متغيرات خطيرة.. ثلاثية ثوابت الجغرافيا والاستعمار والصراع الدولي
عادت دول أمريكا الجنوبية إلى وضعية الاضطراب مجدداًً
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
عادت دول أمريكا الجنوبية إلى وضعية الاضطراب مجدداًً. وهو المعنى نفسه حين يقال: إن الولايات المتحدة غيرت سـياستها التي اعتمدتها ما بعـد نهـاية الحرب الباردة، وعادت مجدداً إلى التدخل السافر والمباشر وإثارة الاضطرابات وإنهاء الاستقرار وإسقاط الحكومات المختارة شعبياً في دول قارة أمريكا الجنوبية.
هذا التغيير في السلوك الأمريكي يأتي على خلفية تراجعاتها الدولية أمام الصين وروسيا وأوروبا، وفي داخل دول أمريكا الجنوبية أيضاً.
وسلوك الدول مَثَلُه مَثَل سلوك الجيوش خلال الحروب؛ فحين تكون الدولة في وضعية تراجُع نفوذِها في المناطق الأبعد جغرافياً، لا يكون أمامها إلا النظر للوراء لإنهاء (الاختراقات) التي حدثت في (قواعدها الخلفيـة) خلال مرحلة هجومها.
والولايات المتحدة ترى في قـارة أمريكـا الجنوبية حديقتها الخلفية، وإزاء تراجعاتها الدولية في السنوات الأخيرة عادت إلى إستراتيجية إحكام السطوة والسيطرة على الجار الأقرب. عادت الولايات المتحدة بقوة لوأد التجارب الديمقراطية التي كانت قد وافقت على قيامها في دول أمريكا الجنوبية، بعدما أظهرت تلك الدول تصاعداً في استقلالية قرارها وصارت تطور قدراتها وتعزز علاقاتها مع الدول الكبرى في العالم على حساب ما تراه الولايات المتحدة مصالح ثابتة لها وجانباً مهماً من جوانب أمنها القومي.
وذلك ما يطـرح البُعدين الثاني والثالث في القواعد والثوابت الحاكمة للعلاقات بين الولايات المتحدة ودول أمريكا الجنوبية، تاريخياً.
ففي علاقة الولايات المتحدة أو إستراتيجيتها الشاملة تجاه دول أمريكا الجنوبية (ويضاف إليها المكسيك وكندا أيضاً)، ضوابط وثوابت ثلاثة. ويمكن القول - من وجهة نظر دول أمريكا الجنوبية -: لعنات ثلاث: الجغرافيا، والاستعمار، والصراع الدولي.
كانت الجغرافيا، وما تزال، هي الحاكم الأول؛ فلا أمريكا الجنوبية سترحل ولا المسافات ستتغير بينها والولايات المتحدة وآخرون ما يزالون يرونهما قارتين في قارة واحدة: الأولى شمالية (قارة أمريكا الشمالية) والثانية جنوبية (أمريكا الجنوبية).
تلك الجغـرافيا كانت وراء صناعة التاريخ كما هو الحال في كل أرجاء المعمورة. لقد انعكس ميلاد وتطور قوة الولايات المتحدة على دورها الاستعماري في دول الجار الجنوبي الأقرب باكراً.
والاستعمار هو الحاكم الثاني؛ فالولايات المتحدة رأت وأعلنت منذ عام 1823م أن دول أمريكا الجنوبية لها وليست لغيرها من الدول الكبرى في العالم. وهكذا كان الصراع الدولي ومقتضياته (الحاكم الثالث في المعادلة)؛ إذ قامت الولايات المتحدة بكـل ما يمكنها القيام به لمنع نفوذ غيرها في قارة أمريكا الجنوبية.
وتلك الضـوابط الثـلاثه ذاتهـا هي ما دفعـت دول أمريكا الجنوبية للبحث عن حليف لتقوى به في مواجهة الجار المستعمر، حتى جاز القول: إن مقياس توازنات الوضع الدولي (قوة أمريكـا وقوة الأطراف الدولية الأخرى) ينعكس دوماً على علاقات وأحـوال وأوضاع دول أمريكا الجنوبية في علاقاتها بالولايات المتحدة.
