته وسيرته. ((فلينظُرْ))؛ أي: فليتأمَّل وليتدبر. ((مَن يُخالِل)): من المخالَّة، وهي المصادقة والإخاء، فمَن رضي دينَه وخُلُقه خالَلَه، ومَن لا، تجنَّبَه؛ فإن الطباع سرَّاقة، والصُّحبة مؤثِّرة في إصلاح الحال وإفساده. قال الغزالي: مجالسة الحريص ومخالطته تُحرِّك الحرص، ومجالسة الزاهد ومخاللته تزهد في الدنيا؛ لأن الطباع مجبولةٌ على التشبه والاقتداء، بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدري. وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما مَثَل الجليسِ الصالح والجليس السُّوء كحامل المسك ونافخ الكير؛ فحامل المسك إما أن يُحْذِيَك، وإما أن تبتاعَ منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيِّبة، ونافخ الكِير إما أن يُحرِقَ ثيابك، وإما أن تجد ريحًا خبيثة))[13].
السبب السابع: المداومة على عبادة الله: لقوله تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99]. وعن مجاهد رضي الله عنه في قوله: ﴿ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾، قال: الموت[14].
وقال أبو إسحاق: مجازُ هذا الكلام مجازٌ أبدًا؛ المعنى: اعبُدْ ربك أبدًا؛ لأنه لو قيل: اعبُدْ ربك - بغير توقيتٍ - لجاز إذا عبد الإنسان مرةً أن يكون مطيعًا، فإذا قال: ﴿ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾؛ أي: أبدًا، وما دمتَ حيًّا، فقد أمر بالإقامة على العبادة[15].
وقال تعالى عن نبيِّه عيسى عليه السلام - وهو في المهد -: ﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴾ [مريم: 31].
السبب الثامن: تجدد التوبة لكل ذنب: لقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [آل عمران: 135، 136]، ولقوله تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70].
قال العلامة القرطبي رحمه الله في تفسيره: "... فلا يبعد في كرمِ الله تعالى إذا صحَّت توبة العبد أن يضع مكانَ كلِّ سيئةٍ حسنةً، وقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: ((أَتْبِعِ السيئةَ الحسنةَ تَمْحُها، وخَالِقِ الناسَ بخُلُق حسن))".
ففي صحيح البخاري من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: ((إن المؤمنَ يرى ذنوبه كأنه قاعدٌ تحت جبل يخافُ أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذُبابٍ مرَّ على أنفه، فقال به هكذا)). قال العلامة ابن بطَّال رحمه الله في شرحه لصحيح البخاري: (فينبغي لمن أراد أن يكونَ مِن جملة المؤمنين أن يخشى ذنوبه، ويعظُم خوفُه منها، ولا يأمَن عقاب الله عليها فيستصغرها؛ فإن الله تعالى يعذِّب على القليل وله الحجة البالغة في ذلك).
السبب التاسع: الاهتمام بصلاح القلب: عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الحلال بيِّن، وإن الحرام بيِّن، وبينهما أمورٌ مشتبهات، لا يعلَمُهنَّ كثيرٌ من الناس، فمَن اتَّقى الشبهات استبرأَ لدينه وعِرْضه، ومَن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحِمَى يُوشِك أن يرتَعَ فيه، ألا وإنَّ لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمُه، ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صلَحت صلَح الجسد كلُّه، وإذا فسَدت فسَد الجسد كله، ألا وهي القلب))[16].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا ينظر إلى صُوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))[17].
السبب العاشر: الصدق مع الله :
عن شدَّاد بن الهاد رضي الله عنه: أن رجلًا من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمَنَ به واتَّبعه، ثم قال: أُهاجِرُ معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعضَ أصحابه، فلما كانت غزوةٌ، غَنِمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم سبيًا، فقَسَمَ وقَسَمَ له، فأعطى أصحابه ما قَسَمَ له، وكان يرعى ظهرَهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسمٌ قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا؟ قال: ((قسمتُه لك))، قال: ما على هذا اتَّبعتُك، ولكني اتَّبعتُك على أن أُرمَى إلى هاهنا - وأشار إلى حلقه - بسهمٍ فأموت فأدخل الجنة، فقال: ((إن تصدُقِ اللهَ يصدُقْك))، فلبِثوا قليلًا، ثم نهضوا في قتالِ العدو، فأُتِي به النبيَّ صلى الله عليه وسلم يُحمَل قد أصابه سهمٌ حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أهو هو؟))، قالوا: نعم، قال: ((صدق اللهَ فصدَقَه))، ثم كفَّنه النبي صلى الله عليه وسلم في جُبَّة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدَّمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: ((اللهم هذا عبدُك، خرج مهاجرًا في سبيلك، فقُتِل شهيدًا، أنا شهيدٌ على ذلك))[18].
