في رحاب سورة العصر

محمد سيد حسين عبد الواحد

عَنْد البخارى رحمه الله من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَال«تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِىَ رضي وَإِنْ مُنِعَ سَخِطَ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ»

  • التصنيفات: التفسير -


أما بعد فيقول رب العالمين سبحانه وتعالى  { َلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَت لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ

وعَنْد البخارى رحمه الله من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَال« تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِىَ رضي وَإِنْ مُنِعَ سَخِطَ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ» 

أيها الإخوة المؤمنون أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم هو تلكم المعجزة الخالدة التي بقيت لنا بعد وفاة رسولنا صلى الله عليه وسلم شاهدة على الرسالة الإلهية التى خاطب الله تعالى بها البشر ليتمسكوا بها فينالوا الخير في دنياهم وأخراهم

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تركت فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدى ابدا كتاب الله وسنه رسوله»
من هنا كان القرآن الكريم بما يحويه بين دفتيه من سور كريمة ومن آيات بينات بمثابة الدستور والقانون الذي وضعه الله تعالى لهذه الأمة من أجل أن ينير لها الطريق الأصوب و الأصلح ويعطيها مفاتيح الخير ويجنبها كل ما في الحياة من مساوئ و خطايا

{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}

كلما كانت نظرة الإنسان منا عند قراءة القرآن نظرة تدبر وتعقل وتفكر كان وقعها في النفس أكبر وكان للآيات أثرا واضحا في سلوك الإنسان منا وقوله وعمله وهذا ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم

سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالت كان خلقه القرآن ذلك أنه جعل من آيات القرآن منهجاً لحياته قراءةً وتدبراً وتطبيقاً عاش رسول الله من الحياة ما عاش وكانه قران يمشى على الارض
وعاش الصحابة رضوان الله تعالى عليهم فى حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته ليعيشوا الحياة على ما كان عليه النبى صلى الله عليه وسلم

قال ابن مسعود رضي الله عنه
(لا تهذُّوا القرآن هذَّ الشعر ولا تنثروه نثر الدقل قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن همُّ أحدكم آخر السورة) وقال إن أحدكم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط حرفاً وقد أسقط العمل به )
وقال علي بن أبي طالب( لا خير في قراءة لا تدبر معها)

ومن هنا كان حديثنا اليوم أيها المؤمنون عن سورة من المفصل من سور القران
سورة عدد آياتها لا يتجاوز الآيات الثلاث يحفظها منا الصغير والكبير هذه السورة هى حجة الله تعالى على عبادة
قال الله سبحانه وتعالى:

( {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} )

قال الإمام الشافعي رحمه الله لو لم ينزل من القران غير هذه السورة لكفت الناس وقال فى موضع آخر( لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم)
ليس مراده أن هذه السورة كافية للخلق عن جميع القران وإنما المعنى لكانت كافيه لهم تعظهم وتذكرهم

وقد وقع الاختيار هذا الأسبوع على هذه السورة الكريمة سورة العصر لأنها ترسم لنا منهجاً كاملاً للحياة الإسلامية التى ترضى الله ورسوله

وقد عرف سلفنا الصالح ما لهذه السورة من الأهمية البالغة حتى كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا وجلسا فى مجلس لم يفترقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر
(وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)ثمًَّ يسلِّم أحدهما على الآخر وينصرفا

سورة العصر تؤكد انه ليس هناك إلا منهج واحد وطريق واحد رابح هو ذلك المنهج الذي رسمت سورة العصر حدوده ووصفت معالمه ، وكل ما وراء ذلك من الطرق إنما هو ضياع وخسار

( {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} )

فى مطلع السورة الكريمة اقسم الله تعالى ب (العصر)
وهو (الدهر) او الزمان ميدان العاملين ومضمار المتسابقين والمتنافسين

اقسم الله تعالى بالعصر وهو مخلوق من خلق الله تعالى ولله أن يقسم بما شاء من خلقه

اقسم الله فى القران بالطور وبالكتاب المسطور واقسم بالنجم إذا هوى واقسم بالفجر وليال عشر
واقسم بالليل والشمس والضحى والتين والزيتون والعصر واقسم بحياة النبى محمد صلى الله عليه وسلم

لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه أما أنا وأنت فليس لنا أن نقسم إلا بالله سبحانه وتعالى ليس لنا ان نقسم بآبائنا ولا بأمهاتنا لان القسم تعظيم والعظمة لله وحده

قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمربن الخطاب وهو في بعض أسفاره وهو يحلف ويقول :(وأبي وأبي) فقال النبى صلى الله عليه وسلم( إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت)