لقد دخلت الولايات المتحدة حالة صراع مع الدول الأوروبية صاحبة النفوذ والاستعمار الأول لأمريكا الجنوبية (ولأمريكا الشمالية نفسها) حتى أضعفت دورها ونفوذها. وبعد ظهور الاتحاد السوفييتي تكرر الأمر خلال الحرب الباردة، والآن يتكرر بعد صعود الصين وعودة قوة روسيا لتنامي تأثيرها الدولي، وكذا الحال مع أوروبا.
وفي قراءة الأوضاع الراهنة يمكن القول بأن الولايات المتحدة دخلت الآن في صراع مع عدة أقطاب دولية على أرض دول أمريكا الجنوبية. وتلك حالة جديدة مختلفة عن الصراعات الأمريكية السابقة في دول القارة؛ إذ جرت الصراعات سابقاً ضد طرف واحد (أوروبا ثم روسيا)، والآن يجري الصراع الأمريكي ضد نفوذ الصين وروسيا وأوروبا دفعة واحدة، كما يجري أيضاً بعد أن حققت دول في أمريكا الجنوبية معالم قوة غير مسبوقة لها على الصعد الاقتصادية والعسكرية على نحو مَّا، وهو ما يفسر ضراوة الصراع واتساع مساحته إلى عموم دول القارة.
الولايات المتحدة الآن في وضع اشتباك إستراتيجي مع أو داخل دول عديدة من دول أمريكا الجنوبية؛ إذ تجري الآن عملية للانقلاب في فنزويلا وَفْقَ أسلوب الفوضى الخلاقة. وهي إن لم تنجح حتى الآن، فقد تمكنت خلال إنفاذ خططها من إجبار الرئيس البوليفي إيفو موراليس على مغادرة السلطة بل مغادرة البلاد، غير أن الأهم هو أن تلكما التجربتين الجاريتين الآن، سبقتهما تجارب أخرى حققت خلالها الولايات المتحدة أهدافها، وإن لم تصل فيها الأمور حدَّ التمردات الشعبية الواسعة. لقد جرى تغيير الحكومات اليسارية عبر أدوات الانتخاب كما حـدث في الأرجنتين عـام 2015م أو عبر تصويتات داخل الأجهزة التشريعية على اتهام رؤساء بالفساد كما جرى في البرازيل في عام 2016م... إلخ، وهو ما يشير إلى عوامل أخرى تتعلق بنمط ممارسات الرؤساء اليساريين. ولعل أهم تلك المؤشرات تتعلق بحكم إيفو موراليس في بوليفيا؛ إذ كان مرشحاً لدورة رابعة حين أطيح به.
فإلى أين تذهب الصراعات الجارية في دول أمريكا الجنوبية؟ وهل ثمة احتمال أن تُمنَى الولايات المتحدة هذه المرة بخسارة تؤسس لتغيير التوازن الإستراتيجي مع دول أمريكـا الجنوبية لأول مرة في تاريخ تلك العلاقات، أم أن الولايات المتحدة ستنجح في إعادة الأوضاع في تلك الدول وَفْق مبدأ مونرو، وبالنظر لارتكاب الرؤساء والحكومات اليسارية أخطاء قاتلة؟
إستراتيجية الولايات المتحدة تجاه أمريكا الجنوبية:
يستخدم مصطلح (الحديقة الخلفية) وبعض الناس يقولون: (الحظيرة الخلفية)؛ للتعبير عن الرؤية الأمريكية لنمط علاقاتها ونظرتها لدول قارة أمريكا الجنوبية.
وواقع الحال أن الولايات المتحدة حددت رؤيتها الإستراتيجية بشأن نفوذها ودورها في دول أمريكا الجنوبية منذ عام 1823م وَفْقَ ما يعرف بمبدأ مونرو، الذي حدد رؤية عامة تقوم على التدخل في إدارة تلك الدول لمنع استقلال قرارها، وعلى اعتبار السيطرة علـى تلك الـدول إحدى ثوابت الأمن القـومي الأمـريكي. لقد عملت الولايات المتحـدة منذ هـذا التاريخ بشكل إستراتيجي على بقاء دول أمريكا الجنوبية مجرد مناطق جغرافية خاضعة لها، لتأمين إمداد اقتصادها بالمواد الخام ولجعل سكان تلك الدول أسواقاً مفتوحة لتصريف منتجاتها، كما حشدت الولايات المتحدة جهودها في مواجهة تمدد أي دولة كبرى أخرى لبناء قواعد عسكرية لها في تلك الدول سواء كانت دول أوروبا أو روسيا أو الصين.