السبب الحادي عشر: أن يرجوَ اللهَ عند الموت وأن يخافَ ذنوبه: عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخَل على شابٍّ وهو في الموت، فقال: ((كيف تَجِدُك؟))، قال: والله يا رسول الله، إني أرجو الله، وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يجتمعانِ في قلب عبدٍ في مِثلِ هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو، وآمنه مما يخاف))[19].
السبب الثاني عشر: حسن الظن بالله:
عن جابرٍ رضي الله عنه قال: سمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلَ موتِه بثلاثة أيام يقول: ((لا يموتنَّ أحدُكم إلا وهو يُحسِنُ الظنَّ بالله))[20].
وفي ثقات ابن حبان أن بعضَ السلف سُئِل عن معناه، فقال: معناه أنه لا يجمعه والفجَّار في دار واحدة. وقال الخطابيُّ: معناه: أحسِنوا أعمالكم حتى يحسُنَ ظنُّكم بربكم؛ فمَن أحسن عمله حسُنَ ظنُّه بربه، ومَن ساء عمله ساء ظنه.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: ((قال الله: أنا عند ظنِّ عبدي بي)). وروى ابن أبي الدنيا في كتاب المحتضَرين عن إبراهيم قال: كانوا يستحبُّون أن يُلقِّنوا العبد محاسن عمله عند موته؛ لكي يحسن ظنه بربه. وعن سوار بن معتمر قال: قال لي أبي: حدِّثني بالرُّخَص؛ لعلي ألقى الله وأنا حسنُ الظن به. قال الإمام النووي في "شرح مسلم": قال العلماء: هذا تحذيرٌ من القنوط، وحثٌّ على الرجاء عند الخاتمة، وفي الحديث القدسي: ((أنا عند حُسن ظن عبدي بي))، ومعنى حسن الظن بالله تعالى أن يظن أنه يرحَمُه ويعفو عنه، وفي حالة الصحة يكون خائفًا راجيًا، ويكونان سواءً، وقيل: يكون الخوف أرجح، فإذا دَنَت أَماراتُ الموت غلب الرجاء أو محضه؛ لأن مقصود الخوف الانكفافُ عن المعاصي والقبائح، والحرص على الإكثار من الطاعات والأعمال، وقد تعذَّر ذلك أو معظمه في هذه الحال، فاستحب إحسان الظن المتضمِّن للافتقار إلى الله تعالى، والإذعان له. وقال في "شرح المهذب" 5/ 108: ومعنى يُحسِنُ الظنَّ بالله تعالى: أن يظن أن الله تعالى يرحمه ويرجو ذلك، ويتدبر الآيات والأحاديث الواردة في كرم الله سبحانه وتعالى وعفوه ورحمته، وما وعد به أهلَ التوحيد، وما ينشره من الرحمة لهم يوم القيامة؛ كما قال سبحانه وتعالى في الحديث الصحيح: ((أنا عند ظن عبدي بي))، هذا هو الصواب في معنى الحديث، وهو الذي قاله جمهور العلماء، وشذَّ الخطابي فذكر معه تأويلًا آخر، أن معناه: أحسِنوا أعمالكم حتى يحسن ظنكم بربكم؛ فمَن حسن عمله حسن ظنه، ومن ساء عمله ساء ظنه، وهذا تأويل باطل نبَّهتُ عليه؛ لئلَّا يُغتَرَّ به
السبب الثالث عشر: أن تأتيه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، ويحب للناس ما يحب لنفسه:
عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن أحَبَّ أن يُزَحْزَح عن النار ويدخل الجنة، فلتأتِه منيَّتُه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناس الذي يحبُّ أن يُؤتَى إليه))[21].
السبب الرابع عشر: الدعاء: عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُكثِرُ أن يقول: ((يا مُثبِّتَ القلوب، ثبِّت قلبي على دينك))، قالوا: يا رسول الله، آمنَّا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: ((نعم، إن القلوب بين إصبعينِ مِن أصابع الله يُقلِّبها))[22].