اقسم الله تعالى بالعصر فقال (والعصر إن الإنسان لفى خسر) كل بني ادم من أولهم إلى آخرهم فى خيبة وخسارة مهما كثرت أموالهم وأولادهم غمسوا فى الخسران إلى آذانهم ملأت الدنيا عليهم قلوبهم ومشاعرهم فعاشوا لها وقاموا وناموا من اجلها

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه و فرق عليه شمله و لم يأته من الدنيا إلا ما قُدر له)
(والعصر إن الإنسان لفى خسر)واستثنى الله تعالى من بين هؤلاء الخاسرين قوما عاشوا الحياة وقد اتصفوا بأسباب الفلاح والنجاح الأربع فقال سبحانه
( {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} )

أول أسباب الفلاح والنجاح والنجاة الإيمان
(أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره حلوه ومره )
إيمان تجده قد وقر فى قلبك وصدقه عملك

قال الحسن رحمه الله
(ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلى ولكن ما وقر فى القلب وصدقه العمل وان قوما غرتهم الامانى حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنه لهم وقالوا نحن نحسن الظن بالله وكذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل)
نجا من خسارة الدنيا والآخرة من امن بالله وعمل صالحا

قال الله تعالى
( {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} )
وفى السورة التى معنا يقول الله تعالى ( {إن الإنسان لفى خسر إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ) إلا الذين امنوا وصلوا وصاموا وتصدقوا وتراحموا وتعاطفوا وتصافوا وتصارحوا وتسامحوا وتحابوا وتوادوا واخلصوا فيما بينهم وبين ربهم سبحانه وتعالى وجائت أعمالهم موافقة لما كان عليها النبى صلى الله عليه وسلم

وهذا ما زرعه النبى صلى الله عليه وسلم فى القلوب المسلمة
إيمان بالله وعمل خالص لوجه الله موافق لهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا قوله
( «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاغْدُوَا وَرَوِّحُوا ، وَشَيْئًا مِنْ الدُّلْجَةِ وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا» )

يقول أبو أيوب رضي الله عنه عرض أعرابي لرسول الله صلى الله عليه و سلم وهو في سفر فأخذ بخطام ناقته أو بزمامها ثم قال يا رسول الله أو يا محمد أخبرني بما يقربني من الجنة ويباعدني من النار

قال ابو ايوب فكف النبي صلى الله عليه و سلم عنه ثم نظر في أصحابه فقال لقد وفق هذا أو لقد هدي هذا
ثم التفت اليه النبى صلى الله عليه و سلم فقال كيف قلت؟
قال يا رسول الله أخبرني بما يقربني من الجنة ويباعدني من النار فقال النبي صلى الله عليه و سلم تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم دع الناقة

وعن البراء رضي الله تعالى عنه قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال
( دلني على عمل يدخلني الجنة
فقال صلى الله عليه وسلم أطعم الجائع واسق الظمآن وأمر بالمعروف وانه عن المنكر فإن لم تطق فكف لسانك إلا من خير )

وعند مسلم قال صلى الله عليه وسلم ( تكف شرك عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك )

قال جابر رضي الله عنه
خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا أيها الناس توبوا إلى الله قبل أن تموتوا وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا
وصلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له وكثرة الصدقة في السر والعلانية ترزقوا وتنصروا وتجبروا)
نسال الله تعالى ان يهدينا جميعا لصالح الأعمال

الخطبة الثانية
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون أحباب رسول الله صلى الله عليه و سلم هكذا جائت سورة العصر لترسم للناس سبل السلامة والنجاة من الخسران الذى غرق فيه الناس الى آذانهم

وذلك فى أمور أربع
فى الإيمان بالله وفى العمل الصالح الخالص لوجه الله الموافق لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم فى أمرين آخرين هما التواصى بالحق والتواصى بالصبر

قال الله تعالى ( {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} )

تعنى أن يعيش المسلم مرآة لأخيه المسلم يعلمه الخير وينمى فيه المعروف ويثنى على ما حسن من قوله وعمله ويبصره بما فيه من التقصير وما عنده من العيوب والخلل يبتغى بسعيه ونصحه وجه الله تعالى ويرجوا ان يكون المسلمون على خير حال

وهذا إشارة الى القطب الأعظم فى دين الله والذى لأجله فضلت امة محمد صلى الله عليه و سلم على سائر الأمم وهو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
( {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} )

هذه هى صفة المؤمن يسعد بالخير يراه فى نفسه وفى الناس يتألم للشر إن أصابه أو أصاب الناس فيسعى بصدقه ونصحه يصلح ما فسد من حاله وحال الناس
قال صلى الله عليه وسلم انصر أخاك ظالما أو مظلوما قالوا يا رسول الله عرفنا كيف ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما قال أن تكفه عن ظلمه فذاك نصره

وبهذا تتحقق سبل النجاة من الخسران التى اشار الله تعالى اليها فى قوله
( {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} )