ووَفْقاً لهذا المبدأ وتلك الإسترتيجية دخلت الولايات المتحدة في صراعات وأزمات مع نظم الحكم في أمريكا الجنوبية ومع كل دولة كبرى حاولت اختراق أمريكا الجنوبية.
وقفت الولايات المتحدة ضد كل نظام حكـم في تلك الدول، حاول تحقيـق اسـتقلالية القـرار عن الدور والنفوذ الأمريكي، ولم تنجُ دولة جنوبية منها من تدخُّلٍ أمريكي بتدبير الانقلابات أو مساندة الطغاة من الحكام من كوبا إلى فنزويلا إلى تشيلي إلى الأرجنتين إلى بوليفيا إلى البرازيل إلى أوروغواي إلى الإكوادور... إلخ، وقد وصل التدخل الأمريكي حدَّ استخدام القوة العسكرية والاحتلال المباشر، كما حدث في جزيرة غرانادا عام 1983م، وفي غزو بنما التي جرى احتلالها عام 1989م واعتقال رئيسها وسجنه في الولايات المتحدة بتهمة تهريب المخدرات إليها.
كما دخلت الولايات في أزمات مع الدول الكبرى التي حاولت إيجاد موطىء قدم لمصالحها في دول أمريكا الجنوبية، كان أهمها وأخطرها أزمة كوبا في عام 1962م، التي وصلت خلالها الولايات المتحـدة والاتحاد السوفييتي حدَّ التعبئة النووية.
وذلك ما دفـع الحركة الوطنية التحررية في أمريكا الجنوبية للنظر دوماً في المقابل إلى الولايات المتحدة على أنها عدو إستراتيجي بالمعنى الشامل، وأن تسعى دوماً إلى بناء علاقات إستراتيجية وسياسية وعسكرية مع الأقطاب الدولية الأخرى المتصارعة مع الولايات المتحدة. بل كان ذلك هو العامل الحاسم في بناء كثير من تلك الحـركات السياسية منذ بدايتها على حمل السلاح وإطلاق حروب تحرير عسكرية ضد الطغاة المدعومين أمريكاً.
البناء الفكري والإستراتيجي للحركات التحررية في أمريكا الجنوبية:
على الطرف المقابل، وبحكم الثلاثية الحاكمة للعلاقات الإستراتيجية، نظرت الحركات التحررية في دول أمريكا الجنوبية بمختلف منابعها الفكرية وإستراتيجياتها للولايات المتحدة على أنها عدو إستراتيجي شامل، وسعت دوماً إلى الالتقاء والتعاون مع الدول الكبرى الأخرى في العالم، القادرة على مساندة الاستقلال والتنمية في دول أمريكا اللاتينية.
وإذا كانت الـولايات المتحدة اعتمدت مبدأ مونرو إطاراً عامّاً يحكم رؤيتها وحركتها، فإن القائد التاريخي سيمون بوليفار (1783 - 1830م) قد مثَّل بتجربته وأفكاره ومواقفه ودوره التاريخي، الفكرة والإستراتيجية والنموذج المقابل لمبدأ مونرو؛ إذ شكَّل المثَل الأعلى الملهِم للحركات الوطنية في دول أمريكا اللاتينية. لقد جرت كل التجارب العسكرية والديمقراطية التي شهدتها وعاشتها دول أمريكا اللاتينية، استلهاماً لتجربة سيمون بوليفار، الذي لعب دوراً رئيسيّاً في تحرير كثير من دول أمريكا اللاتينية حين كانت واقعة تحت الاحتلال الإسباني منذ القرن السادس عشر، وأهمها كولومبيا وفنزويلا والإكوادور وبيرو وبوليفيا وبنما.
غير أن حركات التحرير تلك، قـد صبغت حركتها بالأفكار الاشتراكية خلال الحرب الباردة، أو بعد ظهور الاتحاد السوفييتي قوةً دوليةً في مواجهة الولايات المتحدة. وكانت البداية الباكرة لتجربة كوبا الاشتراكية النموذج الملهم لجميع تلك الحركات.
