حلاوة العباد ولذتها-1

فهد بن عبد العزيز الشويرخ

لذكر الله حلاوة ولذة, قال مالك بن دينار : ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله"

  • التصنيفات: التقوى وحب الله -

 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فإن السعيد من فتح له باب حلاوة الطاعة والعبادة الشارحة للصدر المزيلة للهم والحزن الموصلة لنعيم الآخرة وهذه الحلاوة قال عنها من ذاقها من سلف هذه الأمة : مساكين أهل الدنيا, خرجوا منها, وما ذاقوا لذيذ العيش فيها, وما ذاقوا أطيب ما فيها, وقال الآخر : إن في الدنيا جنة, من لم يدخلها, لم يدخل جنة الآخرة, وقال ثالث : لو علم الملوك وأبناء الملوك, ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.

للعبادة حلاوة, من وجدها أحسَّ بانشراحٍ في صدره, وسعادة في قلبه, أثناء قيامه بأداء العبادات, وبعد الانتهاء منها, وأحسَّ بتعلق قلبه بالعبادة, فهو لا يبرح من أداءها حتى يتشوق لفعلها مرة ثانية, وأحسَّ بسهولة وبحلاوة في أدائها, وهذه الحلاوة تتفاوت من إنسان إلى آخر, ومن وقت لآخر, بحسب قوة الإيمان واليقين وضعفه, وهذه الحلاوة تحصل بحصول أسبابها, وتزول بزوالها, وتضعف بضعفها.

قال القاضي عياض رحمه الله : المؤمن إذا دخل قلبه الإيمان, سهلت عليه طاعات ربه, ولذت له, ولم يشق عليه معاناتها, وقال الإمام النووي رحمه الله : قال العلماء رحمهم الله : معني حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات, وتحمل المشقات في رضي الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم, وإيثار ذلك على عرض الدنيا, وقال الإمام ابن رجب رحمه الله : إذا ذاق العبد حلاوة الإيمان, ووجد طعمه وحلاوته, ظهر ثمرة ذلك على لسانه وجوارحه, فاستحلى ذكر الله وما والاه, وأسرعت الجوارح إلى طاعة الله

حلاوة محبة الله جل جلاله

قال العلامة ابن القيم رحمه الله : المحبة..المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون, وإليها شخص العاملون, وإلى علمها شمَّر السابقون, وعليها تنافس المحبّون, وبروح نسيمها تروَّح العابدون, فهي قوت القلوب, وغذاء الأرواح, وقُرَّةُ العيون, وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات, والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات, والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميعُ الأسقام, واللَّذَّةُ التي من لم يظفر بها فعيشه كلُّه هموم وآلام.

وقال رحمه الله : من ذاق حلاوة معرفة الله والقرب والأنس به, لم يكن له أمل في غيره.

وقال رحمه الله : محبة الله سبحانه والأُنس به, والشوق إلى لقائه, والرضا به وعنه, أصل الدين...فليس عند القلوب السليمة والأرواح الطيبة والعقول الزكية أحلى ولا ألذَ ولا أطيب ولا أسرُّ..من محبته والأنس به والشوق إلى لقائه....والحلاوة التي يجدها المؤمن في قلبه بذلك فوق كل حلاوة, والنعيم الذي يحصل له بذلك أتمّ من كل نعيم, واللذة التي تناله أعلى من كل لذة....فمن كان بالله سبحانه وأسمائه وصفاته أعرف, وفيه أرغب, وله أحب, وإليه أقرب, وجد من هذه الحلاوة في قلبه ما لا يمكن التعبير عنه, ولا يُعرفُ إلا بالذوق والوجد, ومتى ذاق القلب ذلك لم يمكنه أن يقدم عليه حبّاً لغيره, ولا أُنساً به, وكلما ازداد له حباً ازداد له عبودية وذلاً وخضوعاً ورقاً له, وحرية عن رقِّ غيره.

وقال العلامة محمد بن صالح  العثيمين رحمه الله : لا تجد شيئاً ألذّ من محبة الله سبحانه وتعالى

حلاوة الإيمان

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : الإيمان إذا باشر القلب, وخالطته بشاشته...له من الحلاوة في القلب, واللذة, والسرور, والبهجة, ما لا يمكن التعبير عنه لمن لم يذقه, والناس متفاوتون في ذوقه, وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله : حلاوة الإيمان : ما يجده الإنسان في نفسه وقلبه من الطمأنينة والراحة والانشراح, وليست مُدركة باللعاب والفم...فالإيمان له حلاوة وله طعم لا يدركه إلا من أسبغ الله عليه نعمته بهذه الحلاوة وبهذا الطعم, وقال رحمه الله : الإيمان...له مذاق لا يماثله مذاق, لا مذاق السكر, ولا العسل, ولا غيره, فكلما قوى الإيمان, وجد الإنسان للإيمان طعماً لا يماثله شيء من طُعوم الدنيا أبداً, وقال رحمه الله : طعم الإيمان يبقي مدة طويلة, حتى إن الإنسان أحياناً يفعل عبادة في صفاء وحضور قلب وخشوع لله عز وجل, فتجده يتطعم بتلك العبادة مدة طويلة, فالإيمان له حلاوة وله طعم لا يدركه إلا من أسبغ عليه نعمته بهذه الحلاوة وهذا الطعم.

