ليس لها من دون الله كاشفة!
تاهت أمة الإسلام وفقدت مكانتها الحضارية والقيادية حين انشغلت بفجوة ضخمة صُنعت لها في تصوراتها وواقع حياتها، ففصلت بين الروح والمادة، وأحدثت شقاقاً بين العمل والعبادة، وذهبت الجهود في مناقشات وخلافات وجدل دون عمل أو ثمرة.
- التصنيفات: الواقع المعاصر - أحداث عالمية وقضايا سياسية -
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد:
طُبعَت الحياة الدنيا على كدر ومنغصات تشوب نعيمها، وتفسد لذائذها، ولذلك تدرك سحائبُ الهمومِ حتى أكثر الناس رفاهيةً وثراءً، ولربما سعد الفقير المعدم بالقليل الذي لديه، وحمد المريض خالقه على بقايا صحته، بينما يشقى صاحب المال الكثيـر، ويتنغص ذو الجاه العريض، ويأسى مالك السلطة المديدة، ويتكدر من كانت صحته سابغة، والأمر لله من قبل ومن بعد.
وبعيداً عن المسائل الفردية تُبتلى المجتمعات والدول بمصائب عامة في شؤونها السياسية والاقتصادية والصحية والتنموية والعسكرية والثقافية وغيرها، ومن ذلك سوء التدبير، وإسناد الأمر إلى غير ذي أهلية أو استحقاق، والنكسات المتوالية، والفشل المتراكم، والأوبئة، والفساد المستشري، وتشويه الحقائق، وإضاعة المال، وتعميم نماذج التفاهة، والحروب العبثية، إلى قائمة تطول من المحن العامة، والفتن التي تنقض عرى الدين، وتفسد جمال الدنيا، وتفيء بالحليم إلى الحيرة أو العجز.
ويتفاوت تعامل الناس والمجتمعات مع هذه الوقائع؛ فمِن غارق في بحار الماديات ظانّاً أن الخلاص فيها وحدها دون اعتبار لغيرها، ومن مغرور بالتواكل معتقداً أن فعل الأسباب ليس من العبادة واليقين في شيء، والمنهج الشرعي يجمع بين فعل الأسباب الصحيحة بطريقة محكمة، خلال توقيت مناسب وأحوال ملائمة مع التوكل على الله، وتعليق القلوب به، واللجوء إليه في الضراء والسراء، ودون إخلال بالأحكام الشرعية الثابتة.
وإنما تاهت أمة الإسلام وفقدت مكانتها الحضارية والقيادية حين انشغلت بفجوة ضخمة صُنعت لها في تصوراتها وواقع حياتها، ففصلت بين الروح والمادة، وأحدثت شقاقاً بين العمل والعبادة، وذهبت الجهود في مناقشات وخلافات وجدل دون عمل أو ثمرة، مع أن الدنيا في مفاهيمنا الشرعية الواردة في القرآن والسنة رديف للآخرة وطـريق إليها، فمن نصح وأحسن في الأولى فاز في الثانية، وليس من شرط الحصول على إحداهما إهمال الأخرى.
لأجل ذلك يبرز إصلاح التصور والفهم على أنه من أهم علاج مشكلات أمتنا، فإذا وعى الناس والمجتمعات المفاهيم الشرعية كما أنزلها الله وأرادها ووضحها نبيه صلى الله عليه وسلم ، وليس كما يسوقها المبطلون ويظهرها أهل التحريف الباطل والتأويل المغرض؛ فحينها ستزول إشكالات كبيرة، وتنفتح مسارات مضيئة وسط الظلام، ويبصر الناس الطريق على نور من الله وهدي وهُدى من شريعته وأمره.
ثم يأتي التذكير بالمسؤولية الفردية للإنسان عن نفسه، والمسؤولية الجماعية حسب الدوائر التي تقع في محيط المرء؛ فعلى الأب والأم مسؤولية، وعلى المعلم والإمام والإعلامي والخطيب مسؤولية، وهي مسؤولية في عنق المثقف والتاجر والمفكر والمهني، ولسوف يُسأل عنها القائد والقاضي والزعيم مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على روايته والمشهور على الألسنة: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته».
كما أنه من المسؤولية أن يؤدي المـرء ما عليه من واجبات، ويطالب بما له أو لمجتمعه من استحقاقات، ويسترجع الحقوق العامة من مغتصبيها حتى تستقيم الأمور على سنن واضح وقسطاس مستقيم لا عوج فيه ولا جور، وستكتمل منظومة الرشاد والعدل والتغيير للأفضل إذا استشعر كل مسلم مسؤوليته الشخصية عن الأمر بالمعروف حسب الوسع أيّاً كان هذا المعروف ومجاله والمعنيون به، وأدى كل أحد واجبه تجاه النهي عن المنكر قدر المستطاع مهما كان صنفه وقوة فاعليه أو سطوة المنافحين عنه.