ويمكن تلخيص حالة الحركة التحررية في مرتكزات ثلاثة: الأول هو السعي للتحرر وبناء الاستقلال. والثاني هو تحقيق العدل الاجتماعي بحكم أهوال الفقر الناتج عن الحكم الديكتاتوري والاستنزاف الاستعماري للثروات. والثالث هو بناء مظلة وغطاء دولي في مواجهة الولايات المتحدة، وينظر إليه على أنه شرط لازم.
وقد مرت التجارب التحـررية الوطنيـة لدول أمريكا الجنوبية بمرحلتين، كان عنوان الأولى (بناء حركات التحرير المسلحة للوصول إلى السلطة) ولم يسجل النجاح الكامل خلالها إلا في التجربة الكوبية رغم انتشار تلك الحركات في معظم دول القارة وطيل سنوات نشاطها. والثانية كان عنوانها بناء التجارب الديمقراطية والسعي لإحداث التنمية الاقتصادية. وخلالها تحققت نجاحات واسعة.
والآن تعيش تلك الدول مرحلة الاضطـرابات وانتكاس التجارب الديمقراطية وتعميم حالات الصراع بعد عودة الولايات المتحدة لسياساتها التدخلية في تلك الدول على نحو سافر وحادٍّ.
مرحلة الثورات المسلحة:
أفاقت دول أمريكا الجنوبية من حياة شعوبها البدائية، لتجد نفسها دولاً مستعمَرة من دول أوروبا. وهي من بَعْدُ وجدت نفسها واقعة تحت الاحتلال أو النفوذ الأمريكي. وإذا كان الاستعمار الأوروبي قد تميز بنمطه الاستيطاني وما يشمله من تغيير البنى الحضارية، وهو ما أفقد تلك الشعوب ملامحها الحضارية الخاصة (وهو أمر شمل القارة الشمالية التي شهدت إبادة حضارية شاملة للسكان الأصليين)؛ فقد تميز الاحتلال الأمريكي باستخدام القوة العسكرية الساحقة وتدبير الانقلابات العسكرية ودعم حكم الطغاة.
ولدت الحركات الوطنية الحديثة في أمريكا الجنوبية، معتمدة نمط الكفاح المسلح بما عكس شدة وقسوة الصراع. وإذا كان (سيمون بوليفار) قد اختط هذا الطريق في مواجهة الاحتلال الأوروبي؛ فلعل أول وأهم الحركات الوطنية التي دشنت نصراً مهمّاً بالقوة العسكرية تحت رايات الفكر الاشتراكي في مواجهة النفوذ الأمريكي، هي التجربة الكوبية التي توجت بسيطرة فيدل كاسترو وأرنستو تشي جيفارا على الحكم في عام 1959م. لقد استطاعت مجموعات الثوار الاشتراكيين المسلحين إسقاط الدكتاتور باتيستا بعد سنتين من حرب التحرير، رغم الدعم الأمريكي المباشر وغير المحدود له، وهو ما جعلها النموذج الذي تطلع الجميع لتكراره في بلدانهم.
وعقب نجاح الثـورة الكوبية انتشر نمط الكفاح المسلح تحت رايات الاشتراكية في معظم دول القارة الجنوبية، فتشكلت الجبهة الساندينستية للتحرر الوطني في نيكاراغوا، ومنظمة أم 19 في كولومبيا، وحركة التوباماروس في الأوروغواي وجبهة فارابوندي مارتي في السلفادور وحركة الفارك في كولومبيا والدرب المضيء في البيرو... إلخ.
ولقد تزامن بناء نماذج حركات الكفاح المسلحة تلك مع اشتعال واشتداد الحرب الباردة؛ إذ تصاعد دور ونفوذ الاتحاد السوفييتي وصراعه مع الغرب ما بعد الانتصار في الحرب العالمية الثانية، وهو ما وفَّر دعماً لتلك الحركات الاشتراكية المسلحة. وفي المقابل، كانت الولايات المتحـدة هي الداعم والموجه والحامي للحكم في الدول التي استهدفت تلك الحركاتُ السيطرةَ عليها. وكانت الممـول للانقلابات العسكرية التي جرت خلال تلك الفترة. كان صراعاً ذو طابع عسكري بامتياز بين قطبي الحرب الباردة وتحت الشعارات الأيديولوجية نفسها (الليبرالية، والراسمالية، والاشتراكية)، وعلى خلفيته شهدت إفريقيا الحالة نفسها، سواء في القرن الإفريقي أو في جنوب الصحراء.