وعن شهر بن حوشب قال: قلتُ لأم سلمة: يا أم المؤمنين، ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك؟ قالت: كان أكثر دعائه: ((يا مُقلِّب القلوب، ثبِّت قلبي على دينِك))، قالت: فقلتُ: يا رسول الله، ما أكثر دعاءَك يا مُقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك؟ قال: ((يا أم سلمة، إنه ليس آدميٌّ إلا وقلبُه بين إصبعينِ من أصابع الله، فمَن شاء أقام، ومَن شاء أزاغ))، فتلا معاذ: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾ [آل عمران: 8] [23].
السبب الخامس عشر: تقوى الله:
لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
وعن سفيان وشعبة، عن زبيد اليامي، عن مُرة، عن عبدالله - هو ابن مسعود -: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾، قال: أن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُذكَرَ فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفَر، وهذا إسناد صحيح موقوف، وقد تابع مُرةً عليه عمرُو بن ميمون عن ابن مسعود. وقد ذهب سعيد بن جبير، وأبو العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، ومقاتل بن حيان، وزيد بن أسلم، والسدي وغيرهم - إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16]. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾، قال: لم تُنسخ، ولكن (حق تقاته) أن يجاهدوا في سبيله حق جهاده، ولا تأخُذهم في الله لومةُ لائمٍ، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم. وقوله: ﴿ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾؛ أي: حافِظُوا على الإسلام في حال صحَّتِكم وسلامتكم لتموتوا عليه؛ فإن الكريم قد أجرى عادتَه بكرمه أنه مَن عاش على شيءٍ مات عليه، ومَن مات على شيء بُعِث عليه، فعياذًا بالله من خلاف ذلك. وقال قتادة في قول الله عز وجل: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾ [الطلاق: 2]، قال: مِن الكرب عند الموت. وقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا * ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ﴾ [الطلاق: 4، 5].
السبب السادس عشر: معرفة العبد لربه عز وجل في حال الرخاء: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن سرَّه أن يستجيب اللهُ له عند الشدائد والكربِ، فليُكثِر الدعاء في الرخاء))[24]. وعن حنش الصنعاني، عن ابن عباس أنه قال: كنتُ رديفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا غلامُ - أو يا غُلَيم - أَلَا أُعلِّمك كلمات ينفعك الله بهن؟))، فقلت: بلى، فقال: ((احفَظِ اللهَ يحفَظْك، احفَظِ الله تجِدْه أمامَك، تعرَّف إليه في الرخاء، يعرِفْك في الشدة...)) الحديث[25]. قوله: ((تعرَّف إليه))، قال السندي: هو بتشديد الراء؛ أي: تحبَّب إليه بلزوم طاعته واجتناب معصيته؛ لأن المعرفة سبب المحبة، والرخاء مقابل الشدة، ويعرِفْك (بالجزم) على أنه جواب الأمر؛ أي: يُعِنْك في الشدة. وعن عمران بن حصين صاحب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثٌ يُدرِكُ بهن العبدُ رغائبَ الدنيا والآخرة: الصبر عند البلاء، والرضا بالقضاء، والدعاء في الرخاء"[26].
وعن سالم بن أبي الجعد، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: يا أهل حمص، ما لي أرى علماءَكم يذهبون، وأرى جهَّالكم لا يتعلمون، وأراكم قد أقبَلْتُم على ما تكفَّل لكم به، وضيَّعتم ما وُكِّلتم به؟! اعلَموا قبل أن يُرفع العلم، فإن رفعَ العلمِ ذَهاب العلماء، لولا ثلاث صلح الناس: شحٌّ مطاع، وهوًى متَّبع، وإعجاب المرء بنفسه، مَن يُكثِر قرع الباب يُفتَحْ له، ومَن يُكثِر الدعاء في الرخاء يستجاب له عند الكرب، ومَن رُزِق قلبًا شاكرًا، ولسانًا ذاكرًا، وزوجة مؤمنةً، فنِعْمَ الخيراتُ له، لم يترك من الخيرات شيئًا[27].