وبعد أن يصلح الناس اعتقادهم وتصورهم للحقائق، ويحسنوا العمل في خاصة أنفسهم وما استحفظوا عليه أو استعملوا فيه، ويطالبوا بما لهم من حقوق، ويدفعوا عن أنفسهم ومجتمعهم وبلادهم الشرور، ويستفرغوا السبل المتاحة كلها للعمل والتصحيح دون تراخٍ أو تهاونٍ؛ وإنما بإتقان يحبه الله كما أخبر الرسول الخاتم عليه الصلاة والسلام، فحينها يكونون قد أدَّوا ما عليهم، ولهم بعد ذاك أن يتعبدوا لمولاهم بالتوكل عليه، واليقين بأمره ونصره، ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله وتأييده وفرجه الذي يأتي به الله من حيث لا نحتسب.
فإذا تولى ربنا الأمر فلا مناص من كشف الغمة، ورفع البلاء، رحمة بالخلق، وكرامة للصالحين المصلحين من عباده ممن سعى وقضى نحبه أو ينتظر، فكل بلية عامة حين تأزف وتسيطر فلن يكون لها من دون الله كاشفة، فهو سبحانه بقدرته قضاها، فتغير وجه الدنيا بسببها خلال طرفة عين جعلت القوى جميعها في حال عجز وشلل أمام أمره، وهو سبحانه القادر على رفعها بكلمة ومنه وتدبير، وسبحان من كل يوم هو في شأن.
وفي القرآن الحكيم تسلية وتصبير وإيمان إذ يقول الله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ 22 لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22 - 23]، وفي موضع آخر يخبرنا الله الرحيم الرؤوف عن سر من أسرار الابتلاء بقوله سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْـخَوْفِ وَالْـجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ 155 الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 155 - 156].
ومع وضوح الدلالة من هذه الآية الكريمة فما يزال بعض المخاطَبين سادرين في سكرة الضلالة، ويتيهون في الأرض صوب دول أو منظمات أو إجراءات بحثاً عن نجاة أو إسناد، وما علموا أن البداية تكون بعظيم التوبة وحسن الأوبة والرجوع لله الكبير المتعال، وهذا القرار هو منطلق أيِّ إصلاح حقيقي لأمة أراد الله لها أن تكون خير أمة أخرجت للناس، وبعد اتخاذه سيكون أيُّ صنيع موفقاً إذا وقع على مقتضيات المصلحة الشرعية حسب فقه السياسة وحكمة الإدارة.
كما أن القرآن العزيز يجزم لنا بأن فساد حياة الناس والنقص الحادث على الأرض إنما هو بسبب ذنوب الخلائق وما فعلوه من أخطاء واكتسبوه من آثام، وما يزال بعض عُمي البصائر يكابرون مع أن هذه الحقيقة واردة في نص قرآني ثابت وواضح، وشواهده في التاريخ والحاضر معروفة متكررة، بَيْدَ أن بعض الناس يظن أن الانغماس في الماديات رقيٌّ وسموٌّ عقليٌّ، وما أبخس العقل حين ينسى خالقه الذي يقول: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، وفي موضــع آخر يقـول جل في علاه: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: ٣٠].
إن تدبير الله سبحانه وتعالى منح القوة للصابرين المرابطين من عباده فأخرجوا المحتل وطردوه، وأعطى العلم والفهم لأناس فاستنارت عقولهم وأضاؤوا لغيرهم الدروب، وفتح على آخرين سبل التجربة والإبداع فأنتجوا للبشرية ما رفع عنها الأوبئة، وحماها من الأمراض، أو وهبها القدرة على التنمية والإنجاز في شؤون عديدة يُصان بها الدين والنفس والأرض والعرض والمال والعقل، ووفَّق المخلصين لحسن الإدارة والتوجيه فسعدت بهم أقوامهم وبقاعهم وجوارهم.
فكم نحن بحاجة تزيد ولا تنقص، وتستمر ولا تنقطع، للقرب من مولانا القوي العليم، والاجتهاد في بلوغ مراضيه، وعمـل ما يحـب، واجتنـاب ما يبغض، فبيـده - سبحانه - الأمر والحكم، وإليه المرجع والمآل، ونحن مع كافة الخلائق تحت سلطته في الدنيا وإن نازعه بعض البشر شيئاً منها، بَيْدَ أننا سنكون في يوم القيامة تحت سلطته المطلقة التي لا يجرؤ أحد على جواب السؤال لمن الملك اليوم بغير التسليم أنه لله رب العالمين وحده لا شريك له ولاندَّ ولا منازعَ.