وبانتهاء الحرب الباردة تحولت الولايات المتحدة للهيمنة على دول العالم وَفْق إستراتيجيات مختلفة تعتمد السيطرة بوسائل الاقتصاد والمال والمنظمات الدولية والمعلوماتية والتغييرات المجتمعية، متخلية عن إستراتيجية الانقلابات العسكرية وحكم الدول بالقبضة الحديدية.
خففت الولايات المتحـدة قبضتها العسكرية على دول أمريكا الجنوبية، واعتمدت حالة (السماح) بتحولات ديمقراطية، كانت في أغلبها، محاولة لتغييـر نمط الهيمنة، وهي إستراتيجية لم يقتصر اعتمادها على دول تلك المنطقة، بل شمل أيضاً بلدان أوروبا الشرقية جميعها ودول إفريقيا جنوب الصحراء مجتمعة (وعلى رأسها جنوب إفريقيا)؛ إذ عمَّت موجات تسونامي هائلة من اعتماد نموذج الحكم الديمقراطي (لكن) تحت الهيمنة والتحكم الأمريكي بطبيعة الحال.
وقام هذا التغيير في الإستراتيجية الأمريكية على تقدير بانتصـار الرأسمالية وانتهاء الاشتراكية وبانفرادها بإدارة العالم، وبضـرورة تعميم النمـوذج الغربي للثقافة والإدارة بل التنمية بتفكيك الاقتصادات المركزية والحكم الشمولي في دول العالم.
مرحلة الديمقراطيات والتنمية:
سرت في دول أمريكا الجنوبية موجة متحركة متسارعة لإنهاء للحكومات العسكرية (وجميعها كانت موالية للولايات المتحدة) والتحول نحو النظم الديمقراطية. ومن النماذج الدالة على هذا التحول أن الولايات المتحدة التي تدخلت استخباراتها لإطاحة حكم الرئيس اليساري سلفادور الليندي الذي وصل إلى لحكم عبر الانتخـابات في عام 1970م؛ إذ دبرت وقادت انقـلاباً عسكرياً قتل فيه الليندي في عام 1973م، وتولى السلطة الجنرال التشيلي بينوشيه الحكم بدلاً منه، هي ذاتها من تحركت لدعم التحركات الشعبية وإنهاء حكم بينوشيه الذي صار مطارداً أمام المحاكم بعد حكم استمر حتى عام 1989م.
وشملت الموجة الديمقراطية فنزويلا؛ إذ وصل هوجو شافيز للحكم. ومن اللافت هنا أن شافيز نفسه كان قد حاول الوصول للحكم عبر انقلاب عسكري وفشل وسُجِن، ثم عاد ليترشح للانتخابات بعد هذه الموجة وفاز بنسبة عالية في عام 1999م، ليظل في الحكم حتى وفاته في عام 2013م، مسجلاً تحديه الخاص للانقلابات الأمريكية الفاشلة ضده.
وفي بوليفيا عادت الديمقراطية ووصل للحكم المرشح اليساري إيفو موراليس وظل يحكم ثلاث دورات متتالية. وفي الإكـوادور جرت انتخـابات حرة ووصل إلى الحكم المرشح اليساري رافييل كوريا.
وفي الأوروغواي تكرر المشهد ووصل إلى الحكم خوسيه موتشكا، وفي البرازيل فاز لولا دي سيلفا، لينهي حكم 5 جنرالات عسكريين حكموا لمدة 21 عاماً (1964 - 1985م).
