(8) استشراف المستقبل
محمد هشام راغب
ماذا نتوقع في الأسابيع القليلة القادمة من وباء كورونا؟
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة - أحداث عالمية وقضايا سياسية -
ماذا نتوقع في الأسابيع القليلة القادمة من وباء كورونا؟
إن محاولة استشراف المستقبل وقراءة مقدماته مبكرا، ليس رجما بالغيب، بل ليس من مصطلح الغيب الشرعي أصلا، وإنما هذا من المعارف البشرية القديمة، وكثير من أحداث السيرة النبوية المطهرة فيها استشراف وتقدير مبكر لخطوات الخصوم.
انظر مثلا في عودته صلى الله عليه وسلم من رحلة الطائف، واستشرافه لموقف قريش، مما جعله يختار الدخول إلى مكة في جوار المطعم بن عدي المشرك، وانظر إلى استشرافه ردة فعل قريش إذا عرفوا نيته على الهجرة، وكيف دبر ترتيبات الهجرة وتفاصيلها في غاية الإحكام والتكتم. ولا شك أن قول الحق تبارك وتعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) يحمل في طياته هذا الاستشراف لما هو قادم، والتهيؤ له.
لقد أصبحت أدوات القياس والمسوح واستطلاعات الرأي ودراسات تقدير الموقف -في عصرنا الحاضر- من العلوم الدقيقة التي تبنى عليها خطط ومشروعات وآفاق.
واستشراف المستقبل أمر بديهي وفطري، بل ومعتاد على مستوى الأفراد والأمم. فكل منا ربما يجهز لأولاده ملابس الشتاء قبل قدومه، ومستلزمات الدراسة قبل بدأها باسابيع، وربما اختار مدرسة لولده قبل أن يدخل عالم المدرسة بسنة أو سنتين، وكانوا زمان يشترون بعض جهاز العروس وهي ما زالت في اللفة.
والدول تبني الموازنة العامة بتقدير الإيرادات والمصروفات لعام قادم، وبعضها يضع خططا خمسية وعشرية، وبعضها لعشرين سنة قادمة... وهكذا.
لذلك من الرشد لنا كأفراد ودول أن نجتهد في استشراف المستقبل القريب في ظل هذا الوباء الكاسح.
فعلى المستوي الشخصي، كل منا يقدر حاله بعد شهر من الآن (مثلا في آخر إبريل) وبعد ثلاثة أشهر وبعد سنة. وكذلك بالنسبة للمؤسسات والهيئات والكيانات والجمعيات المختلفة، وهذا الاستشراف ضروري لنتلمس مواقع أقدامنا، ولا نمضي بشكل عشوائي، كل يوم بيومه.
وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن ما نجتهد في تقديره واستشرافه سيقع ولابد، بل قد يقع نقيضه، فالعوامل المؤثرة في الأحداث لا يمكن الإحاطة بها، ووباء كورونا نفسه أكبر شاهد على ذلك. ومع هذا فلابد أن نستفرغ الطاقة في هذا السعي بالأسباب المتاحة، ثم الأمور ستسير حتما بمقادير الله تبارك وتعالى.
الأسابيع القليلة القادمة:
يكاد يجمع علماء الصحة شرقا وغربا أن ذروة الوباء لم تأت بعد، وأن الأمور ستسوء قبل أن تتحسن، وقد انحازت مؤخرا معظم الحكومات – مكرهة – إلى الإصغاء لرأي العلماء ذوي الاختصاص، وحسمت خيارها بين المحافظة على صحة وحياة شعوبها، وبين المحافظة على اقتصاد البلاد، فاختار بعضها الأولى بعد تردد وتأخر ثبت أنه باهظ التكلفة، واختار آخرون الانتظار لعل قرصة الجوع والاقتصاد تغري الناس بالخيار الثاني والتضحية بالناس لإنقاذ الاقتصاد!
الشبكات الاجتماعية التي تنقل المرض بين الأفراد، شبكات في غاية التعقيد. فقد يصاب شخص في روسيا مثلا، بسبب شخص مصاب في إفريقيا، وقد يؤدي طرد أو بضاعة قادمة من الهند لإصابات في البرازيل، وهكذا. هذه الشبكات المعقدة (وهي علم قائم بذاته، اسمه علم الشبكات الاجتماعية) تعني فيما تعني أن الدول سينتشر فيها الوباء في أوقات ومعدلات مختلفة.
وعلى سبيل المثال تبين أن قرية إيشغل النمساوية النائية في أعلي جبال الألب، ويرتادها محبو التزلج على الجليد، تبين هذا الأسبوع فقط أنها كانت بؤرة خطيرة لتصدير فيروس كورونا إلى أيسلنده والنرويج والدنمارك والسويد وألمانيا، حتى قالت النرويج إن ٤٠٪ من الإصابات في البلاد نشأت في النمسا من تلك القرية النائية .