فمَن ذكر الله في حال صحته ورخائه، واستعدَّ حينئذٍ للقاء الله بالموت وما بعده، ذكَرَه الله عند هذه الشدائد، فكان معه فيها، ولطف به، وأعانه، وتولَّاه، وثبَّته على التوحيد، فلقِيه وهو عنه راضٍ. ومَن نسِي اللهَ في حال صحته ورخائه، ولم يستعدَّ حينئذٍ للقائه، نسِيَه الله في هذه الشدائد، بمعنى أنه أعرض عنه وأهمله.
السبب السابع عشر: الزهد في الدنيا: عن ابن كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ذئبانِ جائعانِ أُرسِلَا في غنمٍ بأفسدَ لها مِن حرص المرء على المال، والشرف - لدِينِه))[28].
وعن محمود بن لَبيد، عن قتادة بن النعمان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أحبَّ الله عبدًا، حماه الدنيا، كما يظَلُّ أحدُكم يحمي سقيمَه الماءَ))[29].
وعن فَضالة بن عُبَيد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((اللهم مَن آمَنَ بك، وشهِد أني رسولُك، فحبِّب إليه لقاءك، وسهِّل عليه قضاءك، وأقلِلْ له من الدنيا، ومَن لم يؤمن بك ولم يشهد أني رسولُك، فلا تُحبِّب إليه لقاءك، ولا تُسهِّل عليه قضاءك، وأكثِرْ له من الدنيا))[30].
السبب الثامن عشر: كثرة ذكر الموت وزيارة القبور والعدة لذلك:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثِرُوا ذكرَ هاذمِ اللذَّات))؛ يعني الموت[31]. وعن مجاهد، عن ابن عمر قال: أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عاشر عشرةٍ، قال: فجاء رجلٌ من الأنصار، فقال: يا نبي الله، مَن أكيسُ وأحزم الناس؟ قال: ((أكثرُهم ذكرًا للموت، وأشدُّهم استعدادًا قبل نزول الموت، أولئك هم الأكياس، ذهبوا بشرفِ الدنيا وكرامة الآخرة))[32].
وعن عبدالله بن أبي بكر، قال: سمعتُ أنس بن مالك يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يتبعُ الميتَ ثلاثةٌ، فيرجعُ اثنانِ ويبقى واحدٌ؛ يتبعه أهلُه ومالُه وعملُه، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله))[33].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((زُورُوا القبور؛ فإنها تُذكِّرُكم الآخرة))[34].
وقال السدي في قوله تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 2]؛ أي: أكثرُكم للموت ذكرًا، وله أحسن استعدادًا، ومنه أشد خوفًا وحذرًا. قال الإمام القرطبي في التذكرة: "قال الدقاق: مَن أكثَرَ من ذكرِ الموت، أُكرِم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومَن نسي الموت، عُوقِب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة". وعن البراء رضي الله عنه، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فجلَس على شفير القبر، فبكى حتى بل الثرى، ثم قال: ((يا إخواني، لمِثْلِ هذا فأَعِدُّوا))[35].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــ
[1] رواه مسلم (2643).
[2] رواه البخاريُّ (6594).
[3] إسناده صحيح على شرط الشيخين؛ ابن أبي عاصم في "السنة" (399) من طريق ابن أبي عدي، بهذا الإسناد، وأخرجه الترمذي (2143)، وابن أبي عاصم (397) و(398)، وابن حبان (341)، والطبراني في "الأوسط" (1962)، والحاكم 1/339 -340، من طرقٍ عن حُميد، به؛ "استعمله"؛ أي: في الخير.
[4] رواه ابن حبان في "صحيحه" (342،343)؛ [تعليق الألباني: صحيح] - "الصحيحة" (1114).
[5] رواه البخاريُّ (4699)، و (1369)، ومسلم (2871) (73)، وأبو داود (4750)، وابن ماجه (4268)، والترمذي (3385)، والنسائي في "الكبرى" (2195) و(11200) من طرق عن شعبة، به، وأخرجه موقوفًا مسلمٌ (2871) (74)، والنسائي في "الكبرى" (2194) من طريق خيثمة، عن البراء.
[6] رواه البخاريُّ (1338، 1374)، ومسلم (2870)، وأبو داود (4750).
[7] الترمذي (1071)، وابن حبان، (3107)، [تعليق الألباني: حسن صحيح] - "الصحيحة" (1391)، "الظلال" (8641).
[8] صحيح: رواه أبو داود (4753)، وصححه الألباني.