لقد جرى هذا التغير أو الانتقال حاملاً ملامح مهمة للغاية، صارت تتحكم بمصيره من بعد:
أولها: أن تلك الموجة جاءت عقب سقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، وهو ما أنهى الدعم السوفييتي للحركات اليسارية المسلحة، بما أضعفها وجعلها تذهب في اتجاه جديد. ومعظم من فازوا في الانتخابات كانوا بالفعل هم قادة الحركات المسلحة ومن طيف اليسار نفسه الذي مثَّل المحتوى والمضمون الفكري لمعارضة الحكم الديكتاتوري السابق في مختلف بلدان أمريكا الجنوبية... كانوا هم المعارضين بالسلاح، وعند دخولهم لعبة الانتخابات صوتت الشعوب لهم.
ثانيها: أن الـولايات المتحدة كـانت داعماً لتلك التحولات؛ إذ اعتبرت أن سقوط الاتحاد السوفييتي قد فتح الباب لضعف تلك الحركات المسلحة بما يوفر الفرصة لاستيعابهم وإعادة توجيه حركاتهم من جهة، كما أنها لم تعد في حاجة لحكام عسكريين ديكتاتوريين من جهة أخرى.
باتت الـولايات المتحـدة منشغلة بإدارة مرحلـة انفرادها بإدارة الوضـع الدولـي، وهو ما تطلب تخفيف أعباء الصراعات خاصة العسكرية منها.
ثالثها: أن الانتقال الديمقراطي، لم يجرِ وَفْقَ نماذج الثورات التي هدمت أجهزة الدولة القديمة، بما يحدِث تغييراً كليّاً في موازين القوى بين المدني والعسكري، بل جرت وَفْقَ تسويات مع الجيوش التي كانت حاكمة ومتحكمة خلال مراحل الديكتاتورية، ومن ثَمَّ حافظت تلك الطغم على أوضاعها ومصالحها واستمر نفوذها ودورها في القرار الإستراتيجي للبلاد. لقد ظلت الدولة العميقة متحكمة في حدود التغيير. وإن اختلفت الترتيبات والأحوال من دولة إلى أخرى حسب درجة الاختراق الأمريكي لأجهزة الدول.
رابعها: أن تلك التجارب الديمقـراطية جاءت مصبوغة بالفكر اليساري ومتاثرة به؛ إذ لا صدقية في التعامل الديمقراطي وتداول السلطة، فرأينا حكاماً يظلون في مقاعدهم لثلاث وأربع دورات حكم، كما سرت ممارسات غير ديمقراطية وتنامت أشكال من الفساد، وكل ذلك مثَّـل أرضية لإعادة التمردات المجتمعية التي استثمرتها الولايات المتحدة.
خامسها: أن الولايات المتحدة بَنَت إستراتيجيتها في إحلال الديمقراطية على خطة إحلال الموالين لها وَفْقَ تلك الآليات؛ إلا أن كثيـراً من تلك التجـارب لم تجرِ كما أرادت؛ إذ وصل للحكم معادون لها، قاموا بإعادة الاعتبار للقرار الوطني المستقل. لقد نَحَتْ الحكومات الديمقراطية الجديدة منحى البناء والتطوير الاقتصادي وتحقيق العدل الاجتماعي وبعضها قام بأعمال تأميم لمصالح أمريكية وبتحدي شروط صندوق النقد الدولي. كما سعت تلك الحكومات للتحالف مع الدول المصارعة على النفوذ الدولي مع الولايات المتحدة. أو هي طورت تجاربها بالارتباط مع الدول الصاعدة في العالم، خاصة الصين وروسيا العائدة لدورها الدولي وأوروبا التي باتت طامحـة لتطوير دورها الدولي بعد تشكيل الاتحاد الأوروبي.
هذا الارتباط كانت لـه آثاره الإيجـابية المتمثلـة في دعم إمكانيات اقتصادات تلك الدول وتطورها السريع، غير أن هذا الارتباط كان له نتائجه السلبية أيضاً، بحكم عدم وصول اقتصادات وعوامل قوة تلك الدول الصاعدة إلى مستوىً ثابت ومستقر في التعاون الاقتصادي مع حكومات أمريكا الجنوبية، وهو ما أثَّر من بعد على التجارب التنموية لها.