إذن قد تتأخر بعض الدول في تفشي الوباء فيها لأسباب يصعب حصرها أو توقعها، لكن ما إن ينتشر الوباء في بلد تكاد تزداد وتيرته وعنفه بنفس النمط، ولذلك يمكن توقع ما وقع ويقع حاليا في إيطاليا وإسبانيا أن يتكرر بنفس النمط في بريطانيا وسويسرا وفرنسا خلال الأيام القادمة، وكأنك ترى نفس السيناريو يتكرر لكن بإزاحة زمنية قدرها أسبوع أو اثنان أو ثلاثة .. وهكذا.
يمكن لدول كثيرة الآن أن ترى صورة مستقبلها فيما يقع في إيطاليا وإسبانيا ونيويورك لكن بعد أسبوع أو أسابيع. سيختلف الأمر من دولة لدولة، بحسب سرعة الاستجابة وحزم إجراءات منع التجمعات ومستوى منظومة الرعاية الطبية. وعليه فيمكن توقع استمرار الأزمة الحالية على الأقل لبضعة شهور إلا أن يشاء الله أمرا آخر.
ثم تأتي مرحلة تالية، فعند تحسن الوضع في دولة ما، فقد يغريها هذا بتخفيف القيود الخانقة لاقتصادها، وقد تبدأ بفتح أبوابها للرحلات الدولية، مما قد يعيد الكرة مرة أخرى في موجة ثانية من تفشي الفيروس.
الحالة الاقتصادية ستكون ضاغطة، وهناك توقعات كثيرة بأن تبلغ نسبة البطالة في الدول المتقدمة أكثر من ٢٠٪ خلال الشهر القادم، ثم قد ترتفع لأبعد من هذا في مايو ويونيو. هذه الضغوط قد تجعل بعض الأنظمة الحاكمة تتراخى حتى تبدأ عجلة الاقتصاد في الحركة مرة أخرى، وهو مكمن خطر واضح.
إذا صح هذا التوقع، فماذا يعني لنا؟
أولا: كأفراد
أن نقتصد قدر الاستطاعة في نفقاتنا، وأن نتهيأ لهذا من الآن، وأن نفكر ونتشاور ونسعى من أجل إيجاد بدائل إذا فقدنا وظائفنا أو مصادر دخلنا الحالية. ويعني أيضا أن نسبق الإجراءات الحكومية بخطوة أو اثنتين، في أخذ كل أسباب الاحتراز التي يوصي بها الأطباء والجهات المختصة، فإن المستشفيات والكوادر الطبية ستعجز عن سد حاجة أكثر المجتمعات، فعلى أقل تقدير يكون تأخير الإصابة خيرا من تعجيلها، أو كما يقولون "تسطيح منحنى الإصابات flattening the curve" فبدلا من أن يندفع ألف مصاب للمستشفيات في أسبوع واحد، فيعجز المستشفى، يمكن أن يتم علاجهم على أسبوعين إذا تأخرت إصابة نصفهم .. وهكذا.
وثانيا: كعائلات
يعني أن بقاء كثيرين منهم داخل البيت سيمتد لشهور قليلة، ومن عندهم أولاد في المدارس أو الجامعات، فيتوقعون لدراستهم أن يستمر تعليقها لنهاية العام الدراسي على الأقل، وأن كل دولة ستحاول إيجاد حلول لامتحانات آخر العام، خاصة للشهادات العامة ولمن في سنوات التخرج من الجامعة.
وهذا كله سيجعل ترتيب البيوت وتنظيمها مسألة مهمة بحيث تلتئم الأسرة على نسق يفيدها ويزيد من روابطها وينفعها في هذه الظروف الاستثنائية، وفي هذا كلام يحتاج لتفصيل أكثر. ولعلها فرصة مواتية لمزيد من التحام الأسرة وتقوية روابطها، وعدم عيش كل فرد فيها في جزر منعزلة، والمسئولية هنا على الأبوين كبيرة، والمردود سيكون عظيما.
وثالثا: كهيئات ومؤسسات وكيانات
يعني أن تفكر في هذا التغيير الهائل الذي أحدثه وباء كورونا، من الفرد إلى إعادة تشكيل النظام العالمي. هذه التغيرات لابد وأن يكون لها علاقة بكل مؤسسة بصرف النظر عن نشاطها ومجالاته. هذا الحدث العاصف يتطلب إعادة تموضع ومقاربات مختلفة سواء كانت مؤسسات تعليمية أو سياسية أو بحثية .. أو تجارية.
الفجوة هائلة في مستوى الرعاية الصحية بين الدول الغنية والفقيرة، وبين الدول الحرة والمستبدة، ومع ذلك فلنا أيضا أن نتوقع لطف الله تعالى مع الدول الفقيرة والضعيفة، فهذه سنته سبحانه أن يكون البلاء على قدر التحمل، (والبرد على قدر الغطاء)، لكن إذا قصرنا وتراخينا وتواكلنا وتركنا الأخذ بالأسباب المتاحة، فنخشى أن يقع ما لا تحمد عقباه.
اللهم سلم سلم ..