[9] مسلم (62)، وأحمد (15416)، وابن حبان (5698).
[10] صحيح: رواه أحمد (25831)، وابن حبان (3010).
[11] مسلم (654)، وأحمد (3936)، وابن حبان (2100).
[12] حسن: رواه أحمد في "المسند" (8028)، وأبو داود (4833)، والترمذي (237)، وحسَّنه الألباني.
[13] رواه البخاريُّ (5534)، ومسلم (2628).
[14] الدر 5/ 105.
[15] "معاني القرآن وإعرابه" 3/ 187 بنصه، وفي هذا ردٌّ على أهل الضلال الذين جعَلوا للعبادة أجلًا تنتهي عنده؛ لذلك فسَّروا اليقين بالمعرفة، فإذا وصل أحدهم إلى مقام المعرفة، سقط عنه التكليف! انظر: "تفسير ابن كثير" 2/ 617، والألوسي 14/ 87، والقاسمي 10/ 75.
[16] رواه البخاريُّ (52)، ومسلم (1599)، وأحمد في "المسند" (18374)، وابن ماجه (3984).
[17] مسلم (2564)، وأحمد (7827)، وابن ماجه (4143).
[18] صحيح؛ رواه النسائي (1953)، [حكم الألباني: صحيح].
[19] أخرجه عبدُ بن حُمَيد (1370)، والترمذي رقم (983)، وابن ماجه (4261)، وأبو يعلى (3303)، والبيهقي في شعب الإيمان (1002)، والضياء (1587)، قال الألباني: حسن صحيح؛ صحيح الترغيب والترهيب (3383)، و"المشكاة" 1612.
[20] أخرجه مسلم (2877)، وابن ماجه (4167) من طريق الأعمش؛ به، وأخرجه مسلم (2877) من طريق أبي الزبير، عن جابر.
[21] رواه مسلم (1844).
[22] رواه أحمد (12107)، والترمذي (2140)، وأخرجه ابن ماجه (3834)، والحاكم في "مستدركه" 1/526 [حكم الألباني: صحيح].
[23] صحيح: رواه الترمذي رقم (3522)؛ انظر: صحيح الجامع: 4801، الصحيحة: 2091.
[24] حسن: رواه الترمذي (3382) وأبو يعلى في "مسنده" (6397)، والحاكم (1997)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6290) الصحيحة: 593، صحيح الترغيب والترهيب: 1628.
[25] رواه أحمد (2669)، وأخرجه الترمذي (2516).
[26] الزهد؛ لأبي داود (392).
[27] الزهد؛ لأبي داود (225).
[28] أخرجه الترمذي (2376).
[29] صحيح: رواه الترمذي (2036)، وابن حبان (669) "المشكاة" (5250/ التحقيق الثاني).
[30] صحيح: رواه ابن حبان (208)، والطبراني (808)؛ "الصحيحة" (1338) و"صحيح الجامع" 1311.
[31] أخرجه أحمد (7912)، والترمذي (2307)، وابن ماجه (4258)، والنسائي (1824) وابن حبان (2992) [حكم الألباني: حسن صحيح].
[32] أخرجه الطبراني في "الكبير" (13536)، و"الصغير" (1008) من طريق سعيد بن يحيى به، وأخرجه ابن ماجه (4259)، والحاكم (4/ 540) من وجه آخر عن ابن عمر به، وحسَّنه بطرقه الألباني في "الصحيحة" (1384). [33] البخاري (6514)، ومسلم (2960)، وأحمد (12080)، والترمذي (2379)، والنسائي (1937).
[34] أخرجه ابن ماجه (1569) و(1572)، والنسائي (2034) من طريق محمد بن عُبيد الطنافسي، بهذا الإسناد، ولفظ ابن ماجه الأول مختصر بلفظ: ((زوروا القبور؛ فإنها تذكركم الآخرة))، وهو في "مسند أحمد" (9688)، و"صحيح ابن حبان" (1572).
[35] أخرجه ابن ماجه (4195) [تعليق محمد فؤاد عبدالباقي: في الزوائد إسناده ضعيف، قال ابن حبان في الثقات: محمد بن مالك لم يسمع من البراء، ثم ذكره في الضعفاء]، وحسَّنه الألباني.
وجزاكم الله خيرًا
أخيكم في الله/ صلاح عامر