ولذلك تكـاثرت العوامل الدافعة للولايات المتحدة لتغيير خططها في أمريكا الجنوبية مرة أخرى؛ خاصة بعد وصول الجمهوريين للحكم في إدارة ترامب، كما جرت ممارسات من قبل الحركات اليسارية الحاكمة أدت لسخط شعبي. لتبدأ مرحلة اضطرابات وانقسامات وتوترات في العـديد من دول أمريكا الجنوبية؛ خاصة تلك التي لم تنجح الـولايات المتحـدة في تغييـر حكامها بالتدخل والتلاعب عبر آليات الديمقراطية والانتخاب.
من الانقلابات العسكرية إلى الفوضى الخلاقة:
الحاصل أن توقعات الولايات المتحدة لمرحلة ما بعد الحرب الباردة تبددت على نحو أو آخر، حتى عاد بعض المتابعين يتحدث عن أن سقوط الاتحاد السوفييتي إنما سبق سقوط الولايات المتحدة ولم يكن عنواناً لقوتها.
والحاصل أن الولايات المتحدة وجدت نفسها عالقة بين توقعاتها بالقدرة على إدارة النظام الدولي وحدها، وبين صعود أقطاب دولية إلى درجة تهـديد معالم قوة الولايات المتحـدة بالتراجع لمرحلة أسوأ من أوضاعها عند الحرب الباردة؛ إذ تعدد الأقطاب في العالم يجعل الولايات المتحدة طرفاً من عدة أطراف، بدلاً مما كانت عليه في الحرب الباردة من طرف مقابل طرف واحد.
لقد تمكنت روسيا من العودة للساحة الدولية وقد مدت نفـوزها مجدداً إلى دول أمريكا الجنوبية كما نمت الصين اقتصادياً وعسكرياً وباتت تنشر نفوذها في آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، وكان لصعودها الاقتصادي دور كبير في تطوير اقتصادات دول أمريكا الجنوبية لتسعها في طلب إمدادات الطاقة والمواد الخام. وصارت أوروبا مؤثرة على السياسات الأمريكية في العالم وبشأن أمريكا الجنوبية حتى أن الولايات المتحدة واجهت الفيتو الأوروبي على تفكيرها في غزو فنزويلا وإسقاط حكم مادورو.
ولقد انعكست هذه الحالة الدولية على أوضاع دول أمريكا الجنوبية إيجابياً؛ إذ حقق بعضها معالم قوة ذاتية خاصة البرازيل التي أصبح اقتصادها ضمن أكبر 10 دول في العالم، وكانت أعلنت في عام 2011م أنها أصبحت الدولة السادسة في العالم. والأرجنتين التي ارتفع دخلها القومي من 307 مليارات دولار في عام 2009م إلى 7368 ملياراً في عام 2010م.
وهكذا أعادت الولايات المتحدة تغيير سياستها تجاه أمريكا الجنوبية أو عادت للتدخل وإثارة الاضطرابات وفق مبدأ مونرو.
وإذا كان عام 2013م قد شهد فوز اليسار في فنزويلا وتشيلي وكلهم من اليسار، وشهد عام 2014م فوزاً لليسار في بوليفيا والبرازيل وأوروغواي.
فقد بدأ العد التنازلي بعدها؛ إذ فاز مرشح يمين الوسط في الأرجنتين بما أنهى 12 عاماً من حكم اليسار، وشهدت البرازيل توترات وأزمـة سياسية وانتخابات وأطيح بالرئيسة اليسارية في عام 2016م، كما جرى إقصاء الرئيس البوليفي اليساري الذي استمر في الحكم منذ عام 2005م وحتى عام 2019م. وفي فنزويلا يسود الاضطراب السياسي والمجتمعي والحرب الاقتصادية لإقصاء الرئيس اليساري مادورو.
وهو ما يؤكد العودة الأمريكية لإدارة الصراعات وترتيب أوضـاع الحكـم في دول أمريكا اللاتينية على نحو مكثف وتحقيقها نجاحات واضحة؛ غير أن ثمة رؤية تتحدث عن أن التدخل الأمريكي الراهن لن يستطيع الاستمرار في تطوير دينامياته وتحقيق توترات تحقق أهدافها، بحكم تنامي دور الشعوب وفي ظل تنامي مصالح وأدوار روسيا والصين وأوروبا في تلك الدول، ومن قبلُ ومن بَعْدُ بسبب صعوبة التراجع عن استخدام الآليات الديمقراطية في إدارة تلك الدول.