وأكثر المسلمين لم يذوقوا حلاوة الإيمان, قال الله جل جلاله :  { قالت الأعراب آمنا قُل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } [الحجرات:14] قال العلامة ابن القيم رحمه الله : فهؤلاء مسلمون, وليسوا بمؤمنين, لأنهم ليسوا ممن باشر الإيمان قلبه, فذاق حلاوته وطعمه, وهذا حال أكثر المنتسبين إلى الإسلام.

ومن الأعمال تنال بها حلاوة الإيمان : غض البصر عن ما حرم الله

قال الإمام ابن القيم رحمه الله : في غضِّ البصر..منافع...الثاني عشر : حلاوة الإيمان ولذته.

ومنها : أن تكون محبة الله ورسوله أحب إليه مما سواهما,المحبة في الله,أن يكره أن يعود في الكفر.

فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من كنّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما, وأن يُحبّ المرء لا يُحبهُ إلا لله, وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار» [متفق عليه]

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :محبة الله على قسمين فرض وندب,فالفرض المحبة التي تبعث على امتثال أوامره والانتهاء عن معاصيه والرضا بقدره والندب أن يواظب على النوافل ويتجنب الوقوع في الشبهات..وكذلك محبة الرسول على قسمين كما تقدم ويزاد أن لا يتلقي شيئاً من المأمورات والمنهيات إلا من مشكاته ولا يسلك إلا طريقته ويرضي بما شرعه.ويتخلق بأخلاقه في الجود والإيثار والحلم والتواضع وغيرها..فمن جاهد نفسه على ذلك وجد حلاوة الإيمان.

ومنها الرضا بقضاء الله وبشرعة وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً.فعن العباس رضي الله عنه أن النبي صلى اله عليه وسلم قال  : «ذاق طعم الإيمان, من رضي بالله رباً, وبالإسلام ديناً, وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً »[أخرجه مسلم] قال الإمام ابن رجب رحمه الله : الرضا بربوبية الله تتضمن الرضا بعبادته وحده لا شريك له, وبالرضا بتدبيره للعبد واختياره له والرضا بالإسلام ديناً يتضمن اختياره على سائر الأديان, والرضا بمحمد رسولاً يتضمن الرضا بجميع ما جاء به من عند الله وقبول ذلك بالتسليم والانشراح كما قال تعالى :   {فلا وربك لا يؤمنون حتَّى يُحكّموك فيما شجر بينهم} [النساء:65]

قال العلامة ابن عثيمين:قوله صلى الله عليه وسلم(من رضي بالله رباً) يشمل رُبوبية الشرع ورُبُوبية القدر فربوبية القدر:أن يرضي بقضاء الله تعالى وقدره, له أو عليه, ورُبُوبية الشرع: أن يرضي بشرع الله تعالى, أمراً كان أو نهياً...وقوله : (وبالإسلام ديناً) يُخرجُ جميع الأديان سوى الإسلام..وقوله :(وبمُحمدٍ رسولاً ) يعني مُتبعاً

وإذا خالطت حلاوة الإيمان القلب, جعلت صاحب هذا القلب يتمسك بدينه, ولا يرتد عنه, مهما كانت الأسباب, ومهما كثرت المغريات, ومهما تنوعت طرق الإغراء, ومهما تعددت أشكال الإغواء, فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال : أخبرني أبو سفيان أن هرقل قال له : سألتك هل يزيدون أم ينقصون, فزعمت أنهم يزيدون, وكذلك الإيمان حتَّي يتم, وسألتك هل يرتد أحد سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ فزعمت أن لا, وكذلك الإيمان حينَ تُخالط بشاشتُهُ القُلُوب لا يسخطه أحد.

حلاوة الذكر

لذكر الله حلاوة ولذة, قال مالك بن دينار : ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله"

ومن يكثر من ذكر الله بقلبه ولسانه, يجدُّ لذكره حلاوةً في قلبه, وانشراحاً في صدره, وأُنساً وفرحاً في نفسه, ولذةً لا تماثلها لذة, قال العلامة ابن القيم رحمه الله : للذكر من بين الأعمال لذة لا يشبهها شيء, فلو لم يكن للعبد من ثوابه إلا اللذة الحاصلة للذاكر, والنعيم الذي يحصل لقلبه لكفى به, ولهذا سميت مجالس الذكر رياض الجنة...فليس شيء من الأعمال أخف مؤونة منه, ولا أعظم لذة, ولا أكثر فرحة وابتهاجاً للقلب. 

وقد يحرم العبد هذه الحلاوة وهذه اللذة بسبب حبُّ الدنيا, قال مالك بن دينار رحمه الله : وقد روي أن الله سبحانه وتعالى يقول : إن أهون ما أنا بصانع بالعالم إذا أحبَّ الدنيا أن أخرج حلاوة ذكري من قلبه, وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : قال بعض الحكماء : الذكر للقلب بمنزلة الغذاء للجسد, فكما لا يجدُ الجسد لذة الطعام مع السقم فكذلك القلب لا يجد حلاوة الذكر مع حب الدنيا.